ما يلفت في دراسات الفقر في لبنان أنها، منذ أواسط التسعينيات، تدور دائماً حول النسب نفسها تقريباً (حوالى ثلث الأسر تعيش دون خط الفقر)، مهما كانت منهجية القياس والجهة التي تنفذ الدراسة. وبمقدار ما يمكن اعتبار ذلك مصدر ثقة بالنتائج، إلا أنه في المقابل يطرح علامات استفهام جدية، ولا سيما أنه لا توجد مرجعية علمية ولا مرجعية مؤسسية رسمية أو شبه رسمية تقيم المنهجيات المعتمدة والنتائج، أو تسعى إلى إيجاد إطار علمي وطني لقياس الفقر في لبنان المتروك لاجتهاد الأفراد أو المؤسسات الوطنية أو الدولية، الحكومية وغير الحكومية، بشكل شبه مطلق.
انقر على الرسم البياني لتكبيره

هذا المقال، يتخذ من دراسة "الأحوال المعيشية للأسر في لبنان 2015"، الصادرة أخيراً عن المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، مدخلاً إلى تناول هذه القضية الشائكة. وهو يعرض أولاً النتائج العامة للدراسة ومنهجيتها، مع التركيز على قياس الفقر تحديداً، ثم ينتقل في قسم ثان إلى عرض الإشكالية المثارة أعلاه، واقتراح مبادرة للتعامل معها.
نشر المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق دراسة إحصائية بعنوان "الأحوال المعيشية للأسر في لبنان 2015، النتائج والمؤشرات العامة والمناطقية"، وهي أحدث دراسة وطنية تتضمن تقديراً لنسب الفقر في لبنان، وتأتي بعد دراسة نفذتها إدارة الإحصاء المركزي مع البنك الدولي عامي 2011/2012، ونُشر موجزها عام 2015.
اتبعت الدراسة الأخيرة منهجية علمية مشابهة لتلك المعتمدة في التقارير التي تصدرها الجهات الدولية ودراسات إدارات الإحصاء، سواء لجهة تنفيذ الدراسة الميدانية، أو لجهة طريقة العرض، بحيث أتى التقرير مشابهاً من حيث المواصفات والتصميم للتقارير الدولية في هذا المجال، ولا سيما لجهة تضمين التقرير عرضاً مفصلاً للمنهجية المعتمدة. وهذه نقطة تسجل لمصلحة أصحاب التقرير، إذ إن ذلك يسهل القراءة والمقارنة، ويرسم إطاراً مرجعياً للدراسة يمكن المختصين التعامل معه بوضوح. لا يعني ذلك أن الدراسة ليس فيها ثُغَر (وهذا أمر طبيعي)، إلا أن هذه الثغر لا تنفي الطابع العلمي الموضوعي الإجمالي للدراسة.
تم تنفيذ الدراسة على مرحلتين، وهذه إحدى النقاط التي تؤثر سلباً على النتائج. ففي مرحلة أولى، تم استيفاء استمارات 5016 أسرة عامي 2013 و2014، ثم في مرحلة ثانية تم استيفاء 1021 استمارة عام 2015 (أي أن إجمالي العينة بلغ 6037 أسرة)؛ ويشكل الانقطاع والفاصل الزمني بين مرحلتَي العمل الميداني، نقطة ضعف في تصميم العينة. والدراسة مكونة فعلياً من جزءين، الأول هو الدراسة الوطنية التي اعتمدت عيّنة صغيرة (1307 استمارات)، وهي العينة التي اعتمدت في قياس الفقر من خلال دليل أحوال المعيشة؛ والقسم الثاني هو عرض الخصائص العامة للمحافظات حيث اعتمدت العينة كاملة. في هذه المقالة، نتناول نتائج الدراسة الوطنية على العينة الصغيرة لكونها المعنية بموضوعنا.

عن النتائج العامة
اعتمدت الدراسة استمارة موسعة مشابهة لتلك المعتمدة في دراسات أحوال المعيشة عالمياً وفي لبنان، ويلاحظ إضافة بعض التفاصيل المتناسبة مع الوضع في لبنان (كما في التأمين الصحي حيث أمكن رصد نسبة الذين تشملهم التغطية من خلال ملكيتهم لوحة سيارة عمومية، ولم تنشر الدراسة الاستمارة في الملحق كاملة، رغم ذكر ذلك في الفهرس).
بشكل عام، أتت النتائج منطقية ومتسقة مع الدراسات السابقة، مع بعض التمايزات التي تتطلب تفسيراً. على سبيل المثال، بلغ متوسط حجم الأسرة 4 أفراد في لبنان، إلا أن التفصيل حسب المحافظات تضمن نتائج لافتة. فحجم الأسرة هو الأعلى في الشمال (4.4 أفراد) وهذا متسق مع الدراسات الأخرى، لكن اللافت هو أن متوسط حجم الأسرة في جبل لبنان (4.1) أعلى من المتوسط الوطني وأعلى منه في البقاع والجنوب والنبطية (3.4%)، وهذا مخالف للدراسات الأخرى ويحتاج الى تفسير. إن صغر حجم العينة وطنياً (1307) يجعل من دقة النتائج على مستوى المحافظات أمراً خاضعاً للمساءلة بشكل عام، وبالنسبة إلى مجمل النتائج على مستوى المحافظات. ويكون هامش الخطأ أكبر في المحافظات حيث حجم العينة أصغر أيضاً، فحصة محافظة النبطية من العينة الوطنية هي 91 استمارة فقط، وهي 118 في الجنوب. وفي حالة من هذا النوع، من الأفضل الاكتفاء بالنتائج على المستوى الوطني دون النزول الى مستوى المحافظات تلافياً للتوصل الى نتائج مضلّلة أثناء التحليل بسبب هوامش الثقة المتداخلة.
شهدت السنوات العشر الماضية تدهوراً عاماً في أوضاع كل الفئات الاجتماعية


نقطة أخرى تتعلق بالنتائج العامة ولها طابع منهجي أيضاً، وهي عدم ملاءمة التقسيمات الإدارية مع الخصائص الاجتماعية للمناطق، ولا سيما عندما يتم اختيار مناطق واسعة مثل المحافظة. إن النتائج المنشورة للقيم المتوسطة لمؤشرات محافظة جبل لبنان مثلاً ضعيفة الدلالة من الناحية العلمية، فهذه المحافظة تتميز بامتداد جغرافي واسع متراكب مع اختلافات سكانية واجتماعية واقتصادية فاقعة بين أقضيته أو نطاقاته الجغرافية: فالمتن وكسروان غير جبيل والشوف وعاليه؛ الجرود العالية غير المرتفعات المتوسطة والساحل؛ وساحل المتن الجنوبي (الضاحية الجنوبية) وساحل المتن الشمالي (الضاحية الشمالية) مناطق مدينية مكتظة لا تشبه القرى المنتشرة في المحافظة...الخ. وقد سبق لإدارة الإحصاء أن اعتمدت أكثر من مرة تصنيفاً خاصاً، حيث فصلت ضواحي بيروت عن باقي جبل لبنان تلافياً لذلك. الأمر نفسه ينطبق على الشمال أيضاً (وقد بات محافظتين مبدئياً اليوم)، فعكار والضنية مناطق ريفية، وطرابلس لها وضع خاص أيضاً، وإن تشابهت مع عكار والضنية في نسب الفقر العالية رغم أنها مدينة كبيرة، وكذلك حالة زغرتا والكورة المتمايزة من الناحية الاجتماعية...الخ. وهذه إشكالية تتطلب أيضاً جهداً رسمياً وعلمياً موحداً لوضع أطر متعددة المستويات لتحديد التقسيمات الأنسب بحسب طبيعة البحث وأهدافه، انطلاقا من التقسيمات الإدارية، ولكن من دون التقيد المطلق به. والأفضل أن يكون توافق على إطار مرن مشترك تتحرك الأبحاث الميدانية الفردية ضمنه تسهيلاً للمقارنة.
أخيراً، وفي ما يخص الملاحظات أيضاً، يحتاج التقرير الى بعض التدقيق وتصحيح بعض الأخطاء الطباعية (في الملخص يرد أن نسبة الأسر المعتبرة فقيرة 33.6% ــــ حوالى ثلث الأسر ص 17، في حين أنها في الجداول لاحقاً 36.3%)، كما لا بد من التحقق من بعض النتائج الغريبة أيضاً (متوسط حجم الأسرة في الأسر ذات مستوى المعيشة المرتفع جداً هو فرد واحد في الأسرة ــــ جدول ص 118، وأخطاء أخرى مشابهة).

عن نتائج قياس الفقر عام 2015
بناءً على ما سبق عرضه، سوف تقتصر المقارنة والتحليل في ما خص تقدير نسب الفقر في لبنان على المستوى الوطني حصراً، نظراً إلى صغر حجم العينة، وهي مشكلة تشمل دراسة الإحصاء المركزي والبنك الدولي لعام 2011/2012. ونبدأ بمقارنة نتائج قياس خط الفقر النقدي (أو ما يعرف بشكل شائع بفقر الدخل).
الدراسات اللبنانية التي تضمنت قياساً للفقر النقدي في لبنان تمت على أكثر من مرحلة. فالدارسات الأكثر أهمية التي قوّمت الفقر وقاسته كانت من قبل أفراد ومؤسسات خاصة؛ أهمها أعمال مؤسسة البحوث والاستشارات (كمال حمدان)، التي غالباً ما ارتبطت بعمل لجنة المؤشر وتصحيح الأجور، ومعها دراسة الإسكوا – أنطوان حداد، والتقرير الوطني الى كوبنهاغن عام 1995. في هذه الدراسات، تم تحديد خط الفقر بناءً على منهجية سلة الغذاء الأقل كلفة، وهي منهجية مختلفة عن قياس الاستهلاك الفعلي التي اعتمدت لاحقاً في دراسة 2004/2005 وما بعدها. وبالتالي لا يمكن المقارنة بين النتائج هنا.

13%

هي نسبة الأسر ذات مستوى المعيشة المرتفع بالمقارنة مع 27% في عام 2004


أما الدراسات الأخرى التي قامت بها جهات دولية ووطنية بشكل مشترك، فدراستان. الأولى استخدمت بيانات المسح المتعدد الأهداف لعام 2004/2005 وحددت خط الفقر الأدنى بـ 2.4 دولار للفرد في اليوم، ونسبة الفقر الشديد تبلغ حوالى 8% من السكان، وخط الفقر الأعلى بـ 4 دولارات ونسبة الفقر بحوالى 28%. وتم قياس الفقر على أساس الاستهلاك لا الدخل. وصدرت هذه الدراسة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وإدارة الإحصاء المركزي ووزارة الشؤون الاجتماعية.
الدراسة التي تلتها صدرت عن إدارة الإحصاء المركزي والبنك الدولي، وقدرت نسبة الفقر الوطنية بـ 27% من السكان، ولم تتضمن حساباً لنسبة الفقر الشديد. أما خط الفقر، فقد حدد بإنفاق سنوي للفرد يبلغ 4.729 ملايين ليرة للفرد، أي ما يقارب حوالى 8.5 دولارات في اليوم (استهلاك). وقد لحظ التقرير الموجز الصادر عن هذه الدراسة أن نسبة الاستجابة كانت 50% فقط (2476 أسرة من أصل عيّنة مصممة من 4805)، الأمر الذي يجعل النتائج غير دقيقة، ولا سيما على مستوى المحافطات حيث هناك تدخل في هوامش الثقة. كما أن المنهجية المعتمدة في حساب خط الفقر مختلفة عن تلك التي اعتمدت في دراسة 2004/2005، لذلك لا يمكن مقارنة النتائج مع ما سبق.
أما دراسة المركز الاستشاري لعام 2015 التي نحن بصددها، فقد قدرت نسبة فقر الدخل بـ 36.3% من الأسر على أساس خط الفقر الأعلى المقدر بـ 6.33 دولارات للفرد في اليوم؛ وقدرت نسبة الأسر التي تعيش في حالة فقر شديد بـ 15.2% على أساس خط فقر يبلغ 4.02 دولارات للفرد في اليوم. ونلفت النظر الى أن دراسة المركز الاستشاري اعتبرت الأسرة فقيرة إذا كان متوسط دخل الفرد ينقص عن خط الفقر، في حين أن الدراستين السابقتين اعتبرتا الأسرة فقيرة إذا كان متوسط استهلاك الفرد ينقص عن خط الفقر. وثمة فارق كبير هنا. ولتوضيح حجم الفرق بين القياس على أساس الدخل أو على أساس الاستهلاك، وفي قياس تقريبي لنسب الفقر النقدي في دراسة 2004/2005، فإن نسب الفقر الشديد تبلغ 21% على أساس الدخل بدل 8% على أساس الاستهلاك، ونسب الفقر الإجمالية تبلغ 40% على أساس الدخل بدل 28% على أساس الاستهلاك.
الخلاصة هنا، أنه لا يمكن رسم خط بياني مقنع يظهر تطور نسب الفقر حسب خط الفقر النقدي، لاختلافات كبيرة جداً في المنهجيات، وفي تحديد خطوط الفقر، وطرق القياس والاحتساب.

دليل أحوال المعيشة: الدراسات السابقة
كان لبنان سباقاً في اعتماد قياس للفقر المتعدد الأبعاد من خلال منهجية الحاجات الأساسية غير المشبعة (أي قياس الفقر من خلال مؤشرات اجتماعية واقتصادية تقيس أحوال المعيشة العامة في مختلف المجالات). وهو الدولة العربية الأولى التي بنت "دليل أحوال المعيشة"، ونشرت تقريراً أول عن قياس الفقر ــــ الحرمان في لبنان صدر عن وزارة الشؤون الاجتماعية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 1998، وتعود البيانات التي تم استخدامها الى مسح المعطيات الإحصائية للسكان والمساكن (61580 أسرة استجابت للمسح) الذي نفذ عام 1994/1995 (النتائج التي نشرت في حينه بينت أن حوالى 32% من الأسر تعتبر محرومة ــــ فقيرة، وأن 7% من الأسر تعتبر محرومة جداً أو فقيرة جداً (وتبلغ النسب المقابلة للسكان الأفراد 35% و7%).
بعد عشر سنوات، تم قياس نسب الحرمان باستخدام الدليل نفسه (مع تعديل طفيف تطلبته المقارنة لتحقيق تطابق أكبر في المؤشرات) وكانت النتيجة أنه سجل انخفاضاً عاماً في نسبة الأسر المحرومة من 31% عام 1995 (بدل 32% بسبت ضبط المؤشرات للمقارنة) الى 26% عام 2005 (بيانات المسح المتعدد الأهداف). كما بينت الدراسة أن التحسن حصل في الأدلة الفرعية للمسكن والمياه والصرف الصحي والتعليم، في حين أن نسب الحرمان حسب الدليل الفرعي لأوضاع الأسرة الاقتصادية (المؤشرات المتصلة بالدخل) ارتفعت من 43% الى 52% من الأسر. ويشكل ذلك الحالة الوحيدة في حينه للمقارنة المباشرة بين مستوى الحرمان خلال عشر سنوات باستخدام الدليل نفسه والمؤشرات نفسها بناءً على قياس ميداني فعلي، لا بناءً على إسقاطات حسابية.
بالتوازي مع نشر الخريطة المقارنة لأحوال المعيشة 1994 – 2004 (وزارة الشؤون الاجتماعية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي)، تم إدخال تعديلات وتطوير على دليل أحوال المعيشة (والدليل الأصلي ــــ 1998 كان يتضمن 11 مؤشراً)، بحيث تم بناء دليل أحوال معيشة جديد من 24 مؤشراً، والتحسينات الرئيسية التي تضمنها هي إضافة بعد خاص ودليل فرعي خاص عن الصحة؛ كما تمت إضافة مؤشر خاص بفئة دخل الأسرة الى الدليل المعبر عن الأوضاع الاقتصادية للأسرة. وهذا الدليل طبق على بيانات المسح المتعدد الأهداف لعام 2004/2005. وصدرت النتائج على أساس الدليل الجديد على النحو الآتي: نسبة الأسر التي تعيش في حالة حرمان (فقر) تبلغ 30%، ونسبة الأسر التي تعيش في حالة حرمان شديد (فقر شديد) تبلغ 4%. واللافت أنه بحسب الدليل الجديد، فإن نسبة الأسر المحرومة جداً حسب الدليل الفرعي للأوضاع الاقتصادية للأسرة بلغ حوالى 28%، والنسبة الإجمالية للأسر المحرومة حسب الدليل الفرعي نفسه تبلغ 52%، وهي أعلى بوضوح بين نسبة الحرمان حسب الدليل العام.

دليل أحوال المعيشة 2015
اعتمد المركز الاستشاري دليل أحوال المعيشة نفسه الذي جرى بناؤه عام 2005 (دليل أحوال المعيشة الجديد المكون من 24 مؤشراً)، لأسباب رآها موجبة؛ من ضمنها فائدة المقارنة مع دراسة الفقر البشري وأحوال المعيشة في لبنان الذي تضمن النتائج المشار إليها. وقد أصاب في هذا الاختيار، حيث إن القيام بقياسات في نقطة واحدة من الزمن، والتغيير المستمر في المنهجية، يعيق بناء معرفة متكاملة عن موضوع البحث، إذ إن مثل هذه المعرفة لا يمكن إلا أن تكون تراكمية وتقوم على مرتكزات عدة، من ضمنها المقارنات المتعددة المستويات المكانية والزمنية.


أوضح التقرير التعديلات الطفيفة التي أدخلت على الدليل. ومع الأخذ بعين الاعتبار الملاحظات التي سبق ذكرها بالنسة إلى التحفظ على النتائج على مستوى المحافظة، إلا أنه ــــ بشكل عام ــــ يمكن مقارنة النتائج الإجمالية على المستوى الوطني بما يتيح تكوين فكرة عن الاتجاهات والخصائص على درجة مقبولة من الصدقية، رغم وجود عناصر عدة تتطلب التحقق وتثير علامات استفهام حول مدى الدقة في النتائج متى تجاوزنا التقويم العام، وسوف نشير الى بعضها لاحقاً.
الفوضى في الدراسات ناجمة من انسحاب الدولة من ممارسة دورها وترك المهمّة خاضعة للاجتهادات


مع افتراض تشابه الدليل ومؤشراته وصحة النتائج في دراستَي 2004 و2015 بحيث تكون المقارنة معبرة فعلياً عن تطور مستويات الحرمان خلال السنوات العشر التي تفصل المسحين، فإن دراسة المركز الاستشاري تقول لنا إن 36% اللبنانية فقراء (بحسب دليل أحوال المعيشة لعام 2004)، أي أن نسبة الأسر الفقيرة ارتفعت وطنياً حوالى 6 نقاط مئوية من 30% الى 36% من إجمالي الأسر في لبنان. وهذه النتيجة مدعاة للتأمل في مدى دقتها، وأسباب ذلك في حال كان صحيحاً. وكما يوضح الشكل البياني المرفق هنا، فإن السنوات العشر الممتدة بين 2004 و2015 شهدت تدهوراً عاماً في أوضاع كل الفئات الاجتماعية. وبحسب التصنيف الثلاثي لأحوال المعيشة الى فئة الأسر المحرومة وفئة الأسر ذات مستوى المعيشة المتوسط (وهي ليست الطبقات الوسطى) وفئة الأسر ذات مستوى معيشة مرتفع (أي الطبقات الوسطى والثرية)، فإن نسبة الأسر المحرومة زادت 6 نقاط مئوية، وكذلك الفئة الوسطى، في حين سجل تقلص في نسبة الأسر ذات مستوى معيشة مرتفعة الى النصف من حوالى 27% من إجمالي الأسر الى 13%. إنها دلالات بالغة الأهمية، ولا يمكن تجاهل مثل هذه النتائج عند تقويم الوضع الاجتماعي في لبنان، ولا في وضع الأولويات والسياسات. كما لا يمكن في المقابل اختيار الحل المريح بالقول إن هذه النتائج غير دقيقة وقلب الصفحة.
وفي التوزّع التفصيلي وفق التصنيف الخماسي لأحوال المعيشة، فإن نسبة الأسر الفقيرة جداً لم تتغيّر كثيراً، وبلغت 4.8% في مقابل 4.4% عام 2004، في حين تراجعت اوضاع الفئات الأخرى، لاسيّما ما يمكن اعتباره طبقات وسطى، وهو ما يعتبر – وفق الدراسة – السمة الأكثر أهمية للعقد الأخير. في المقابل، إن حجم العيّنة، بالاقتران مع الظاهرة المعروفة بعدم تجاوب فئات الدخل المرتفع مع المسوحات، تجعل تقدير نسبة الأسر ذات مستوى المعيشة المرتفع جداً صعبة، بحيث يرجح أن تكون النسبة الواردة في الدراسة (1% فقط) أقل ممّا هي عليه واقعياً.
* مستشار في التنمية ودراسات الفقر



تقويم الأسر الذاتي لوضعها
تضمنت الاستمارة في دراسة المركز الاستشاري سؤالاً للأسرة كي تصنف نفسها ذاتياً حسب الفئات الآتية: معدومة، فقيرة، فقيرة الى متوسطة، متوسطة، مرتاحة مادياً، ثرية. وتبين أنه عام 2015، اعتبرت 32% من الأسر نفسها معدومة الى فقيرة، في حين اعتبرت 60% من الأسر نفسها متوسطة، و8% ثرية. وهذه النسب معبرة بذاتها وتتطلب أن يتم تحليلها وأخذها بعين الاعتبار عند تصميم السياسات الاجتماعية والاقتصادية. ولدى المقارنة مع التقويم الذاتي للأسر عام 2004، فإن النتائج أتت على النحو الآتي: 28% اعتبرت نفسها معدومة الى فقيرة، و66% اعتبرت نفسها متوسطة، و6% اعتبرت نفسها ثرية. واختلاف التقويم الذاتي بالنسبة الى الأسر الفقيرة أشار الى تزايد نسبة الأسر التي تعتبر نفسها كذلك 4 نقاط مئوية، وهو ما ينسجم مع القياس الموضوعي. إلا أن النتائج بالنسبة إلى الأسر التي تعتبر نفسها مرتاحة مادياً أو ثرية، فالنتيجة من حيث القيمة المطلقة ومن حيث الاتجاه أتت مخالفة للقياس الموضوعي (التقويم الذاتي أشار الى نسبة أكبر من الأسر تعتبر نفسها ثرية، في حين أن القياس الموضوعي أشار الى انخفاض حاد جداً).


مجموعة تفكير لوضع خريطة الطريق
لهذا المقال هدف مزدوج، وجهه الأول هو عرض دراسة المركز الاستشاري وتقويم جزئي لنتائجها ومنهجيتها؛ ووجهه الثاني النفاذ من ذلك الى إظهار الفوضى العارمة التي تحيط بدراسة الفقر في لبنان وبالسياسات الاجتماعية، ومن ضمنها خطط مكافحة الفقر التي يقتصر الصريح منها على برنامج استهداف الأسر الأكثر فقراً، الذي فشل في تحقيق نتائج فعلية وتقليص نسب الفقر التي لا تزال على حالها أو أنها زادت.
الفوضى ناجمة بالدرجة الأولى عن انسحاب الدولة من القيام بدورها وعن ترك هذه المهمة خاضعة لاجتهادات الأطراف الدولية والوطنية المتعددة دون أي مرجعية مؤسسية أو علمية. فدراسة البنك الدولي مع إدارة الإحصاء بدأ العمل عليها عام 2011، وصدرت النتائج (المتواضعة جداً وغير الصالحة للاستخدام) عام 2015، وشكل هذا تعطيلاً استغرق أربع سنوات على الأقل لعمل بحثي بديل. من ناحية أخرى، شرع برنامج الأمم المتحدة عام 2015 بتنفيذ دراسة جديدة عن الفقر في لبنان أيضاً، ولا تتوفر معلومات لدينا إذا كان المشروع قد توقف، أو أن الدراسة قد أنجزت وكانت النتائج غير مقنعة أو نتائجها غير مرحّب بها سياسياً، فجرى وضعها في الأدراج؟
لا نستطيع الجزم في ذلك، كما لا نستطيع الجزم نهائياً في مدى دقة نتائج دراسة المركز الاستشاري وما سبقها، لأن ذلك يتطلب تقويماً مستقلاً عن أصحاب الدراسة ومنفذيها، كما يتطلب جهداً جماعياً لخبراء من اتجاهات فكرية ومذاهب اقتصادية واجتماعية مختلفة. للأسف، هذا الأمر مفقود تماماً في لبنان، والجهات الرسمية من حكومة أو وزارات وإدارات معنية مباشرة غائبة عن تحمل مسؤوليتها وعن اتخاذ خطوات عملية في هذا الاتجاه بدل العشوائية الحالية في الدراسات وفي توجهات السياسات الاجتماعية.
ثمة مدخل منطقي للقيام بذلك بالشكل الصحيح: ان تقدم الدولة من خلال مؤسساتها المعنية، على تشكيل مجموعة تفكير من الباحثين والخبراء اللبنانيين الذين عملوا على دراسة الفقر والسياسات الاجتماعية في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، وعددهم لا يتخطى 15 شخصاً على الأكثر، وأن يكلف هؤلاء خلال ثلاثة أشهر تقديم خريطة طريق لمنهجيات دراسة الفقر ومتطلباته بشكل إطار لدراسة الفقر، بما في ذلك الاستفادة من المسح الميداني الحالي الذي تنفذه ادارة الاحصاء المركزي، والذي يشمل 48 ألف اسرة، من اجل قياس الفقر من ضمن امور اخرى. فهذه ايضا فرصة جديدة سوف تضيع ما لم تتخذ تدابير استثنائية من اجل الافادة منها فورا، لأن مسحاً من هذا النوع وبهذا الحجم لن يتكرر خلال وقت قصير، والجهة التي تنفذه – ادارة الاحصاء المركزي – هي الأولى بأن تقوم به بدعم من فريق من الخبراء الوطنيين وبقرار حكومي صريح.
دون ذلك، ستبقى الاجتهادات سيدة الموقف، مع جدية وأهمية ودقة بعضها، الا ان ذلك لم يعد كافياً.