يبدو أن صندوق النقد الدولي لم يبقَ له مكان في العالم يعيث فيه تدميراً إلا المنطقة العربية، بعد تجاهله والاستغناء عن «خدماته» وحتى طرده من أنحاء العالم. فتاريخ الصندوق الأسود الذي تُعدّ وصفاته، مجموعة من الاقتصاديين اليمينيين، أخذوا الصندوق رهينة منذ الثمانينيات، يأتي اليوم إلى الأردن، كما أتى إلى تونس منذ أشهر، وكما فرض وصفاته على مصر أيضاً.
(رأفت الخطيب ــ الأردن)

بالطبع، لا يمكن فصل سياسات الصندوق عن الهجوم الثلاثي الأبعاد لليمين العالمي منذ الثمانينيات: على الدول النامية التي أرادت تنمية مستقلة، وعلى الطبقة العاملة والنقابات في الدول الرأسمالية المتقدّمة (ثم أتى دور الطبقة المتوسطة اليوم في تطبيق لقصيدة الأب اللوثري الألماني مارتن نايمولر «في البدء أتوا على الاشتراكيين...» التي عبّر فيها عن ندمه لعدم رفع صوته مُبكراً ضد النازيين)، وعلى دول المنظومة الاشتراكية عبر رفع وتيرة التسلّح العسكري وحرب النجوم وتسليح العصابات المتخلّفة في أفغانستان.
أوصلت هذه السياسات الكثير من الدول إلى شفير الهاوية، عبر فرض التقشّف وتفكيك القطاع العام والخصخصة ورفع الضرائب الاستهلاكية ورفع الفوائد وغيرها من الإجراءات التي تزيد من الفقر وعدم المساواة. كل هذه الأمور تُغلّف بالحاجة إلى التثبيت المالي عند حصول أزمة مالية، أو إذا كانت البلاد بحاجة إلى ضخّ للعملة الصعبة، فيأتي الصندوق مُتسلحاً بنظريات أصبحت بائدة، لا ترى في أصل المعضلات إلا الإنفاق العام والخاص، ودعم المواد الأساسية مثل الطحين والطاقة، وأجور القطاع العام؛ وأنظمة التقاعد والضمان الاجتماعي؛ ووجود مؤسسات تملكها الدولة. وعندها تطلق الماحقة الاقتصادية في ما يسمى «رزمة شروط الصندوق» أو الـ IMF conditionality.
طبعاً، سطحياً ومحاسباتياً قد تبدو الأمور منطقية. ماذا تفعل إذا كان لديك عجز خزينة؟ يجب خفض الإنفاق العام وأجور القطاع العام وإنفاق أنظمة الضمان الاجتماعي. ماذا تفعل إذا كان لديك عجز في ميزان المدفوعات؟ يجب خفض الإنفاق العام والخاص ورفع الضرائب على الاستهلاك... وهكذا دواليك من أسئلة وأجوبة. لكن الأسئلة المُلحّة هي: من يدفع ثمن هذه الإجراءات؟ وهل هي الطريق الوحيد؟ ولربّما السؤال الأهم: ما المعضلات الاقتصادية الأساسية التي يواجهها العالم العربي، التي منها تنبثق جزئياً هذه الظواهر التي يفرض الصندوق آراءه حول حلّها؟

لا مفارقات هنا
أولاً، إن تركّز الثروة والدخل في أيدي القلّة، وتراجع القدرة الإنتاجية للاقتصادات العربية والتراجع التكنولوجي هي المعضلات الأساسية، وإن سياسات الصندوق تزيد هذه المعضلات سوءاً، وخصوصاً عدم المساواة في العالم العربي، وهي واضحة بالعين المجرّدة. الاقتصادي برانكو ميلانوفيش في معرض تحليله أخيراً لتزايد عدم المساواة في أوروبا الغربية، بدأ مقالته بالملاحظة (أو المفارقة) الآتية: «كل من يسافر عبر أوروبا الغربية، وخصوصاً في الصيف، سينبهر حتماً بجمال القارة وغناها وبجودة الحياة فيها». باستعارة منه، ماذا يمكن أن نقول عن أي مسافر في أصقاع المنطقة العربية، غير أنه سيحزن من درجة الفقر والتهميش والتدمير، بالإضافة إلى تدنٍّ واضح في «جودة» الحياة حتى الموت أحياناً! فبالتأكيد لا مفارقة هنا.

طمس عدم المساواة
ثانياً، إن تركّز الثروة والدخل في المنطقة ليس فقط واضحاً للعين المجردة فحسب، بل أصبح إلى درجة لا يمكن حتى المؤسسات الدولية أن تستمر في تجاهله، وهي التي كانت لفترة طويلة لا يعنيها هذا الأمر، بل حتى إن سياساتها ساهمت في تفاقمه، مثل سياسات البنك الدولي. لكن على الرغم من ذلك، يرى البنك أن عدم المساواة في العالم العربي غير مرتفع في ما سمّاه «أحجية اللامساواة العربية».
يجب رفع شعار في وجه صندوق النقد وشروطه: «إذا كان لا بد من حرب فلتكن حرباً طبقية»

كذلك فإنه يحاول طمس عدم المساواة في الثروة. الأمران غير صحيحان، فعدم المساواة في الدخل مرتفعة، وعدم المساواة في الثروة مرتفعة جداً. وهذا الأمر يبدو جلياً وفق طرق احتساب يتجاهلها البنك الدولي في تحليله. فهو، في هذا الإطار، يحاول أن يضع المعضلة في المنطقة العربية على أنها فقط تراجع في حظوظ الطبقة المتوسطة وموقعها، ما يفسّر دورها في الربيع العربي.

النقابات ضعيفة والاحتكار قوي
ثالثاً، إن أحد أهم مظاهر اللامساواة في المنطقة العربية، هو تدنّي مستوى حصّة الأجور من الناتج المحلي، التي تُعَدّ من الأدنى في العالم. وهذا يعني ارتفاع مستوى العوائد المُتأتية من الأرباح والريع والفوائد التي تذهب إلى مالكي الرأسمال نسبة إلى العائد المُتأتي من العمل. ويُبيّن هذا المؤشر بالتحديد أن المسألة هي ليست تراجع طبقة مُبهمة التعريف مثل «الطبقة الوسطى»، التي يحاول البنك الدولي أن يرفع لواءها، لكنّ المسألة هي انقسام الدخل بين الرأسماليين والعاملين بأجر، وأن هذا الأمر الذي ينبثق من علاقات الإنتاج الرأسمالية هو أساسي، ولا يمكن معالجته من دون تغيير موازين القوى بين الرأسمال والعمل. مجلة «الإيكونوميست» المُحافظة نشرت أخيراً مقالاً حول هذا الأمر تُبيّن أن ضعف العمّال والنقابات وتمركز الاحتكار في الشركات هما السببان الأساسيان لتراجع الأجر في الدول المتقدّمة. وتشير إلى دراسة تُقدّر أن ازدياد الاحتكار يؤدي إلى تراجع حصة الأجور من الناتج بمقدار الخُمس. في المنطقة العربية، النقابات ضعيفة والاحتكار قوي.

سيطرة السلالات
رابعاً، إن ارتفاع عوائد الرأسمال في المنطقة العربية، بالإضافة إلى ارتفاع حصة الثروة والريع من الناتج، يؤدّيان على المدى الطويل إلى زيادة متسارعة في عدم المساواة بنحو دراماتيكي، ما يُعزّز سيطرة السلالات المُتحكّمة في الاقتصاد عبر التوريث والملكية، وبالتالي يصعب عكسها عبر إجراءات طفيفة من هنا وهناك. وهكذا يصبح التملّك للأصول والعقارات والمؤسسات الكبرى والثروة المالية، التي هي بأيدي القلّة أصلاً، مصدراً لتزايد تمركّز هذا التملّك وللاستقطاب الحادً، جاعلاً المجتمع ينقسم إلى قلة تملك وأكثرية ساحقة لا تملك، بل أكثر من ذلك، أكثرية ذات أجور متدنية وعوائد على عمل هامشي متدنية جداً وغير مستقرّة.

سياسات راديكالية
خامساً، حصل في الأردن أن استقالت حكومة وجاءت أخرى. إلا أن الأمر لا يمكن أن يقف هنا عبر وعود ليبرالية مُبهمة مثل «أتعهّد بالحوار مع مختلف الأطراف، والعمل معهم للوصول إلى نظام ضريبي عادل ينصف الجميع ويتجاوز مفهوم الجباية، لتحقيق التنمية التي تنعكس آثارها على أبناء وبنات الوطن، لتكون العلاقة بين الحكومة والمواطن أساسها عقد اجتماعي واضح المعالم مبني على الحقوق والواجبات»، كما قال عمر الرزاز، رئيس الحكومة الأردنية المُكلّف، وكأنها من كتاب التربية المدنية. إن الحكومات في المنطقة العربية واجهت الانتفاضات إما بالرصاص أو بالثورة المضادة، وإما بالمراوغة السياسية كما يحدث الآن. آن الأوان لأن يحدث غير ذلك، وأن تُغيَّر السياسات الاقتصادية لمصلحة الطبقات العاملة. المطلوب سياسة تنمية جديدة مع إعادة توزيع هائلة في الدخل والثروة عبر سياسات راديكالية تطاول قوة الرأسمال وملكيته.

الحروب الثقافية تقضي على الحرب الطبقية
طبعاً يحدث كل هذا والمنطقة تعاني من مناظرات وصراعات تنتمي إلى «صراع الحضارات» على أنواعها. والشعوب العربية، إلى حدّ كبير، ترى في الديموقراطية مسابقة رياضية. هذا الأمر ليس حكراً علينا، فـ«الإيكونوميست» ذكرت في الأسبوع الماضي أن هذا الأمر يحصل أيضاً في الولايات المتحدة، عندما قالت إن الناس لا يصوّتون طبقاً لمصالحهم الاقتصادية، وسبب ذلك يعود إلى «الانقسام الثقافي المُتزايد في الحقل السياسي في أميركا. فالحروب الثقافية تقضي على الحرب الطبقية»!

أحد أهم مظاهر اللامساواة في المنطقة العربية، هو تدنّي مستوى حصّة الأجور من الناتج المحلي، التي تُعَدّ من الأدنى في العالم


إن اللامساواة تبدو وكأنها أصبحت كلمة على كل لسان وعلى أجندة كل السياسيين وفي كل الإعلام، لكنها في إكثر الأحيان تفقد معناها في هذه المساحات ولا تعبّر عن كونها «أكثر المسائل المشحونة سياسياً والأكثر تحدّياً أخلاقياً في زمننا الحاضر»، كما ذكرت مقالة نشرت أخيراً في الـChronicle of Higher Education. من هنا، ربّما هناك إيجابية في هذه السياسات التي يفرضها صندوق النقد الدولي في أنها تنقل اللامساواة من كونها مجرّد كلمة إلى دائرة الفعل السياسي، وقد تعيد الصراع الطبقي إلى قلب السياسة العربية، وإلى العودة إلى أصول الربيع العربي بعد أن أنهكتها النزاعات المذهبية والإثنية. فبوجه إجراءات الصندوق يجب رفع شعار «إذا كان لا بد من حرب، فلتكن حرباً طبقية». على الأقل، هذه الحرب تحمل في طيّاتها التقدم التاريخي بدلاً من الحروب الحالية التي تُغرق الشعوب العربية في أوحال التخلّف والظلامية.