تحتاج أوروبا إلى إنفاق 1.5 تريليون يورو على البنية التحتية الاجتماعية من الآن حتى عام 2030، لتصويب النقص الكبير في الإنفاق خلال السنوات الأخيرة ولمعالجة الطلبات المتزايدة على الخدمات الاجتماعية. هذه إحدى الحجج الرئيسية لتقرير «تعزيز الاستثمار في البنية التحتية في أوروبا»، الصادر عن وحدة العمل الرفيعة المستوى التي شكّلها اتحاد المستثمرين الأوروبيين لأجل طويل والمدعومة من المفوضية الأوروبية.ينجح التقرير في تحديد حجم المشكلة، إلا أنه يخفق في تناول بعض الأسباب الرئيسة للبطء في الإنفاق على البنية التحتية الاجتماعية لفترات طويلة، ويركّز كثيراً على الدور المتزايد للتمويل الخاص. ويشير إلى «الأزمة الاقتصادية الطويلة»، ولكنه لا يشير في شكل مباشر إلى سياسة ضبط أوضاع المالية العامة التي فرضت في أنحاء أوروبا وأسهمت في تأخير وإضعاف الانتعاش الاقتصادي. ويقول التقرير إنه «تحت عبء الديون المتراكمة والمطالبات المتزايدة بدولة الرفاه، وما يترتّب عليها من تكاليف، يتم تقليص الموارد العامة للاستثمار أو في أفضل الأحوال إبقاؤها في حالة ركود».
يفترض التقرير هنا أنّه لا مجال لزيادات كبيرة في الاستثمار العام في البنية التحتية الاجتماعية، وأنّ أهداف الدين والعجز في «ميثاق الاستقرار والتنمية» أهداف ثابتة ودائمة، وأنّ «علينا أن نفرض ضغوطاً أقل على المالية العامة عند تمويل البنية التحتية».

رأس المال العام
ثمة رؤية بديلة تضع الاستثمار العام في صلب الحل، وهذا يتطلّب تحليلاً للأسباب التي تجعل الاقتطاعات في الاستثمار العام عميقة لفترة طويلة. يتناول التقرير ذلك، ولكن باختصار ضمن هامش في الصفحة 27، وقد وجد تحليل لبنك الاستثمار الأوروبي أن معظم دول الاتحاد الأوروبي قلّصت الإنفاق الرأسمالي (الإنفاق الأساسي) رغم التراجع العام في نفقات خدمة الدين.
يرصد التقرير ثلاث مشاكل رئيسية:
1 ـ الكلفة السياسية المنخفضة نسبياً لتقليص/تأخير برامج الاستثمار الحكومي مقارنة ببرامج الإنفاق والدعم الحالية.
2 ـ التقليل من قيمة دور الاستثمار الحكومي في التنمية، بما في ذلك أثر المزاحمة الذي يترتّب عليه في أوقات النمو المنخفض.
3 ـ مجموعة من التنظيمات الأوروبية والوطنية الخاصة بالاستدامة المالية، التي لا تحفّز تحديد أولويات الإنفاق الرأسمالي ولا تحويطه، لا سيما على المستوى دون الوطني.
على الرغم من أنّ معالجة هذه العقبات قد تشكّل بداية، ولكن ماذا عن تعزيز المالية العامة عبر تحصيلٍ أكثر فعالية للضرائب، وإجراءات للحدّ من الاحتيال الضريبي، والبحث عن أجندة ضريبية أكثر تقدمية يمكن أن تتضمّن مبادرات حول الضرائب على الثروة والممتلكات؟
غير أن التقرير يركّز على الطرق التي قد يمكن للقطاع الخاص من خلالها ملء الفجوة في الاستثمار، بينها شراكات بينه وبين القطاع العام (PPP). ولكن للأسف، لم تقم وحدة العمل بواجبها في توضيح كل ما يتعلق بهذه الشراكات، فثمة مخاطر تترتّب عليها برزت في شكل واضح في المملكة المتحدة مع انهيار مجموعة «كاريليون» للإنشاءات والخدمات، التي لديها شراكات عدّة مع القطاع العام، بينها تطوير مستشفى ميدلاند متروبوليتان الذي حصل على دعم الصندوق الأوروبي للاستثمارات الاستراتيجية.

الكلفة الحقيقية
بُعيد فضيحة «كاريليون»، فُضح الأساس الكامل لنظام الشراكة بين القطاعين الخاص والعام في تقرير لمكتب التدقيق الوطني في بريطانيا، الذي يشكّل هيئة الرقابة الحكومية على الإنفاق العام. ويثير التقرير مسائل خطيرة حول الفائدة المالية من المشاريع المموّلة بطريقة «مبادرات التمويل الخاص (PFI)، وهي النسخة البريطانية من الشراكات بين القطاعين الخاص والعام»، مشيراً إلى أنّ الكثير من هذه المشاريع أعلى كلفة ــ بنسبة 40% ــ من المشاريع المموّلة مباشرة من القطاع العام.
وقال المكتب إنه «لا يزال هناك نقص في البيانات المتوافرة حول فوائد التمويل الخاص». ويبدو ذلك مثيراً للدهشة في بلد لديه تجربة 25 عاماً مع المشاريع التي تنفّذ بطريقة «مبادرات التمويل الخاص».
وأدان تقرير أخير لمحكمة المدقّقين الأوروبية أيضاً الشراكات بين القطاعين العام والخاص، حيث حلّلت 12 مشروعاً موّل بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ووجد «أوجه قصور واسعة وفائدة محدودة، ما أدّى إلى 1.5 مليار يورو من الإنفاق غير الفعّال وغير الناجع». وأسفت المحكمة لأنّ «المال والشفافية لا يقدّران كما يجب، وعلى نطاق واسع، لا سيما بفعل سياسة واستراتيجيا غير واضحتين وتحليل قاصر، وتسجيل شراكات بين القطاعين العام والخاص من خارج الموازنة وترتيبات غير متوازنة لمشاركة المخاطر».
وأوصت المحكمة المفوضية الأوروبية والدول الأعضاء «بعدم الترويج للمزيد من الاستخدام المكثّف والواسع للشراكات بين القطاعين العام والخاص إلى حين حلّ المسائل التي تم رصدها».
أوصت المحكمة المفوضية الأوروبية «بعدم الترويج للمزيد من الشراكات إلى حين حل المسائل التي تمّ رصدها»


كذلك، خلص تقرير أخير لمعهد سميث في المملكة المتحدة إلى أنّه «كوسيلة مالية (مبادرة تمويل خاص) حوّلت (ولا تزال) الإيرادات إلى البنوك والمموّلين من خلال الأسهم، عبر عقود مُتخمة بالتفاصيل المضلّلة والمُحاطة بالسرية. ولا توضح صفقات عدّة تكاليف إيرادات مبادرات التمويل الخاص».
هذه الأمور أضيفت أخيراً إلى أنواع الأدلة التي توجّه الانتباه إليها نقابات عمّال الخدمات العامة منذ سنوات. فقد أثار اتحاد نقابات الخدمات العامة الأوروبي في تقرير عام 2014 والاتحاد الدولي للخدمات العامة في دراسة أصدرها عام 2015 مسائل أساسية ترتبط بالشراكات بين القطاعين الخاص والعام وكيف أخفقت في الوفاء بوعودها.

المخاطر على القطاع العام
في ظل تراجع الاستثمار العام، ولكن المتزامن مع انخفاض معدلات الفائدة إلى مستويات تاريخية، يبقى السؤال الأساسي: لماذا لا تبذل جهود كبيرة لدفع الاستثمار العام بدلاً من اللجوء إلى الشراكات بين القطاعين العام والخاص ذات تكاليف الإقراض العالية؟
تستخدم المفوضية الأوروبية عملية «الفصل الأوروبي» لحثّ بعض الدول على زيادة الاستثمار العام، ولكن النتائج محدودة. لذلك ثمّة حاجة إلى مقاربة أكثر جرأة. فعلى سبيل المثال، يدعم الاتحاد الأوروبي للنقابات العمالية فكرة إنشاء خزينة أوروبية. من شأن هذه الخزينة أن تكون مكاناً لجمع الإنفاق الاستثماري العام في المستقبل في أوروبا وتمويله عبر سندات خزينة أوروبية. وسيكون ذلك رداً أوروبياً على تحدٍّ يواجه أوروبا في شكل عام، ورداً يبحث عن حلّ أولاً في القطاع العام وليس في المساهمات المثيرة للشكّ للشراكات مع القطاع الخاص. ويجب على السياسيين التقدميين وغير التقدميين، على المستويات المحلية والوطنية والأوروبية، تفادي اللجوء إلى الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وألاّ تغريهم فكرة أنّها قد تشكّل حلاً. فهي قد تكون مدرّة للأموال للشركات على المدى الطويل، ولكنّ القطاع العام هو من سيتورّط في المخاطر والتكاليف المرتفعة.
* يعمل ريتشارد بوند في اتحاد نقابات الخدمات العامة الأوروبي، وهو مسؤول عن عدد من جوانب السياسة في الاتحاد، بينها المفاوضة الجماعية والفصل الأوروبي والبحث
يُنشر بترخيص من socialeurope.eu
ترجمة لمياء الساحلي