يشهد الوضع الاقتصادي ومعدّلات التوظيف في أوروبا تحسّناً. ولكن من المبكر جداً الوصول إلى الرضا. فالبطالة لا تزال عند مستويات مرتفعة جداً ومعظم الوظائف الجديدة التي يتم استحداثها مؤقتة وغير مضمونة بما يكفي. وأظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة أنّ الإقصاء الاجتماعي والتفاوتات في سوق العمل وفي المجتمع في شكل عام، تواصل تقويض ثقة الناس وتغذّي الشعبويّة المناهضة للاتحاد الأوروبي.غير أنّ من الضروري ألا يتم التقليل من قيمة التغيير الأخير في المقاربة السياسية للاتحاد الأوروبي. فأخيراً، اعترف المسح السنوي للتنمية وتقرير التوظيف المشترك بالحاجة إلى سياسات اقتصادية كلّية أكثر تقدميّة، وإلى الاستثمار في الناس، وإلى أجور عادلة تعكس النمو المحقّق في الإنتاج.
نرحّب بهذا التطوّر، ولكن حان الوقت الآن لتتحوّل السياسة إلى تحرّك على الأرض، عبر توصيات خاصة بكل دولة من المقرّر أن تُنشر في أيار/ مايو. ويمكن للنقابات العمالية وأصحاب العمل ـــ الشركاء الاجتماعيون ـــ القيام بدور أساسي، إذا كان لديهم تأثير، ولا سيما على المستوى الوطني.
يجدر بالاتحاد الاقتصادي والنقدي أن يخدم في شكل أفضل أهداف التنمية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي وحثّ الدول الأعضاء على اعتماد الإجراءات التي تضمّنتها الرزمة الأخيرة للاتحاد، وتنفيذها. فمن شأن وجود صندوق نقد أوروبي ووزير مالية للاتحاد الأوروبي أن يتيح لأوروبا التعامل في شكل أفضل مع الصدمات غير المتماثلة وتشجيع الاستثمار، فيما من شأن الحدّ من الإصلاحات التي يقترحها الاتحاد الأوروبي على الاتحاد المصرفي أن يوجّه مجدّداً رسالة خاطئة مفادها بأن المصارف مهمّة أكثر من الناس.
ما تحتاجه أوروبا هو رؤية لاقتصادنا ولسوق العمل تسمح لنا بمواجهة تحديات الثورة الصناعية الرابعة (Industry 4.0) والرقمنة والأتمتة والتغيير المناخي والانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون والعولمة والتجارة الحرة، ولكن المستدامة. بالطبع سيحتاج العمّال المتأثرون بهذه التغييرات إلى المساعدة في رفع مستوى مهاراتهم أو العثور على وظائف جديدة ذات مستوى جيّد، من دون إقصاء أو استثناء أحد منهم. ولتحقيق ذلك، من المطلوب إيجاد سياسة صناعية أوروبية متماسكة. ويجب أن يتحوّل الصندوق الأوروبي للعولمة والتعديل إلى صندوق نقد أوروبي متاح أكثر، وذلك بهدف إدارة عملية إعادة الهيكلة بدلاً من مجرّد تقديم تعويضات عند وقوع الضرر.
لذلك يجب أن يكون إصلاح الصندوق الأوروبي للعولمة، والتعديل جزءاً من النقاش المقبل حول إطار العمل المالي متعدّد السنوات. لا نريد الدخول في النقاش السياسي حول حجم ميزانية الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا منه (بريكست)، لكنّنا ندعم اقتراح المفوضية الأوروبية أن تنمو الميزانية المقبلة للاتحاد الأوروبي بـ1.1% من الناتج الإجمالي للاتحاد، بحيث تكون الأولوية على الأرجح لميزانية صندوق النقد الأوروبي المقبل.
ولكن الأهم هو أن الميزانية وإطار العمل المالي متعدّد السنوات حصلا على مصادقة البرلمان الأوروبي الحالي قبل الانتخابات لتفادي أيّ فجوة في الإنفاق في مثل هذه المرحلة الحسّاسة. ومن الضروري زيادة الحصّة من التمويل المخصص للسياسات الاقتصادية والاجتماعية أو على الأقلّ ألا يتمّ اقتطاعها. كذلك يحتاج الصندوق الأوروبي الاجتماعي وبرنامج الاتحاد الأوروبي للتعليم والتدريب والشباب والرياضة إلى إصلاح وإعادة إطلاق من دون أي دمج لأنشطتهما. وفوق كلّ ذلك، يجب تعزيز دور الشركاء الاجتماعيين في إدارة هذا التمويل عبر بناء القدرات عند الضرورة.
هناك اعتراف بالحاجة إلى سياسات اقتصادية كلّية أكثر تقدميّة وإلى أجور عادلة تعكس النمو المحقّق في الإنتاج


من الحيوي تصحيح السياسات الاقتصادية من أجل تطبيق الميثاق الاجتماعي الأوروبي. ونثمّن عالياً التزام قادة الدّول في غوتنبرغ في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي بإعادة ترسيخ البعد الاجتماعي للاتحاد الأوروبي، عبر «الركيزة الأوروبية للحقوق الاجتماعية»، التي أعلنها رئيس المفوضية جان كلود يونكر. لكن الوقت والجهد الآن يجب أن ينصبّا على تحقيق نتائج ملموسة للمواطنين والعمّال في الاتحاد الأوروبي عبر إجراءات تشريعية وغير تشريعية يتمّ التوصّل إليها قبل نهاية الفترة الحالية للمفوضية.
نريد تقدّماً على صعيد تطبيق التوجيهات الخاصة بمسألة التوازن بين العمل والحياة وبظروف العمل الشفافة، والتي يمكن التنبؤ بها لأنّها تقدّم منافع حقيقية للأشخاص العاملين في أنحاء أوروبا. وإذا ما أضيفت هذه التوجيهات إلى التوصيات بشأن الحماية الاجتماعية، فمن شأنها أن تحقق المزيد من الاستقرار لمن يسمّون «خوارج سوق العمل»، أي العاملون المؤقتون، والعاملون على المنصّات الإلكترونية أو العاملون المستقلّون والعاملون لحسابهم الخاص. يستحق هؤلاء الحقوق والحماية ذاتها التي يحظى بها العاملون الآخرون، بما في ذلك الرواتب التقاعدية والمساواة في الأجر.
يرحّب اتحاد نقابات العمال في دول الاتحاد الأوروبي باقتراح إنشاء هيئة أوروبية للعمل، يجب أن تؤسس لإطار عمل طموح لمعالجة الانتهاكات والاحتيال وحلّ النزاعات وإتاحة فرص متكافئة لحرية الحركة. ومجدّداً على الشركاء الاجتماعيين من الاتحاد الأوروبي والبلدان الأعضاء أن يشاركوا في إدارة تلك الهيئة بالكامل.
ولا بدّ لنا من الاعتراف بالجهد الذي تبذله المفوضية في إعادة إطلاق حوار اجتماعي أوروبي. ومن المتوقع أن يقرّ مجلس الاتحاد الأوروبي إطار عمل أوروبياً للتدريب المهني اقترحه اتحاد نقابات العمال وطوّره عبر مبادرة مشتركة مع الشركاء الاجتماعيين الأوروبيين. واستطعنا أيضاً أن نتّفق على شراكة أوروبية لاندماج اللاجئين في سوق العمل، ونحن ملتزمون بالكامل بدعم المبادرة المشتركة وتنفيذها.
في المقابل، نأسف لفشل المفوضية في الدفع قدماً باتجاه تشريع يهدف إلى تنفيذ الاتفاقيات القطاعية للشركاء الاجتماعيين: ولا يسعنا سوى أن نأمل بأن تصل المفاوضات حول خطة عمل لحماية مصفّفي الشعر إلى خواتيم إيجابية. كما أنّ مستوى ونوعية الحوار الاجتماعي على المستوى الوطني غير مناسب أيضاً. فنحن بحاجة إلى المزيد من الحوار الثلاثي وبناء قدرات الشركاء الاجتماعيين الوطنيين ودعم المفاوضات الجماعية لحقوق العمال والعلاقات الصناعية.
وأخيراً، يجب التركيز على الأجور من خلال رفعها في أوروبا لدفع الطلب ومواكبة التقدم في الإنتاج وتقليص حالة عدم المساواة. لذلك يدعو اتحاد نقابات العمّال المفوضية والدول الأعضاء وأصحاب العمل لإطلاق نقاش صادق حول كيفية سد الفجوة على مستوى الأجور بين الشرق والغرب في أوروبا.
في 26 حزيران/ يونيو، ينظّم اتحاد النقابات في صوفيا ببلغاريا مؤتمراً رفيع المستوى حول تحقيق المساواة في الأجور. وهذه فرصة للشركاء الاجتماعيين والشركات المتعدّدة الجنسيات والمفوضية والحكومات للحدّ من إغراق الأجور الذي يقوّض العمل العادل للسوق الأوروبية.
*الأمين العام لاتحاد نقابات العمال في دول الاتحاد الأوروبي
ترجمة لمياء الساحلي
بترخيص من www.socialeurope.eu