أسوأ خطاب هو الذي يصف اللبنانيين بأنهم «كسالى» لا يعملون. تُروَّج هذه الصفة عبر الإعلام وعلى ألسنة الكثير من السياسيين والرأسماليين والمثقفين من دون أي تدقيق أو تفسير. وغالباً ما يكون المقصود هو الإشارة إلى تدني إنتاجية العمالة (الناتج في كل ساعة عمل) وكأنها مسؤولية العمّال والعاملات، لا مسؤولية رأس المال والسياسات الراعية له.في الواقع، يعمل العمّال والعاملات في لبنان كثيراً، ولساعات طويلة في اليوم، والكثير منهم لا يتمتعون بوقت فراغ، ولا بوقت كافٍ للراحة، كذلك لا يتمتعون بالأجر العادل والحماية الاجتماعية والقانونية والحقوق الاقتصادية.
بحسب آخر الدراسات عن الأحوال المعيشية للأسر في عام 2015 (المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق)، إن أكثر من 41% من القوى العاملة في لبنان يعملون أكثر من 8 ساعات يومياً، أو 48 ساعة في الأسبوع، وهو الحدّ الأقصى لعدد ساعات العمل المسموح بها في نصّ القانون. وبالتفصيل، يعمل 37.4% من العمّال ما بين 49 ساعة و72 ساعة أسبوعياً، في حين أن 3.9% يعملون أكثر من 72 ساعة أسبوعياً، أي أكثر من 12 ساعة يومياً، وهؤلاء يجسّدون أبشع أشكال الاستغلال في سوق العمل.
هذه الدراسة تتناول القوى العاملة عموماً (أي الناشطين بمن فيهم أصحاب العمل والعاملون لحسابهم)، ولا تشمل العمّال الأجانب، ولا سيما العاملات في الخدمة المنزلية والعمّال الزراعيون وعمّال ورش البناء والمقاولات وعمّال النظافة... فلو كانت قد شملتهم، لكانت هذه النسب أشدّ قساوة، نظراً لحدّة الاستغلال في هذه الوظائف، التي يمكن رؤيتها بالملاحظة المباشرة.

توزُّع القوى العاملة في لبنان بحسب ساعات العمل الأسبوعية | تصميم سنان عيسى | للصورة المكبّرة انقر هنا


على أي حال، تبيّن هذه الدراسة أن أكثر من 54% من العاملين في التجارة يُجبرون على العمل لساعات طويلة (48.6% يعملون ما بين 48 ساعة و72 ساعة في الأسبوع، و5.4% يعملون أكثر من 72 ساعة، علماً أن 21.7% ممن يعملون أكثر من 12 ساعة يومياً هم العاملون في المحلات والأسواق)، يليهم العاملون في النقل وأنشطة البريد والاتصالات (51.3% منهم يعملون أكثر من 8 ساعات يومياً). ويأتي العاملون في الصناعة في المرتبة الثالثة على سلّم الاستغلال (44.4% يجبرون على العمل لساعات أكثر مما يسمح به القانون)، ثمّ العاملون في البناء والإنشاءات (36.8%)، والعاملون في الخدمات (33.2%)، والزراعة (27.5%)، وأخيراً العاملون في التأمين والوساطة المالية (المصارف) (23.3%).
يروي رئيس البنك الدولي، جيم يونغ كيم، أن جاك ما، مؤسّس شركة «علي بابا» الصينية (قيمتها السوقية نحو 470 مليار دولار) قال له مرّة: «عندما كان جدي على قيد الحياة، كان يعمل 16 ساعة في اليوم، و6 أيام في الأسبوع، وكان يشعر بأنه مشغول جداً. أمّا أنا، فأعمل 8 ساعات في اليوم و5 أيام في الأسبوع، وأشعر بأنّني مشغول جداً. وسيعمل أولادي 3 ساعات في اليوم، و3 أيام في الأسبوع وسيشعرون بأنهم مشغولون جداً».
لا شك في أن جاك ما (هو الأكثر ثراءً في آسيا) يقول الحقيقة، وربما هو ليس مضطراً لكي يعمل أصلاً، ويمكن ثروته الشخصية أن تنمو في الساعة بأرقام فلكية بجهد قليل جداً منه... ولكن مهلاً، أليست هذه معضلة الرأسمالية، حيث الأرباح تتحقّق من فائض قيمة العمل، أي من تشغيل العمال ساعات أكثر من ساعات العمل التي تعادل أجورهم؟ أليس كلّما ارتفع عدد ساعات العمل وقلّ الأجر ازداد الربح وازداد تركّز الدخل والثروة لدى قلّة من الأثرياء؟
للبنان سجل حافل على هذا الصعيد، حيث 10% من السكان يستحوذون على 55% من الدخل الوطني و70% من الثروة الوطنية، و1% منهم فقط يستحوذون وحدهم على 25% من الدخل و40% من الثروة (ليديا أسود - إعادة النظر في الأعجوبة الاقتصاديّة اللبنانيّة: التركّز الشديد للدخل والثروة في لبنان بين عامي 2005 و2014).

للصورة المكبّرة انقر هنا


بانتظار صدور تقديرات حديثة لحجم القوى العاملة في لبنان عن إدارة الإحصاء المركزي، سيكون من الصعب تقدير نصيب الفرد العامل من مجمل الناتج المحلي. إلا أن قاعدة معلومات البنك الدولي تفيد بأن القوّة العاملة في لبنان اليوم تبلغ نحو 2.2 مليون فرد، فيما يبلغ مجمل الناتج المحلي وفق التقديرات المتداولة نحو 54 مليار دولار (البنك الدولي يقدّره بأقل من ذلك)، ما يعني أن نصيب الفرد العامل في لبنان لا يقلّ عن 24 ألف دولار سنوياً. إلّا أن قسمة هذا الناتج ليست موزّعة بالتساوي، فبحسب التقديرات المتداولة أيضاً، تراوح حصّة الأجور من مجمل الناتج ما بين 20% و25% فقط، في حين أن العاملين بأجر يشكّلون 50% من القوى العاملة (تقديرات 2009 قبل تدفّق اللاجئين السوريين)، أي إن مليوناً و100 ألف عامل كانت حصّتهم لا تزيد على 12 مليار دولار من مجل الناتج، أي أقل من 11 ألف دولار سنوياً للفرد العامل بأجر. في المقابل، كانت حصّة النصف الآخر من القوى العاملة أكثر من 37 مليار دولار، أي نحو 34 ألف دولار للفرد. طبعاً ستزداد الهوّة كلّما جرى تفكيك كل شريحة، إذ يجدر التذكير دائماً بأن 1% فقط يستأثرون بربع الدخل، وهؤلاء تحديداً هم أكبر المسؤولين عن تدني الإنتاجية، فهذا الاقتصاد هو اقتصادهم، تحكمه بنية تجارية احتكارية وحلقة نقدية - مصرفية وإدمان شديد للتدفقات الخارجية التي تزيد الودائع، وبالتالي تزيد الدين وتزيد الطلب الاستهلاكي والعقاري وترفع الأسعار وكلفة الإنتاج.
إذا كان هناك كسالى في لبنان، فهم الرأسماليون لا العمّال.
للتواصل [email protected]