يبحث الكاتب عن العلاقة بين رأس المال والسياسة، انطلاقاً من التجربة التاريخية لليابان، إذ ساهم قرار سانكين توكاي بفرض إقامة الإقطاعيين وعائلاتهم وحاشيتهم في العاصمة، بهدف ضبطهم والقبض على الحكم، بإحداث تغيّرات عميقة أثّرت في شكل المجتمع والاقتصاد اليابانيين، وقادت إلى تحويل رأس المال، ومعه بعض النفوذ السياسي، من طبقة إلى أخرى.ما هي العلاقة بين رأس المال والسياسة؟ أيّهما يصنع الآخر؟ وهل نوع هذه العلاقة يحمل عامل استمرارية مع تغيّر الزمان والمكان؟
أولكسي كوستوفسكي ــ أوكرانيا

هذه الأسئلة كانت الدافع الأول للبحث في طبيعة العمل السياسي الحديث وانتظامه مع تطوّر رأس المال في الإقتصادات الحديثة. وليس من السهل الجزم بإجابات مُحدّدة عن هذه الأسئلة، وخصوصاً أن الكثير من النظريات طُرحت، ولا تزال تُطرح، حول طبيعة العلاقة بين السياسة ورأس المال. وبينما الاتجاه السائد اليوم هو محاولة الفصل بين مسارات عمل رأس المال والسياسة، واعتبار الأخيرة عملاً لا يتضمّن البحث في خيارات البنية الاقتصادية؛ هنالك اتجاه يرى ترابطاً عضوياً بين السياسة ورأس المال، ولكنّه دائماً ما يعطي عامل القيادة للأخير.
لكن هنالك حالات تاريخية عاكست هذه الآراء، وأعطت نماذج معاكسة للتنظير السائد عن العلاقة بين السياسة ورأس المال، ومن هذه الحالات إنشاء وتطوّر سوق الأرز المركزي في اليابان.

النظام الجديد والتطوّر الاقتصادي
أُسّست هذه السوق في حي «دوجيما» في مدينة «أوساكا» في عام 1697، خلال فترة حكم «الشوغونات» من «التوكوغاوا». و«الشوغون» هو لقب الحاكم العسكري (والفعلي) لليابان ما بين عامي 1185 و1868، وكان المنصب وراثياً، يعيّن شاغله الإمبراطور بشكل صوري.
ولكن بداية، يجب توضيح أن المجتمع الياباني كان يُقسّم إلى أربع طبقات تحت الطبقة الحاكمة: الساموراي، وهي طبقة فيها طيف من الطبقات الصغرى من كبار الإقطاعيين (الدياميو) إلى المقاتلين العاديين. تليها من حيث المرتبة طبقة الفلّاحين، ومن ثم طبقة الحرفيين، وأدناها مرتبة طبقة التجّار.
شهدت فترة حكم «شوغونية توكوغاوا»، الممتدّة من عام 1600 إلى عام 1868، تطوّرات اقتصاديّة هائلة، ساهمت في نقل المجتمع اليابانيّ إلى حالة جديدة. ويعدّد جورج سانسوم، في كتابه «تاريخ اليابان: 1615-1867»، التطوّرات الأساسية التي ساهمت في هذه النقلة. وأولى هذه التطوّرات كان تطوّر الانتاج الزراعي كمّاً ونوعاً بسبب تطوّر أساليب الزراعة، والدافع الرئيسي وراءه كان انتشار الزراعة التجارية، التي كانت مرتبطة فقط بمحيط «كيوتو» العاصمة القديمة، وتوسّعت لتشمل محيط الكثير من المدن الكبرى بعد نقل العاصمة إلى بلدة «يِدو» (التي أصبحت في ما بعد طوكيو).
هذا التنوّع الزراعي والتربّح منه أدّيا إلى ظهور الحاجة إلى تطوير بعض الحِرف المرتبطة بأنواع الزراعات، بسبب نموها، وتالياً نمو حجم المواد الأولية الموجودة.
وثالث التطوّرات طاول نظام النقل والمواصلات في البلاد، فالنقل كان متخلّفاً يعتمد على طرقات ضيّقة ووعرة بين المناطق، لكن تطوّر مستوى الزراعة والحرف، وقيام سوق مركزية دفعا إلى تطوير النقل البحري والطرقات الداخلية. فنشأ خطّا النقل البحريّان الشرقي والغربي، اللذان ربطا، مع الطرقات الداخلية، سائر المناطق بالعاصمة الجديدة «يدو» ومدينة «أوساكا» التي تحوّلت إلى المركز التجاري الأول في البلاد.
وهنا لا بدّ من أن نعرّج على التطوّر الرابع والأهم، وهو نشوء السوق المركزية في «أوساكا». فبالرغم من أن «شوغونية توكوغاوا» تعاملت مع التجارة بشكل متقلّب بين الفترات المختلفة من حكمها، فتارة كانت تشجّع على التجارة الحرّة، وطوراً كانت تتدخّل بشكل مكثّف، إلا أن الثابت الوحيد كان اتباع نظام السوق الموحّدة، وخصوصاً في تجارة الأرز. وسوق الأرز في «أوساكا» تحوّلت بسرعة إلى العصب الاقتصادي الأساسي في البلاد، وخصوصاً مع أهمية الأرز في النظام الضريبي. فالفلّاحون كانوا يدفعون ضرائبهم لطبقة الإقطاعيين من الساموراي على شكل كمّيات من الأرز، والساموراي بدورهم كانوا يأخذون حصّتهم التي يحدّدها «الشوغون» ويرسلون الباقي له.
وسرعان ما استفاد أصحاب مخازن الأرز في «أوساكا» من هذا الواقع، وتحوّلوا إلى تجّار كبار، ومع الوقت إلى لاعب أساسي في مراكمة رأس المال في البلاد، كما يشرح دافيد موس ويوجين كِنتغن في بحثهما «سوق دوجيما للأرز وأصول التجارة بالعقود الآجلة».
وصار التجّار، الذين كانوا يشترون الأرز من إقطاعيي الساموراي، وفي الوقت عينه يخزّنون ما لا يريد الإقطاعييون أن يبيعوه، يصدرون «إمتيازات الأرز» لهم، ليقوموا بدورهم باستعمال هذه الإمتيازات «الورقية» للتبادل التجاري، ما جعلها عملياً عملة مدعومة بالأرز. ومع ازدياد إنفاق الإقطاعيين وازدياد استدانتهم من تجّار «أوساكا»، بدأ الأخيرون يصدرون امتيازات تفوق ما كانوا يملكون في مخازنهم، ويقرضونهم، أي أنهم بدأوا يمارسون دوراً شبيهاً بالدور البدائي للمصرفيين.
ولكن، ما الذي دفع باتّجاه هذه التطوّرات؟ وما الذي اختلف بين «شوغونية توكوغاوا» وما سبقها من شوغونيات؟

السياسة المركزية وتبعاتها
لعلّ العامل الأبرز في دفع اليابان نحو هذه التطوّرات كان نظام «سانكين توكاي»، أي الحضور البديل. فقد فرضت «شوغونية توكوغاوا» على الإقطاعيين من طبقة الساموراي نظام إقامة جبرية سنوية في العاصمة «يدو»، حيث يقيم الإقطاعي سنة في العاصمة، ويقيم في السنة التي تليها في مقاطعته، ولكن مع الإبقاء على زوجته ووريثه في العاصمة كرهائن عند «الشوغون».
هذا النظام سارع في نمو «يدو» بشكل كبير في فترة قصيرة جدّاً، بسبب وجود الإقطاعيين وعائلاتهم في المدينة، فتبعهم الكثير من أفراد طبقتي التجّار والحِرفيين ليوفّروا الخدمات لهم، كما يشرح ماريوس يانسن في كتابه «صناعة اليابان العصرية». والهدف الرئيسي من هذا النظام كان الإبقاء على ولاء الإقطاعيين «للشوغون» واستنزاف قدراتهم المالية قدر الإمكان لمنعهم من شنّ حروب عليه أو على بعضهم البعض. فالإبقاء على مركزي إقامة دائمين كان منهكاً مالياً، حتى على أكبر الإقطاعيين من الساموراي، وهذا كان سبباً رئيسياً في ازدياد إنفاقهم.
ولكن الإقطاعي دائم التنقّل لم يكن يتنقّل وحده، بل تبعه المئات (وفي حالة بعض الإقطاعيين الكبار الآلاف) من الساموراي من الطبقات الأدنى، في حركة تشبه الخدمة العسكرية الإجبارية عند «الشوغون» في «يدو». فكانت المدينة تشهد يومياً خروج الآلاف من الإقطاعيين وجنودهم على مدار السنة ودخولهم. وهذا التنقّل الدائم الذي لا بدّ أن يبدأ من قصر الإقطاعي في مقاطعته، مضافاً إلى منع الإقطاعيين من تملّك أكثر من قصر واحد وتحويله إلى مركز إداري لمقاطعاتهم يربطها بباقي المقاطعات، جعل هذه القصور مراكز اجتذاب مديني للتجّار والحرفيين. وسرعان ما تحوّلت هذه القصور ومحيطها إلى مدن وأسواق جديدة للمزروعات والحرف. ولكن الأهمّ أن هذا التنقّل خلق حاجة إلى نظام نقل متطوّر يتحمّل التنقّل الدائم بين المناطق المختلفة والعاصمة، ومن دون حصول حالات تصادم بين الإقطاعيين المتنافسين.
وخلقت حركة التنقّل هذه حاجة عند الإقطاعيين إلى إنفاق المال خارج مقاطعاتهم (في «يدو» وعلى الطريق منها وإليها، بالإضافة إلى الهدايا المقدّمة «للشوغون»)، وهم الذين كانوا يتقاضون مستحقّاتهم من الضرائب بالأرز، ما سهّل قيام نظام التبادل باستعمال امتيازات الأرز الورقيّة، وأيضاً في نمو دور وغنى تجّار وأصحاب مخازن الأرز في «أوساكا». ويشرح سانسوم، أن هذه التحوّلات التي شهدها دور سوق الأرز في «أوساكا» ساهمت في نقل رأس المال في اليابان من طبقة الساموراي إلى طبقة التجّار، وهي كانت طبقة مذمومة وفق الأعراف اليابانية، وفي نموه بشكل كبير ومراكمته. ونقل هذا التراكم في رأس المال قسماً من القوّة السياسية من يد الساموراي إلى أيدي دائنيهم، أي طبقة التجّار.

من صلب العمل السياسي
لا يمكننا الحديث عن البنية الاقتصادية لأي بلد من دون إدراجها ضمن الطيف الضيّق لمعنى العمل السياسي. فهذا السياق التاريخي في اليابان، يظهر أن قراراً سياسياً ـــ الـ«سانكين توكاي» ـــ كان الهدف الأساسي منه القبض على نظام حكم إقطاعي عبر إرساء قواعد مركزية، شكّل الدافع الأساسي لتطوّرات حدّثت الاقتصاد الياباني بشكل كبير. بالإضافة إلى ذلك، نتج من هذه السياسة تغيّرات عميقة أثّرت في شكل المجتمع والاقتصاد اليابانيين، وقادت إلى تحويل رأس المال، ومعه بعض النفوذ السياسي، من طبقة إلى أخرى.