تحتوي خزنة البنك المركزي على أكثر من 64000 مُغلف مُغلق عبارة عن تصاريح ذمم مالية قُدّمت منذ تاريخ إقرار قانون الإثراء غير المشروع عام 1954 دون فتح أي مُغلف!
تهدف الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد الى إرساء الشفافية المُتمثلة بحق الوصول الى المعلومات، وخاصة المتعلقة منها بالصفقات العامة والقرارات الإدارية والقضائية والتعاميم ونشر الأحكام والتقارير الدورية والسنوية الصادرة عن القضاء، أو تلك الصادرة عن أجهزة الرقابة، والإعلان عن نتائج التحقيقات النهائية المُحالة أمام المحاكم، وكذلك الإعلان عن الأحكام القانونية ذات الصلة. كما تهدف إلى تفعيل المُساءلة، وصولاً الى معاقبة مرتكبي الفساد وشركائهم دون أي عائق دستوري أو إداري أو قضائي أو أي حسابات سياسية.
أما أهم مقومات نجاح الاستراتيجية، بحسب اللجنة، فهو وجود قيادة سياسية حازمة وعالمة بمكامن الفساد وآثاره الخطيرة على الدولة والناس والمجتمع. وتكون هذه القيادة بمثابة المثل الصالح والقدوة لجميع المسؤولين والمواطنين على حد سواء، وتملك إرادة راسخة ومصممة وتتمتع بالصلاحيات الضرورية والكافية لاتخاذ القرارات الصائبة والجريئة، بغية التصدي للمفسدين والفاسدين ومحاكمتهم واسترداد الأموال التي حصلوا عليها جراء أعمالهم الفاسدة.
ولكي لا تبقى الاستراتيجية حبراً على ورق، حرصت الوزيرة عز الدين على أن تتضمن الاستراتيجية اقتراحات عملية وخططاً تطبيقية قصيرة الأجل، ومتوسطة وطويلة، قُدمت الى كل من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وإلى الهيئة العليا للتأديب وديوان المحاسبة ومجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي، كما قدمت اقتراحات الى وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والقطاع الخاص والهيئات الاقتصادية. وأكدت عز الدين أن تبنّي مجلس الوزراء الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد ومخططها التنفيذي وإقرارها، من شأنه أن يؤكد على مدى التزام الجمهورية اللبنانية بتطبيق أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، ويعكس على الصعيد الداخلي إرادة جدية في التعاطي الرسمي والوطني مع موضوع الفساد.
كيف يمكن أن يتحقق ذلك في ظل الطبقة المتحكمة؟
يستشري الفساد في جميع مفاصل المجتمع والدولة في لبنان، وبكل أشكاله من اختلاس أموال ومحسوبية ومحاباة ونهب للمال العام والابتزاز والرشوة، حتى أصبح الفساد في لبنان عرفاً من الأعراف وبات مقبولا ومبرراً لدى شريحة واسعة من اللبنانيين. ومعه بات لبنان يُعتبر من أكثر دول العالم فساداً، إذ يحتل المرتبة 136 من أصل 176 دولة في مؤشر مدركات الفساد، بحسب منظمة الشفافية الدولية، كما يحتل مراكز متدنية جداً في كل المؤشرات التي تُعنى بقياس النزاهة والشفافية والمحاسبة والمساءلة التي يصدرها البنك الدولي والمؤسسات الدولية.
تبلغ الكلفة السنوية للفساد في لبنان حوالى 10 مليارات دولار أو ما يعادل 20% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، تتوزع بين خسائر مباشرة على خزينة الدولة، ناتجة من الفساد في التخمين العقاري والجمارك والوزارات والمؤسسات التي تقدم خدمات عامة والأملاك البحرية والنهرية والمخالفات والضرائب والرسوم وغيرها، وبين خسائر غير مباشرة، عبر الفرص الاقتصادية الضائعة التي كان بإمكان هذه الأموال المهدورة تأمينها.
أمام هذا الفساد البنيوي المتجذر، القائم على استغلال السلطة وتطبيق منظومة زبائنية في الدولة لتجيير الخدمات العامة الى خدمات خاصة، تصبح أي استراتيجية لمكافحة الفساد عديمة الجدوى ما لم تقترن برحيل الطبقة السياسية المُتحكمة بزمام السلطة، إذ مهما عملنا على إقرار قوانين وتشريعات تحارب الفساد وإنشاء هيئات رقابية ولجان وطنية لمحاربة الفساد لا يمكن الوصول الى نتيجة اذا كان المسؤول عن تفشي الفساد هو نفسه من يملك سلطة التشريع والتنفيذ والرقابة والمحاسبة.
منذ تاريخ إنشاء دولة لبنان الكبير في سنة 1920 ولغاية يومنا هذا، لم يعاقب أيٌّ من السياسيين على جرائم الفساد واستغلال السلطة لتحقيق غايات محض شخصية!
إن أقصى ما يمكن الوصول اليه في ظل هذه المنظومة القائمة هو معاقبة بعض المرتكبين من صغار الموظفين، كما هي الحال القائمة الآن، إذ بلغ مجموع الملفات الواردة من التفتيش المركزي الى الهيئة العليا للتأديب 9 ملفات خلال الفترة الممتدة بين عامي 2013 و2016! تعود بمعظمها لأُجَراء ومستخدَمين وحُرًاس وغيرهم من صغار الموظفين. إن التحالف القائم بين السياسيين وموظفي الدولة والسلطات القضائية والأمنية يشكل مافيا تجعل من مكافحة الفساد أمراً مستحيلاً، والأمثلة على ذلك كثيرة، فالهيئة الأولى المسؤولة عن المحاسبة والمساءلة في البلد، المتمثلة بالمجلس النيابي لا تقوم بدورها نتيجة التوافق السياسي. فمنذ 1992 حتى يومنا هذا، عقد مجلس النواب 19 جلسة استجواب للحكومة، أي أقل من جلسة واحدة في السنة، في حين تعقد المجالس البرلمانية في الدول الأخرى جلسات مساءلة أسبوعية. مثال آخر على عدم جدوى الكثير من القوانين ذات الصلة في ظل التوافق السياسي القائم هو قانون الإثراء غير المشروع، الذي يفرض على كل متولّي سلطة عامة تقديم تصريح ذمة مالية عن أمواله وممتلكاته. تحتوي خزنة البنك المركزي على أكثر من 64000 مُغلف مُغلق عبارة عن تصاريح ذمم مالية قُدّمت منذ تاريخ إقرار قانون الإثراء غير المشروع عام 1954 دون فتح أي مُغلّف!
في النتيجة، قبل أن يتيقن الفاسد من أنه سوف يدفع ثمن فساده بالحبس، وحتى تُرفع الحصانات عن المرتكبين وكبار الموظفين، سوف تبقى أي استراتيجية لمكافحة الفساد حبراً على ورق تُقرأ يومياً ولا تُنفذ يوماً.
* أستاذ جامعي ـــ رئيس جمعية خبراء كشف الاحتيال المالي المُجازين – فرع لبنان
(1) تشكلت اللجنة برئاسة القاضي سعيد ميرزا وعضوية ممثل عن كل من: النيابة العامة التمييزية، ديوان المحاسبة، وزارة الداخلية، وزارة المال ووزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية وبالتعاون مع المشروع الإقليمي لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة في البلدان العربية التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي