توصف العلاقة القائمة بين الدولة اللبنانية والمصارف في الخطاب الشائع بأنها علاقة «زواج ماروني»، أي ذاك النوع من الزواج الذي لا طلاق فيه، والذي يتماهى فيه الاثنان ليصبحا واحداً، لا يفرّق بينهما سوى الموت أو البطلان.بمعزل عن النيات، حميدة كانت أم خبيثة، فإن هذا الوصف يوحي بأن العلاقة بين الدولة والمصارف، كما الزواج، تتمّ بالرضى والقبول، ولو بالشكل، وتقتصر على طرفَي «العقد» وحدهما، اللذين يقرّران الارتباط بوثاق دائم، لا يمكن أبداً أن تنفصم عُراه! وبالتالي، لا يوجد ما يمكن فعله إزاء هذا النوع من العلاقات، سوى احترام إرادة طرفيها و«سرّ زواجهما»، كما تحترم الرعية ما تمليه الكنيسة على أساس أن «ما جمعه الله لا يفرّقه إنسان».
ولكن، العلاقة القائمة بين الدولة والمصارف، لا تشبه «الزواج» بشيء، ولا يحكمها «سرّ مقدّس» من أي نوع كان. وإذا كان لا بدّ من تشبيهها بالعلاقات، فهي أقرب إلى علاقة «المقامر» بـ«المرابي»، أو (ربّما) تشبه أكثر علاقة «مدمن المخدّرات» بالـ«Dealer». أي أنها تنتمي إلى ذاك النوع من «العلاقات»، التي يستغلّ فيها طرف نزوات الطرف الآخر (أو حاجاته)، ويشجّعه عليها ويوهمه بأنه قادر على تأمينها له إلى ما لا نهاية، فيغرقه بالشروط والالتزامات (الديون وضماناتها) حتى يصبح رهينة في فخّ «الإدمان»، ويصبح المدمن أو المقامر مستعدّاً لرهن أي شيء (حتى نفسه) من أجل الحصول على «التمويل»، مُعتقداً، على الدوام، أنه سيجد طريقة ما للتخلّص من هذا «الاستعباد»، فيما هو يغرق أكثر فأكثر تحت جبال من الديون المُكدّسة، التي تستنزف موارده وثرواته ودخله وتضعف قدراته وخياراته، وتجعله «على الحديدة»، وفق المثل الشائع. وهذا هو شكل العلاقة بين الدولة والمصارف، وهو الشكل الذي يعطي معنى لمصطلح «الإفلاس»، الذي يتحدّث عنه الاقتصاد الشائع ويخشاه، ولا سيّما عندما يكون الخطر هو «إفلاس الدولة» وخسارة جزء مهم من الأرباح أو رأس المال الموظّف في تمويل مديونيتها.
ما يوصف على أنه «زواج ماروني» بين الدولة اللبنانية والمصارف، هو في الواقع هذا الشكل من العلاقات الرأسمالية نفسها: فرأس المال يسعى دائماً إلى تحقيق أكبر عائد بأقل المخاطر، وهذه هي السمة الرئيسة للرأسمالية، وقانونها الأساسي المؤدّي إلى «التراكم اللانهائي لرأس المال»، وبالتالي، لا يضع «رأس المال» مهمّة له لتحقيق أي «مصلحة عامة» تتجاوز الغاية الوحيدة المُتمثلة بتحقيق «الربح»، وهي الغاية التي يعتبرها الليبراليون تحقّق بذاتها المصلحة العامة. إذاً، ليس هناك أي خصوصية محلية الطابع تتخذها العلاقة بين الدولة اللبنانية والمصارف، على عكس ما يرمز إليه «الزواج الماروني»، الذي بالكاد سيفهم معناه أي غريب عن الاجتماع اللبناني ونظامه الطائفي، في حين أن هذه العلاقة هي نفسها في كل حقل يجده رأس المال خصباً لتوليد الأرباح، سواء اتخذ رأس المال صفة «المنتج» أو «الوهمي»، صناعي أو تجاري أو رأس مال نقدي ومالي.
تعدّ «الدولة» من الحقول الخصبة جداً لإنتاج الربح وتراكم «رأس المال»، بشكل مباشر من خلال العوائد من الدين العام وبشكل غير مباشر من خلال أدوات إعادة توزيع الثروة والدخل. وفي كل مكان، يؤدي المصرف المركزي دور المدير التنفيذي لرأس المال المالي، مع أنه في معظم القوانين والنظريات هو مصرف الدولة أيضاً والجهة السيادية الممنوحة صلاحية طبع العملة. إلا أن التجربة جعلته مصرف المصارف لا مصرف الدولة، فيما المصرفيون يلعبون دور «السماسرة»، أو ما يعرف باسم «الوسطاء» في السوق.
في غير مكان في العالم، حتى بين الليبراليين، يتسع نطاق الإقرار بأن الكثير من المجتمعات باتت عالقة في «فخّ المديونية». الناس عالقون، لا يدرون ماذا يفعلون إزاء هذه الجبال من الديون الهائلة، التي تراكمت في السنوات الماضية، ولامست مستوى 250 تريليون دولار حالياً. لا تنحصر جبال الديون المُكدّسة على الدول وحكوماتها، أي المديونية العامة، بل يرزح تحتها الشركات والأسر والأفراد، ممن جرى إغراؤهم بأسعار فائدة متدنية وتشجيعهم على الاقتراض من المصارف، ليس للاستثمار، بل للاستهلاك تحديداً، في ظل أوهام «الثراء» و«الطبقة الوسطى» و«مجتمع الملكية»، والتي تزامنت مع موجة «نيوليبرالية» عارمة فرضت تخفيض الضرائب على رأس المال وتحريره كلّياً ودعم عوائده، والاستعاضة عن دولة الرعاية بقروض مصرفية لتأمين التعليم والتغطية الصحية وغيرها، والاستعاضة عن الدولة المتدخّلة بالدولة المديونة والمجتمعات المديونة.
تقول النظرية الشائعة: إذا توقّف المدينون عن تسديد الديون، سيعمّ الذعر في الأسواق المالية وينهار القطاع المالي برمّته، سيهرب رأس المال (الودائع) وسينكمش الاقتصاد، وسيفقد المصرف المركزي قدرته على تحديد سعر الصرف وسترتفع أسعار الفائدة وتضمحل التدفقات الخارجية وستفقد الدولة مصادر تمويلها وستتراجع إيراداتها وترتفع نفقاتها... ما يؤدّي في النهاية إلى إفلاسها وإفقار المجتمع. أمّا إذا واصل الجميع تسديد الفوائد على الدين، ولو على حساب تدهور مستوى المعيشة وكفاءة الاقتصاد و«الديموقراطية»، فإن ذلك سيؤمّن «مساحة» مالية كافية لتأجيل «الإفلاس» والمراهنة مجدّداً على «الحظ» أو «العجيبة» أو «الرعاية الإلهية» كي لا يحصل ذلك، وبالتالي يتوجّب علينا جميعاً أن نقبل تحمّل الأكلاف، فيما الدين يتزايد وتتزايد معه الفوائد التي يجنيها «رأس المال»، ولا سيّما على حساب المال العام بمعناه الواسع، أي تقليص الثروة العامة.
ما يميّز الحالة اللبنانية أنها واحد من نماذج في الدول الرأسمالية، حيث نجح رأس المال المصرفي في إحكام سيطرته على الاقتصاد السياسي، منذ التأسيس له تاريخياً، وبالتالي، كان سهلاً على المصرفيين، بوصفهم أيقونة البورجوازية اللبنانية ومصدر إلهامها ومثالها الرأسمالي الأعلى، أن يكتسحوا الدولة ويعيدوا تشكيلها ويستعبدوها كلّياً. تحفظ الذاكرة القصيرة، كيف استغل المصرفيون «نظام الحرب»، الذي أرسى قواعده في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي على تفكّك الدولة كلّياً وتقاسمها كإقطاعيات طائفية جغرافياً ومؤسسياً، وتحوّل إلى نظام دستوري في اتفاق الطائف، سواء عبر ما نصّ عليه الدستور بالفعل أو بالعرف أو بالأمر الواقع. ما يشير إليه التاريخ الحديث لفقّاعة المديونية في لبنان، أن المصرفيين وجدوا فرصتهم السانحة في «اقتصاد الحرب»، وكانوا على ارتباط وثيق بالتغيّرات الطارئة على البورجوازية اللبنانية في الحرب، وقاموا بما يقومون به عادة في إدارة التمويل ورسملة «الأمراء المقاتلين»، فحافظوا على موقعهم المُسيطر من خلال دورهم في المضاربات على سعر صرف الليرة طوال 10 سنوات (1982- 1992)، والتي كانت إحدى الوسائل الفعّالة جدّاً في عملية تطويع المجتمع وإرغامه على قبول استمرار «النظام الناشئ» كشرط للاستقرار وإعادة الإعمار والنهوض بالاقتصاد، وقبول تمويل هذا «النظام» بالدين، أي عبر المصارف نفسها.
هذه هي العلاقة التي ترتبط بها الدولة مع المصارف. علاقة سيطرة رأس المال المالي على المجتمع واستحواذه على جزء مهم من الفائض الاجتماعي، وإخضاعه لعالم مُخيف من السحر والشعوذة والكوابيس. مثل هذه العلاقات، لا يمكن أن تكون بمثابة زواج لا يُفكّ، على غرار «الزواج الماروني»، إلا بمشيئة إلهية، فهي، أولاً وأخيراً، علاقات صراعية بين فئات المجتمع نفسه، مسرحها الأساسي ميدان السيطرة على الدولة، كميدان قسر وقمع وميدان تراكم رأس المال وتركيز الثروة والدخل. مثل هذه العلاقات يتوجّب تدميرها، وهذا واجب كلّ المتضرّرين.