تتصاعد اليوم موجة تحرّكات عمّالية في بلدان عدّة. في الولايات المتحدة، أدّت تحرّكات معلّمي القطاع العام في ولاية وست فرجينيا خلال الشهر الماضي إلى تحقيق مطالبهم الخمسة، بما فيها زيادة الأجور بنسبة 5%. وبالفعل، أغلقت كل المدارس الرسمية، ونفّذ 34 ألف معلّم إضراباً مفتوحاً سُمّي بإضراب «البيتزا»، نسبة إلى تبرّعات نقابة المعلّمين في سان فرنسيسكو بالبيتزا طوال فترة الإضراب. حالياً، وعلى غرار هذه الاحتجاجات، يتحرّك المعلّمون في ولاية أوكلاهوما. في بريطانيا، نظّمت نقابة الجامعات والمعاهد إضراباً دام 14 يوماً شاركت فيه 65 جامعة، إضافة إلى تظاهرات عدّة خلال الشهرين الماضيين، اعتراضاً على التعديلات التي تستهدف نظام تعويضات نهاية الخدمة (الجدير بالإشارة أن جرمي كوربن، رئيس حزب العمال البريطاني، وهو نقابي سابق، تم انتخابه من قبل النقابيين وليس فقط من قبل المنتسبين إلى الحزب كما جرت العادة).
المصدر: خصائص وهيكلية الحركة النقابية في لبنان 2016 – معهد البحوث والاستشارات

في فرنسا تستمرّ منذ شهر تقريباً التظاهرات الاحتجاجيّة ضدّ مشروع الإصلاح الذي ترعاه الحكومة في القطاع العام وشبكة سكك الحديد. وفي ألمانيا، أضربت نقابة الصناعات المعدنية في كانون الثاني الماضي للمطالبة برفع الأجور وتخفيض ساعات العمل من 35 إلى 28 ساعة في الأسبوع، وفي هذا الشهر بدأ موظّفو القطاع العام تحرّكاً لزيادة أجورهم بنسبة 6%. كما شهدت تونس أخيراً تظاهرات حاشدة اعتراضاً على تدني الأجور وعدم تقاضي الكثير من العمّال رواتبهم، حيث نظَّم الاتحاد العام التونسي للشغل في كانون الثاني تظاهرات عمّالية كبيرة اعتراضاً على تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد.
هذه الأخبار تتكرّر في أكثر من مكان في العالم، وقد يكون من السابق لأوانه إعطاءها صفة معيّنة، إلا أنها تبدو كبداية عودة للعمّال إلى نقاباتهم بعد هزائم كثيرة. فماذا عن عمّال لبنان؟ هل لديهم القدرة على التحرّك؟ ومن يمثّلهم في مواجهة رأس المال وقواه الضاغطة؟

معركة تصحيح الأجور مثالاً
يمكن أن تتوقع/ي- ويكون الجواب منطقياً- أن يمثّل الاتحاد العمّالي العام في لبنان، أو الاتحادات والنقابات المنضوية تحته، العمّال في القطاع الخاص، على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل مثلاً. لنتحقق من ذلك في سياق معركة تصحيح الأجور الأخيرة في عام 2012.
بقيت الأجور مجمّدة منذ عام 1996، ولم يطرأ عليها أي تعديل إلا في عام 2008 عندما أقرّت الحكومة زيادة بقيمة 200 ألف ليرة «مقطوعة». حتى عام 2011 كان مؤشّر أسعار استهلاك الأسر قد سجّل زيادة تراكمية بلغت 121%، وكان الاتحاد العمّالي طوال هذه الفترة يصدر بيانات تطالب بتصحيح الأجور ويُهدّد بالتحرّك، إلا أنه لم ينفّذ أي تظاهرة أو يحاول تنفيذ أي إضراب بغية الضغط لتصحيح الأجور.
لم ينفّذ الاتحاد العمّالي العام أي تظاهرة ولم يحاول تنفيذ أي إضراب بغية الضغط لتصحيح الأجور


كيف طُرح تصحيح الأجور في عام 2011 إذاً؟ قد يكون مفاجئاً أن يكون وزير العمل، شربل نحاس، هو الذي بادر إلى دعوة لجنة المؤشر للاجتماع بعد 15 عاماً من تجميد أعمالها، وهي اللجنة المخوّلة قانوناً وضع نسب غلاء المعيشة وتقديم الاقتراحات إلى الحكومة في شأن تصحيح الأجور. تضمّ هذه اللجنة ممثلين عن وزارة العمل ووزارة المال وإدارة الإحصاء المركزي وخبراء إلى جانب ممثّلين عن أصحاب العمل والعمّال.
اللافت أن الاتحاد العمّالي قاطع أعمال اللجنة، بعد اجتماعين فقط، وانسحب في ذروة المفاوضات، ولم يلعب أي دور، على الرغم من أن تصحيح الأجور هو من أهم مطالب العمّال، إن لم يكن أهمّها على الإطلاق. لا بل ذهب الاتحاد العمّالي إلى التحالف مع أصحاب العمل ضد وزير العمل.
من الطبيعي أن نتساءل لم يحاول وزير العمل، وهو يمثّل الدولة، أن يناصر العمّال ويطرح مشروعاً يرمي إلى دمج بدل النقل بالأجر ومن ثمّ تصحيحه بنسبة غلاء المعيشة ورفع الحدّ الأدنى للأجور (938 ألف و500 ليرة) وإقرار نظام التغطية الصحية الشاملة المموّل بالضرائب على أرباح الفوائد والمضاربات العقارية وإلغاء الاشتراكات في فرع ضمان المرض والأمومة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ودعم فرصة العمل الأولى للشباب.

اتفاق «الغرفة المجاورة»
في الوقت الذي كان وزير العمل يطرح هذا المشروع في مجلس الوزراء، كان الاتحاد العمّالي في الغرفة المجاورة (بالمعنى الحرفي، في الغرفة المجاورة لغرفة انعقاد مجلس الوزراء في قصر بعبدا) يوقّع على اتفاق كُتِب على عجل وبخطّ اليد مع هيئات أصحاب العمل، ويقضي بتحديد الحدّ الأدنى للأجور بـ675 ألف ليرة شهرياً، أي أدنى من الاقتراح الذي كان يحاول وزير العمل تمريره. فكيف يمكن أن يمثّل الاتحاد العمّالي مصالح العمّال؟ هو يمثّل الدولة أو الهيئات الاقتصادية، أو حتى الطرفين معاً على الأرجح. سارع نحاس إلى «تبييخ» الاتفاق وثابر على المعركة في شكل لم يعتد عليه واضعو السياسات في لبنان، إلى أن تدخّلت «الزعامات» السياسية لإنهاء المسألة بسرعة بغض النظر عن اقتراحات وزير العمل. انتهى الأمر إلى استقالة نحاس فيما عبّر الاتحاد العمّالي عن ارتياحه.
الاتحاد العمّالي العام منذ عام 1970 هو الطرف المخوّل التفاوض عن العمّال بموجب مرسوم الهيئات الأكثر تمثيلاً. ولكنه في الواقع بات خاضعاً للتدخلات السياسية ويفتقد إلى القوة التمثيلية بسبب «تفريخ» النقابات والاتحادات والترخيص لنقابات وهمية أو نقابات صفراء تضرب وحدة العمّال وتضعفهم. وبالتالي جرت عملية وضع اليد على قراراته وتحرّكاته من قبل «المراجع السياسية»، وباتت هي تمثّل العمّال وتتفاوض عنهم.

القبض على هيئة التنسيق النقابية
بموازاة ما عُدَّ «خيانة» من الاتحاد العمّالي العام، صعّدت هيئة التنسيق النقابية تحرّكاتها بين عامي 2011 و2015 للمطالبة بسلسلة رتب ورواتب جديدة للقطاع العام (تنطبق على معلّمي القطاع الخاص)، ونظّمت إضرابات طويلة ومظاهرات حاشدة وعمليات تعطيل للامتحانات الرسمية. ولكن عندما فرُغت جعبة الدولة أو «المراجع السياسية» من الأساليب المُتاحة لإقناع المعلّمين بتصحيح الامتحانات الرسمية، قرّرت الحكومة – بغياب أي صوت معارض في مجلس الوزراء - تجاوز تصحيح الامتحانات الرسمية ومنح إفادات لكل الطلاب. ثم اجتمعت كل «المراجع السياسية» للإطاحة بحنّا غريب في انتخابات رابطة معلّمي الثانوي من خلال لائحة منافسة تجمع كل الأحزاب السياسية بغية السيطرة على هيئة التنسيق، كما أطاحت بنعمة محفوض بالأسلوب نفسه للسيطرة على نقابة المعلّمين في القطاع الخاص.
لم تعد الأطر النقابية القائمة تتمتّع بالمشروعية العمّالية والتمثيلية للمطالبة بحقّ التنظيم النقابي من دون ترخيص مسبق، أو تصحيح أجور دوري، أو تغطية صحية شاملة، أو نظام تقاعد وشيخوخة وغيرها. وبغياب هذا التمثيل، نبحث عمّن سيتصدّر الصفوف في الاعتراض، باسمنا جميعاً وليس فقط باسم العمّال، على زيادة الضرائب غير المباشرة وإعفاء الأرباح، أو على أزمة النفايات أو على ما سيخبئه لنا «باريس 4»، أو على أي سياسة تعتمدها الدولة. ففي ظل الإمساك بالقيادتين النقابيتين في القطاعين العام والخاص، ليس مستبعداً أن تتبنّى الحكومة توصيات صندوق النقد الدولي الأخيرة بزيادة الضريبة على القيمة المضافة وإعادة الضرائب على المحروقات إلى ما كانت عليه عام 2012 وزيادة أسعار الكهرباء... يمكن إذاً لـ«المراجع السياسية» أن تفقرنا جميعاً - من دون أي تحرّك أو اعتراض حقيقي - لأنها هي من يمثّل العمّال اليوم.