يقترب نمط الانتاج الرأسمالي من نهايته، ولكن لن تحلّ الاشتراكية مكانه، ولكن تكوّن نمط إنتاج جديد في المئة سنة الماضية، مبني على الطبقة الادارية. لا تستغل هذه الطبقة الإدارية الطبقة العاملة من أجل فائض القيمة وتراكم رأسمالها. عوضاً عن ذلك، يستخدم الإداريون القوة والسيطرة اللتين يمارسونهما من خلال إدارة الشركة العابرة للحدود والقطاع المالي. لن تحفر الطبقة العاملة قبر الرأسمالية، كما توقع ماركس، بل على «الطبقات الشعبية» أن تضغط على الطبقة الإدارية كي تكون تقدمية وعصرية وللقضاء على بقايا الطبقة الرأسمالية من أجل تطوير مجتمع مبني على الجدارة. هذا ما يطرحه كتاب جديد تحت عنوان «الرأسمالية الإدارية»، للاقتصاديين الماركسيين الفرنسيين البارزين جيرار دومينيل ودومينيك ليفي.
أنقر الصورة للتكبير

لقد شاركتُ في إطلاق الكتاب في لندن، وخلاله حاجج دومينيل أن الطبقة الرأسمالية (أي الذين يملكون وسائل الإنتاج) استُبدلت بالإداريين، الذين يسيطرون على الشركات الكبرى ويتّخذون كل القرارات المهمّة. فالطبقة الرأسمالية الآن هي كالطبقة الإقطاعية المتلاشية في أوائل القرن التاسع عشر، عندما ظهر ماركس على الساحة. حينها، تسلّمت الطبقة الرأسمالية زمام الحكم وحوّلت الطبقة الإقطاعية نفسها إلى رأسماليين أيضاً. الآن، تسلّمت الطبقة الإدارية زمام الحكم، فيما تحوّلُت الطبقة الرأسمالية التقليدية نفسها إلى طبقة إدارية جديدة.
كان ماركس واعياً لفصل المهام في الرأسمالية بين مالكي رأس المال وإداريي رأس مال الشركات. كما قال في «رأس المال» (المجلد الثالث): «إن الشركات المساهمة، التي تتطوّر بتطوّر نظام الائتمان، تبدي عموماً ميلاً إلى فصل هذا العمل الإداري أكثر فأكثر عن ملكية رأس المال، سواء كان مقترضاً أم ملكاً... ولكن لما كان الرأسمالي الناشط يواجه، من ناحية، المالك المحض لرأس المال، أي الرأسمالي النقدي، وكان رأس المال النقدي هذا يتخذ، بتطور الائتمان، طابعاً اجتماعياً، ويتركّز في المصارف التي تتولّى إقراضه بدلاً من مالكيه المباشرين؛ ولما كان المدير المحض، من ناحية أخرى، الذي لا يملك رأس المال بأي صفة كانت، لا قرضاً ولا بأي طريقة أخرى، يتولّى الوظائف الفعلية المُسندة للرأسمالي الناشط بما هو عليه، فلا يبقى سوى الموظّف الإداري، ويتلاشى الرأسمالي متوارياً عن عملية الإنتاج كشخص زائد عن اللزوم».

هل الأغنى هم إداريون؟
يقضي دومينيل وليفي بعض الوقت في كتابهما لتذكيرنا بأن ماركس كان واعياً لهذا الفصل. ولكن ماركس لم يرَ أن ذلك سيؤدي إلى طبقة إدارية جديدة. فالفصل هذا كان محض ظاهري، والنظام لم يتغيّر: «إنتاح فائض القيمة، أي عملاً غير مدفوع الأجر، في ظل أكثر الشروط اقتصاداً، إنما يجري نسيانها تماماً بفعل التضاد المتمثل في أن الفائدة تؤول إلى الرأسمالي حتى عندما لا يمارس أي وظيفة كرأسمالي، بل يكون محض مالك لرأس المال؛ وأن ربح المشروع، في المقابل، يؤول الى الرأسمالي الناشط حتى عندما لا يكون مالكاً لرأس المال الذي ينشط بواسطته. وبسبب الشكل المتضاد لكلا هذين الجزءين، اللذين ينقسم إليهما الربح أو ينقسم إليهما فائض القيمة، يجري تماماً نسيان أن هذين هما جزآن من فائض القيمة ليس إلا، وأن انقسام الأخير لا يمكن أن يمسّ في شيء طبيعة، أو منبع، أو شروط وجود فائض القيمة هذا».
يعتقد دومينيل وليفي أن هذه النظرة إلى العلاقة بين العائلات الرأسمالية وإدارييها انتهت صلاحيتها. فالآن يحكم الإداريون وليس العائلات الرأسمالية. يدعمان طرحهما في الكتاب بالأدلة التطبيقية حول اللامساوة في الدخل المتصاعدة في الولايات المتحدة والاقتصادات الكبرى الأخرى. فالـ1% الأغنى من حيث الدخل في الولايات المتحدة، الذين يتم اعتبارهم في العادة جزءاً من الطبقة الرأسمالية، يحصلون على 80% من دخلهم كأجور متأتية عن العمل كإداريين وكبار التنفيذيين وليس من الدخل الرأسمالي (عوائد أسهم، فوائد وأرباح). لذا، هؤلاء الأغنى هم إداريون وليسوا رأسماليين. لهذا السبب، يحاجج دومينيل وليفي بأن علينا مراجعة النظرة الماركسية التقليدية التي تقول إن كبار الإداريين هم محض موظّفين لدى الطبقة الرأسمالية.

رأسماليون حتى لو دفعوا لأنفسهم أجوراً
ولكن يمكن تفسير البيانات في شكل مختلف. أجرى سيمون موهن عملاً تطبيقياً مماثلاً حول مصدر دخل الشرائح الأعلى. وقد وجد أن الطبقة العاملة ــ الذين يعتمدون على الأجور لمعيشتهم ــ ما زالت تشكّل 84% من القوى العاملة، أما الباقي فهم إداريون، ولكن يمكن لـ2% فقط أن يعيشوا من الريوع، والإيجارات، والفوائد، والأرباح الرأسمالية وعوائد الأسهم وحدها. إنهم الطبقة الرأسمالية الحقيقية. ولم تتغيّر كثيراً هذه النسبة في مئة عام، حتى لو تغيّر مصدر دخلهم المباشر. بالإضافة إلى ذلك، هذه هي المجموعة الأكثر تحقيقاً للأرباح خلال الـ30 سنة الماضية التي شهدت تصاعداً في اللامساواة. فارتفع دخل الطبقة الرأسمالية من 9 مرّات معدّل دخل الطبقة العاملة إلى 22 مرة، في حين أن دخل الإداريين ارتفع من ضعفي ونصف (2.5) دخل العمّال إلى 3.5 مرّات. إذاً، تصاعد اللامساواة هو في شكل أساسي نتيجة ازدياد الاستغلال (نسبة متصاعدة لفائض القيمة) بالتعابير الماركسية.
147 شركة تستحوذ على 40% من الثروة في الشبكة من خلال حصص متشابكة بعضها مع بعض


نعم، منذ عام 1980 تقلّب مصدر الدخل المتأتي من العمل حول نسبة 60% من معدّل الدخل (أي ضعف ما كان عليه في العشرينيات) لشريحة الـ1% الأعلى. ولكن هذه الشريحة تتضمّن المستثمرين المصرفيين، محامي الشركات، مديري الأسهم الخاصة والتنفيذيين في الشركات. علاوة على ذلك، ثلثا شريحة الـ1% الأعلى هم إداريون فقط في الاسم، إذ إن نسبة متزايدة من هذه الوظائف الإدارية هي في ظل ما يُسمى «شركات مغلقة الرأسمال». هذا يعني أنهم يملكون شركاتهم ولكن يدفعون لأنفسهم أجوراً كمصدر أساسي للدخل. إذاً، الشريحة الـ1-3% الأعلى، وفقاً لموهن، يظلّون الرأسماليون كما فهمها ماركس، حتى لو دفعوا لأنفسهم أجوراً وعلاوات ضخمة.
بالإضافة إلى ذلك، تبيّن إحدى الدراسات أن «مداخيل من هم ضمن شريحة 0.1% الأغنى من حيث توزّع الدخل من الإداريين،التنفيذيين والمهنيين، في المال والتكنولوجيا، حسّاسة جداً لتقلبات سوق الأسهم. فتشير معظم أدلّتنا إلى أهمية خاصة لدور أسعار الأصول في الأسواق المالية وتنقّل المداخيل بين أسس الضريبة الفردية والضريبة على الأرباح كما حوكمة الشركات والريادة، في تفسير الارتفاع الدرامتيكي لحصص الدخل الأعلى». إذاً، دخل العمل الخاص بهم يعتمد على أسواق الأسهم والأصول المالية الرأسمالية.
أما الإداريون، وفق معظم التعريفات، فيشكّلون بين 17 و20% من قوة العمل، ولكن من المبالغ به الافتراض أنهم يشكلون طبقة إدارية جديدة، إذ يتشكّلون من أشخاص تبدأ بجيف بيزوس في أمازون وصولاً إلى مشرف في وولمارت (سلسلة متاجر كبرى). «في حين أن الإداريين يشرفون، فمعظهم يُشرَف عليهم، وتقسيمهم بين طبقة عاملة وغير طبقة عاملة لا يعالج مسألة من يحتاج أن يبيع قوى عمله ومن لا يحتاج لذلك. أي، لا يمكن بأي حال اعتبار الاداريين مجموعة متجانسة لأنهم ينقسمون في شكل أساسي بين من يمكن أن يبيع قوة عمله ولكن لا يحتاج أن يفعل ذلك، ومن يبيع ويحتاج إلى بيع قوة عمله» (موهن).

عمل الإداريين يصبّ في مصلحة أي طبقة؟
درس إريك أولن رايت البنية الطبقية لستة بلدان رأسمالية متقدمة، وبيّن أن «الإداريين» هم فئة تجمع ما بين الجيّد والرديء في الرأسمالية الحديثة. ومن خلال تفكيك عوامل المهارات لدى الإداريين، استنتج أن معظمهم، حقيقةً، عمّال بمهارات. فما زالت الطبقة العاملة تشكّل فوق 70% من القوى العاملة، ومنهجية حسابات موهن المبنية على الضريبة تجد أن الطبقة العاملة أقرب إلى 80 ــ 85%.
بالطبع، السؤال الحقيقي هو كالآتي: عمل الإداريين يصبّ لمصلحة أي طبقة؟ تجبر طبيعة الاقتصاد الرأسمالي الإداريين على الإدارة لمصلحة الـ1%. يعتمد عملهم، بغض النظر عن مدى ارتفاع أجورهم، على قرارات المساهمين، وسعر أسهم الشركة وأدائها الربحي.
بالإضافة إلى ذلك، كما تنبّأ ماركس، تكمن الخاصية الأساسية للرأسمالية الحديثة في نمو التركّز والتمركز للثروة (وليس الدخل). يعني ذلك أن الثروة المستحوذة في وسائل الإنتاج وليس فقط ثروة الأسر.
في عام 2016، استحوذ 1% من سكان الولايات المتحدة على 40% من مجموع صافي الثروة، في حين أن 80% استحوذوا فقط على 10% منها. يمكن الاستنتاج من ذلك، بناءً على تحليل رايت للبنية الطبقية، أن الشريحة الـ1% الأعلى هي مزيج من الرأسماليين والإداريين الخبراء. وتتشكّل الشريحة الـ20% التالية من حيث الثروة من الرأسماليين المتبقين وثلثي الإداريين الأعلى. أما شريحة الـ80% الأدنى من حيث الثروة فتتشكّل من ثلث الإداريين وكامل الطبقة العاملة (العمّال بأجر والمشرفون).
تطوّرت الرأسمالية الحديثة لتصبح شبكة ضخمة من الشركات المتشابكة حيث يستحوذ بعضها على أسهم بعض، وتتشارك المساهمين. طوّر ثلاثة من منظّري النظم (system theorists) قاعدة بيانات تتضمّن 37 مليون شركة ومستثمر حول العالم، وحلّلوا كلّ العمليات العابرة للقارات وملكية الأسهم الـ43060 التي تجمعهم. اكتشفوا أن نواة مُهيمنة من 147 شركة تستحوذ على 40% من الثروة في الشبكة، من خلال حصص متشابكة بعضها مع بعض، كما تستحوذ 737 شركة على 80% من الثروة. هذه هي القوة المركّزة لرأس المال.

لماذا لا نُسقط «الرأسمالية الإدارية» أيضاً؟
خلال إطلاق الكتاب، حاجج جيرار دومينيل في أن تركّز الملكية هذا بين عدد صغير من الشركات العالمية، خصوصاً المصارف، يثبت طرح دومينيل وليفي. فالإداريون هم الذين يسيّرون هذه الشركات ويتخذون قرارات الاندماج وغيرها، في حين أن مالكي الأسهم يتبعون كالخراف. وهذا دليل على «الرأسمالية الإدارية». لكني كنت سأحاجج، عوضاً عن ذلك، في أنه دليل على أن نمط الإنتاج الرأسمالي، بما أن ماركس كتب عن الشركات المساهمة منذ 150 عاماً، قد هيمن أكثر على الاستثمار والعمالة والإنتاج عالمياً.
إن توليد أزمات الانتاج والاستثمار والعمالة الدورية والمتكرّرة هو إحدى الخصائص المتأصّلة في نمط الإنتاج الرأسمالي. وهذا نتيجة الإنتاج بغية الربح من قبل أفراد مالكين لوسائل الإنتاج في سوق يقوم على نقيض حاجات المجتمع. هذه خاصية فريدة للرأسمالية. هل اختفت؟ ألم يتم إثبات أحقية توقعات ماركس في أن الأزمات تصبح أكثر عالمية وضرراً؟
بدا دومينيل وكأنه يلمّح إلى أن ماركس أخطأ في ما يتعلق بالأزمات المتنامية. خلال إطلاق الكتاب، زعم أن الركود العظيم الأخير قد تجنّب كساداً اقتصادياً كبيراً بسبب «الإدارية» (managerialism). فقد أديرت الأزمة. حسناً، تشير الأدلّة إلى العكس تماماً ــ كما حاججت طويلاً في كتابي ــ حول الكساد الطويل.
ولكن كان دومينيل مصرّاً على أننا، أي الذين نصرّ على تحليلات وتوقعات ماركس القديمة، يجب علينا أن نكسر هذه الدوغما والاعتراف بنمط الإنتاج الجديد. فتنبع من هذا الإصرار استراتيجية جديدة تكمن في أن تعيد «الطبقات الشعبية» (الطبقات العاملة) إحياء الصراع الطبقي – ولكن ليس من أجل استبدال الرأسمالية بالإشتراكية. هذا لن يحصل. ولكن يجب، عوضاً عن ذلك، أن يكون الهدف دفع الطبقة الإدارية الحاكمة (التقدمية) إلى اليسار من أجل أن تضمّن إصلاحات لصالح العمل وعزل الطبقة الرأسمالية الصغيرة والمتلاشية. حسناً، إذا كانت الطبقة العاملة لا تزال تشكّل 80% من السكان البالغين في معظم الاقتصادات المتقدمة (فضلاً عن الأماكن الأخرى) ورأس المال أكثر تركزاً وتمركزاً من أي زمان آخر، فلماذا لا نُسقط ونقلب «الرأسمالية الإدارية» أيضاً؟
Michael Roberts Blog
ترجمة نبيل عبدو