«إنها التقنية المعتادة للخصخصة: أن تُوقف التمويل وتتأكّد أن الأشياء لا تعمل وبالتالي يصبح الناس غاضبين، ثم تسلّم كل شيء للرأسمال»ناوم تشومسكي

في عام 2017 أجرت مؤسّسة Pew الأميركية استطلاعاً للرأي حول أمور سياسية عدّة في 38 بلداً. وفي الجواب على حول مدى رضا المواطنين على عمل الديموقراطية في بلادهم، أتى لبنان في المرتبة قبل الأخيرة، حيث 8% فقط من اللبنانيين لديهم ثقة بها، تليه المكسيك بـ6%. في 6 أيار/ مايو 2018 أعاد اللبنانيون انتخاب الطاقم السياسي نفسه الذي لم يكونوا يؤمنوا بأهليته الديموقراطية، وفي الأول من تموز/ يوليو انتخب المكسيكيون اليساري لوبيز أوبرادور رئيساً للبلاد في انتصار ساحق لليسار ضد السلطة الحاكمة أذهل الجميع! حدثٌ آخر هذا الشهر كان جميلاً حيث شكّل مناسبة للبرهان على أهمية «القوة المضادة»، كما يسمّيها روبرت رايش، وزير العمل إبّان عهد كلينتون. ففي 5 تموز/ يوليو كانت الذكرى الـ70 لإنشاء «النظام الصحي الوطني» أو الـNHS في بريطانيا. في ذلك اليوم أضاءت بريطانيا معالمها في أرجاء البلاد بالأزرق، واحتفل الناس جماعات وأفراد بهذه الذكرى دفاعاً عن حق اكتسبوه، ليس لهم كأفراد، بل لمجتمع بأكمله ولأجيال قادمة، فكما قال السياسي العمّالي وأبو الـNHS ناي بيفان: «ليس هناك من مجتمع يمكن أن يعتبر نفسه متحضّراً، إذا كان هناك شخص مريض مُنعت عنه العناية الطبية بسبب عدم مقدرته على ذلك». وهذه المناسبة تجعلنا نفكّر متى في لبنان نحتفل، بهذا الشكل، بشيء استطاع المجتمع كلّه أن يبنيه للمجتمع كلّه وليس لفئة أو لطبقة أو لطائفة؟ بعض الأمور التي في هذه الذكرى من وحي تجربة أو محاولة إنشاء شيء شبيه أو حتى مساوٍ للـNHS في لبنان، ألا وهو مشروع التغطية الصحية الشاملة التي تقدّم به وزير العمل شربل نحّاس في عام 2011 والذي تم رفضه، بل محاربته من جهات عدّة.
(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

أولاً، من نتيجة الانتخابات يبدو أننا سننتظر وقتاً طويلاً حتى يحدث أي نوع من التغيير، وحتى ذلك الوقت سيبقى اللبنانيون يحتفلون بأمور خارجة عن سيطرتهم، ويقبعون في حالة صعبة من الغربة. إن هذا الأمر ينبع أساساً من «الوعي المغلوط»، الذي تحدّث عنه فريديرك أنغلز في القرن التاسع عشر، حيث أن النظام الطائفي يخلق وعياً موازياً لدى الأفراد والجماعات يُماهي مصالحهم الاقتصادية مع مصالح طوائفهم السياسية. لذلك نرى اليوم أن «صراع الأحجام» بين ممثلي الطوائف يلهب مشاعر أفراد الطوائف أكثر من أي شيء يحقّق مصالحهم إن أتى عبر الاصلاح أو عبر «الصراع الطبقي». كما أن هذا ينبع أيضاً من نزعة فردية مركنتيلية ما قبل رأسمالية ترى الطريقة الوحيدة للحصول على مصالحها هي على حساب مصالح الآخرين، وهذه النزعة تدفع حتى غالبية الفئات المتعلّمة تعليماً متقدّماً إلى أن تنتمي إلى جيش المدافعين عن النظام (apologists) الذي يعمل على إبقاء الأمور كما هي. وكان هذا جلياً عام 2011 كما في 2018.
ثانياً، إن مشروع التغطية الصحية الشاملة لم يكن جزءاً من «الخدمات» التي يعطيها السياسيون إلى الشعب، كما لم يكن «تعميماً» لهذا الأمر. ربّما لذلك لم يُفهم ولم يَدخل في إطار الصراع على المصالح ليكون له مؤيدون ومعارضون يشعلون الإعلام على جميع أنواعه، كما يحدث اليوم في موضوع البواخر، والذي ليس هناك سبب اقتصادي كبير ليبرّره. فحصول اللبنانيين على الرعاية الصحية يجب أن يكون حقاً يناضل اللبنانيون من أجل الحصول عليه، وهو ليس «منّة» من أحد. فكما ذكر أول بوستر للـNHS في 1948 متوجّهاً إلى البريطانيين «الجميع - غني أو فقير، رجل، امرأة أو طفل - يستطيع أن يستعمله... إنه ليس «عملاً خيرياً». إنكم كلّكم تدفعون في شكل أساسي كدافعي ضرائب». ومشروع 2011 في لبنان كان كذلك: للجميع ومبني على التمويل من الضرائب على الثروة والمداخيل الريعية لتحويلها إلى إنشاء مؤسّسة قد يشعر اللبنانيون يوماً ما بالفخر بها؛ ولكن الأهم أنها كانت ستشكّل ملجأ للباحثين عن عناية في أوقاتهم الصعبة، وتحول الصحة من «خدمة» بالمعنى الزبائني إلى خدمة عامّة غير موزّعة وفق آليات السوق، أي وفق المقدرة على الدفع. فربّما عندها كان سيحدث، كما وصف فرانكي بويل تجربة له مع الـNHS ، وكيف أن صبياً وجد فيه «المكان الوحيد الذي حصل فيه على أي نوع من الطيبة وأراد ردّ هذا الدين للجميع».
ثالثاً، إن هذا الحق هو ليس أمراً خارج السياق التاريخي، فهو نتاج الحركة الديموقراطية التي نشأت في العالم مع بدايات الحركة الاشتراكية في القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا. وهنا أريد أن استشهد فقط بما قاله بيرني ساندرز عند وصفه ماذا تعني الديموقراطية الاشتراكية: «أعتقد أن [الاشتراكية الديموقراطية] تعني أن الحكومة عليها أن تلعب دوراً مهمّاً للغاية في التأكد من أن جميع مواطنيها يتمتعون بالرعاية الصحية كحق من حقوق المواطنة؛ وإنه كحق لجميع أطفالنا، بغض النظر عن الدخل، أن يحصلوا على رعاية أطفال جيدة، وقادرين على الذهاب إلى الجامعات من دون أن يغرقوا في الديون؛ وهي تعني ألا نسمح للشركات الكبرى والمصالح المالية بتدمير بيئتنا؛ وهي تعني أن نُقيم دولة لا تُهيمن عليها المصالح المالية الكبرى». اليوم في الولايات المتحدة فازت المرشّحة الديموقراطية الاشتراكية ألكسندرا كورتيز في بروكلين في السباق بين الديموقراطيين لأنها حملت هذه الشعارات التي تماهت مع مصالح الطبقة العاملة في بروكلين من جميع الأعراق والإثنيات.
رابعاً، إن نظام الرعاية الشامل لا يمكن الاستعاضة عنه بـ«نظام» المستشفيات الحكومية ووزارة الصحة كما هو الوضع حالياً. فالمستشفيات الحكومية في وضع سيء، ليس لأنها حكومية، بل لأنها تُبنى لأسباب «توزيعية» لها علاقة بالمحاصصة الطائفية والمذهبية، وليس من أجل «الصحة للجميع». وبعد بنائها يتم إهمالها على الصعد كافة، فتصبح أصرحة فارغة تستجدي حتى الرأسمال والأغنياء والإعانات الخاصة من أجل الاستمرار. وهي نوع من «الاستراتيجية» التي وصفها تشومسكي. كما أن الصراع على وزارة الصحة والوزارات «الخدماتية» من ضمن النظرة الدونية والتي تضع المصالح الفئوية فوق كل اعتبار، تعكس عدم فهم أهمية التضامن الاجتماعي التي من دونه سيبقى المجتمع اللبناني يعاني من آثار الفردية والتوحش والأنانية.
الأسواق الحرّة لا تستطيع أن تقدّم السلع الصحية بعدالة ولا بكفاءة


خامساً، إن الأسواق الحرّة والقطاع الخاص لا تستطيع أن تقدّم السلع الصحية لا بعدالة ولا بكفاءة على حدّ سواء. فالقطاع الصحي عانى ولا يزال من فائض العرض في التكنولوجيات المتقدّمة والأطباء والأسرّة الزائدة والتركّز المناطقي، ما يرفع الكلفة على المجتمع ككل (على الرغم من تباطؤ هذا الأمر في الفترة الأخيرة). صحيح أن الكثير من اللبنانيين يحصلون على الطبابة ولكن بكلفة عالية ما يحرمهم من استعمال مداخيلهم في أمور أخرى حياتية مُلحّة إن لم تكن ترفيهية أو ثقافية. كما أن التراتبية العالية بين المستشفيات والأطباء والذي تعاني «سوقهم» من ظاهرة «الفائز يأخذ كل شيء» قد تؤدي إلى ظاهرة الاستعمال الزائد للفحوصات وللإجراءات الطبية غير الضرورية للمحافظة على الدخل في تنافس يرفع من عدم الكفاءة الاقتصادية.
هناك شيء سيء بالعمق في بلد انتفض بعض من شعبه من أجل رفع النفايات، بينما عمّال القطاع كلّهم أجانب، وبينما يتنافس الكثيرون لجني الأرباح منها! هناك شيء سيء بالعمق في بلد يُشتكى فيه ليلاً ونهاراً من لاجئين فقراء أتوا إلى أرضه هرباً من الموت ثم تُضفى الجنسية على الأغنياء وذوي النفوذ من أبناء جلدة هؤلاء الفقراء أنفسهم؛ هناك شيء سيء بالعمق في بلد يحكم اقتصاده، إن لم تكن سياساته أيضاً، المصرفيون والتجّار والأثرياء الجدد بينما هؤلاء لا يدفعون من الضرائب شيئاً يُذكر ومتعلّميه يعملون لدى هؤلاء؛ هناك شيء سيء بالعمق في بلد بلغت المحاصصة الطائفية فيه حدّاً أنست الناس مصالحهم الحقيقية. وهناك شيء سيء بالعمق في بلد يصدّر شبابه المُتعلّم بدلاً من سلع ينتِجها هؤلاء. ولكن هناك شيء أسوأ لربّما من كل ذلك في بلد يدّعي التحضّر، فكل يوم هناك شخص على الأقل لا يستطيع أن يحصل على العناية لمرض أو إصابة وذلك يُخْضعَه إما لنظام سياسي بائد أو ليقف حائراً على شباك الدفع في المستشفيات أو أمام متطلّبات شركات التأمين. فمتى ينتهي كل ذلك؟