مُنِيَ الحزب الشيوعي العريق والحركات السياسية الناشئة والناشطون والناشطات في ما يسمى «المجتمع المدني» أو «الحراك الشعبي» بهزيمة نكراء في الانتخابات النيابية الأخيرة. خسروا في كل الدوائر التي ترشّحوا فيها، حتى في دائرة بيروت الأولى، حيث يتّسع نطاق الإقرار بين هؤلاء أن النائبة الوحيدة التي فازت على لوائح «كلنا وطني»، بولا يعقوبيان، لا تمثّلهم ولا تنتمي إليهم، وأن فوزها له ظروفه الخاصة المختلفة عن ظروفهم.وكما كانت هذه النتائج متوقّعة إلا من الذين قرّروا خوض الانتخابات بالطريقة التي خاضوها فيها وبالخطاب الذي حملوه، كذلك جاءت ردود الأفعال عليها كما هو متوقّع، إذ سرعان ما لملم هؤلاء الهزيمة وتكبّروا عليها، وأخذوا يتحدّثون عن «تزوير» مفضوح شاب الانتخابات، مستندين إلى ملاحظاتهم المباشرة وإخراج مندوبيهم عند الزعم بوجود عطل في البرنامج المعلوماتي لفرز الأصوات واحتسابها والمخالفات الكثيرة التي رصدتها الجمعية اللبنانية لديموقراطية الانتخابات وسقف الإنفاق المرتفع الذي سمح به قانون الانتخابات وفاقمته الممارسات المعهودة. وكذلك سارعوا إلى استعادة قراءتهم المتردّدة لقانون الانتخابات نفسه، وحمّلوه قسطاً وافراً من مسؤولية هزيمتهم، معتبرين أنه اعتمد نسبية مشوّهة وانطوى على روحية ما سُمِّي «القانون الأرثوذكسي» الأكثري ــ الطائفي، ولا سيما في اعتماده الصوت التفضيلي ورفع الحاصل الانتخابي المطلوب لتأهيل كل لائحة والتقسيمات الإدارية المراعية للقوى المُسيطرة وزعمائها. أيضاً وأيضاً، سارع المهزومون إلى تجديد تمسّكهم بوهم وجود «الأكثرية الصامتة» التي بقيت صامتة، مستندين إلى نسبة الاقتراع المتدنية مقارنةً بانتخابات عام 2009، وفق ما أعلنته وزارة الداخلية. لقد ترك ذلك انطباعاً خادعاً بأن نصف الناخبين والناخبات استنكفوا عن تأدية «الواجب الانتخابي»، ووصل الأمر ببعض الاستنتاجات إلى التعبير عن قناعة بأن عدم الفوز في الانتخابات هو «عثرة» تقنية، إذ لم ينجح «البدلاء» في تقديم أنفسهم وبدائلهم، أو لم يُمكَّنوا من ذلك بسبب الهيمنة على الإعلام و«جشع» أصحاب التلفزيونات وسطوة قوى الأمر الواقع، وبالتالي لم يعرف نصف المجتمع اللبناني بوجود البدلاء ولا بوجود البدائل، أو أنهم لم يصدّقوا أو خافوا ولم يشعروا بالحماسة أو الأمان للذهاب أفواجاً إلى صناديق الاقتراع والتعبير عن سخطهم وقرفهم وعدم ثقتهم بالطبقة «السياسية» الحاكمة! وهنا بيت القصيد.
هل هذه هي حقّاً حالة المجتمع اللبناني؟ هل السبب هو جهل الناس بوجود البدلاء؟ وهل قُدِّم بديل بالفعل، ولكن الناس لم يختاروه، أو لم يصدّقوه؟ هل صحيح أن نصف اللبنانيين لم يشاركوا في الانتخابات لأيِّ سبب كان؟
يمكن، بسهولة، إثبات أن نسبة الاقتراع المُعلنة (أقل من 50%) هي نسبة مشكوك في صحّتها، وهي في الواقع أعلى بكثير، على الأقل في التحليل الموضوعي الذي يرتكز على عدد الناخبين المُقيمين في لبنان لا عدد المسجّلين على لوائح الشطب، التي تستند إلى آخر إحصاء للسكّان جرى في لبنان عام 1932، أي قبل 86 سنة، وما أضيف إلى المسجّلين عليها في حينه عبر مراسيم التجنيس وقوانين استعادة الجنسية ومنحها. فبحسب آخر تقديرات إدارة الإحصاء المركزي لعدد المقيمين في لبنان عام 2012، ممن يحق لهم الانتخاب قانوناً، يمكن أن تصل نسبة الاقتراع إلى 86%. لا يعني ذلك أن هذه النسبة هي الصحيحة، بل يعني أن نسبة الاقتراع راوحت بين 50% كحدّ أدنى و86% كحدّ أقصى، ولن يكون ممكناً الجزم بنسبة الاقتراع الصحيحة بأي انتخابات ما دام هناك إصرار على عدم إجراء أي تعداد للسكّان (دولة لا تعرف ناخبيها - رأس المال - 14 أيار/ مايو 2018).
بعيداً عن أيّ معيار علمي، لنفترض (مجازاً) أن نسبة الاقتراع تقع ما بين بين، فهذا يعني أن 70% تقريباً من الناخبين الحقيقيين قد اقترعوا، أي الناخبين الموجودين في الواقع (مُقيمين في لبنان وغير مُقيمين ما زالوا متصلين به) وليس في الخيال، وهذه نسبة لا بأس بها، وتُعبّر عن مشاركة واسعة في الانتخابات لا العكس. كذلك فإنها تُعبّر عن أن أكثرية الناخبين الساحقة جدّدت للقوى السياسية المُهيمنة، مع بعض التعديلات الطفيفة، وأعلنت مجدّداً أنها غير ميّالة إلى التغيير في شكله المطروح، على عكس ما ظنّ المهزومون واعتبروا أن الظروف الموضوعية أينعت لقطف ثمار «التغيير» الذي تنشده أكثرية اللبنانيين.
يدلّ ذلك على جهل هذه النخب «المهزومة» بواقع المجتمع اللبناني، أكثر مما يدلّ على جهل هذا المجتمع بوجود «البديل» وبوجود اللحظة السانحة للتقدّم نحو التغيير وإرسال رسالة واضحة تقول إن «الكيل طفح». وهذان «الجهلان» ليسا من مسؤولية الناخبين، كما تفترض فلسفة «المجتمع المدني» و«الحركات الاجتماعية» الشائعة، التي تنظر إلى الفرد بوصفه وحدة مستقلّة تماماً تمتلك خياراً حراً وتتفاعل مع الحقيقة وتسعى إلى إرساء قيم الأخلاق. فالمسؤولية أولاً وأخيراً تقع على الذين يتنطحون إلى لعب أدوار «الطليعة» التبشيرية، من دون أن يكونوا قادرين على تقديم أي جواب على أي مشكلة أو إشكالية مطروحة، بدءاً من معضلة سلاح حزب الله وصولاً إلى معضلة السكن (مثلاً) أو الكهرباء أو حتى زحمة السير، مروراً بمعضلة اللاجئين ومعضلات الهجرة والعمالة الوافدة وطغيان الريع على الاقتصاد وسيطرة «المالية» على الاقتصاد السياسي.
يظنّ المهزومون أنهم أكفأ من الفائزين لإخراج النظام من أزمته، أو يظنون أنهم الأصدق ويتمتّعون بنظافة الكفّ التي ينادي بها الناس، لذلك لم يبشّروا إلا بالكفاءة في مواجهة الفشل، ولم يعِدوا إلا بالنزاهة في مواجهة الفساد... ولكن هل أزمة المجتمع اللبناني هي أزمة نقص بالكفاءة والنزاهة؟ لنبدأ المراجعة من هذا السؤال، ولنرَ أي تغيير هذا الذي يُتوقع أن يستحوذ على أكثرية ناخبة، وهو لا يقدّم نفسه إلا كعمل «استشاري» موهوب، يشبه الأعمال التي توفّرها مؤسّسات محلّية وعالمية، وضعت أطناناً من التقارير وأوراق العمل البارعة جدّاً في التشخيص والمُتلعثمة جدّاً في التوصيات.
وللحديث تتمة.