ما المقصود بالأدوات السيادية؟ يُسـتخدم مصطلـح «الكيـان السـيادي» في لغة «المحلّلين الماليين» في سياق عملية فرز الدين وأدواته وقياس مخاطره في «الأسواق المالية». فـ«الكيان السيادي» هو بمعنى ما كل «سلطة تجسّدها الدولة» (غالباً)، أو أي كيان «يمارس بحكم الواقع سلطات أساسية على منطقة اختصاص مُعترف بها»، وفق تعريف صندوق النقد الدولي. بهذا المعنى، فإن «الأدوات السيادية»، هي كل «أدوات الدين»، التي تطرحها «جهات إصدار سيادية» في الأسواق المالية الأولية أو الثانوية، المحلية والخارجية، كالحكومة مثلاً (سندات الخزينة بالليرة وبالعملات الأجنبية) ومصرف لبنان (الودائع الإلزامية والحرّة وشهادات إيداع بالليرة وبالعملات الأجنبية والأدوات والمشتقّات المالية الأخرى)، وأي مؤسسة عامّة أو مختلطة (الشراكة بين القطاعين العام والخاص)، بالإضافة إلى كل أداة مالية صادرة من أي جهة، مهما كانت هويتها القانونية، بضمانة من «الكيان السيادي».
هذا التعريف «الوظيفي» للأدوات المالية السيادية، من وجهة نظر الأسواق المالية، يعني ببساطة شديدة أنها «استثمار» يحقّق «عوائد» من المال العام (الضرائب وطبع العملة)، وتتحدّد هذه العوائد (مستوى الفوائد) تبعاً للمخاطر التي يصنّف ضمنها «الكيان السيادي» و«الضمانات» التي يقدّمها هذا الكيان (بوصفه سلطة) إلى المستثمرين في هذه الأدوات.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في الحالة اللبنانية، يضمن المصرف المركزي، بالنيابة عن الدولة، ثبات سعر صرف الليرة وربطه بالدولار (1507.50 ليرة لكل دولار)، كما يضمن إدارة التضخّم بما يحافظ على العائد المُحقّق من سعر الفائدة الحقيقي المرتفع والسخي، كذلك يضمن عدم السماح بإفلاس أي مصرف، مهما كانت الأسباب والأكلاف والنتائج، وبالتالي يضمن فعلياً كل الودائع والرساميل في المصارف من دون سقف، ويضمن أيضاً وأيضاً تمويل عجز المالية العامة. من جهتها، تضمن الحكومة «أنها لن تلطّخ سمعة الدولة في ما يتعلّق بالوفاء بالتزامات ديونها، التي يتم الوفاء بها دائماً، حتى في أحلك أيام الحرب والأزمات»، وفق الخطاب التي وجهته الحكومة إلى الدائنين في اجتماع «باريس 4» الأخير.
هذه السلّة الواسعة من «الضمانات السيادية» جسّدت طوال السنوات العشرين الماضية بيئة مؤاتية لرأس المال المالي، اللاهث خلف العوائد المُجزية والسهلة والسريعة، فقد استفاد من هوامش فائدة مرتفعة ومستوى مخاطر شبه معدوم بالمقارنة مع الأسواق الأخرى أو الاقتصادات المشابهة، ما ساهم في تراكمه بوتيرة أسرع بكثير من وتيرة نمو الناتج المحلي، وأدى إلى تعميق اللامساواة في توزيع الدخل والثروة التي يعانيها المجتمع اللبناني أشدّ معاناة، وأدّى أيضاً إلى هدر كبير في الموارد وقضم متواصل للثروة الوطنية، ولا سيّما الثروة العامة، وتشير بعض التقديرات إلى أن الأصول العامة لم تعد تغطي الديون العامة، بمعنى أن الدولة إذا قرّرت بيع كل أصولها فإنها لن تكون قادرة على تسديد كل المطلوبات عليها.
وفق التقرير السنوي حول القطاع المصرفي اللبناني، الذي تعدّه دائرة الدراسات في لجنة الرقابة على المصارف، فقد بلغت حصّة توظيفات المصارف المحلية في أدوات الدين السيادية للدولة اللبنانية أكثر من 137 مليار دولار في نهاية عام 2017. تمثّل هذه التوظيفات نحو 60% من مجمل موجودات المصارف، وتمثّل اكتتابات المصارف في سندات الخزينة بالليرة والعملات الأجنبية أكثر من 167% من أموالها الخاصة (رساميلها)، في حين تمثّل التوظيفات لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبية فقط (من دون التوظيفات بالليرة) أكثر من 310% من مجمل أموال المصارف الخاصّة.
تُعدّ نسب التثقيل المذكورة مرتفعة جداً، وفق المعايير التي تنصّ عليها ورقة العمل الصادرة عن لجنة بازل للرقابة المصرفية، وهي تعبّر عن درجة تركّز عالية في التوظيفات المصرفية، تؤدّي إلى ارتفاع كبير في ما يُسمّى «المخاطر السيادية»، أي مخاطر عجز الدولة عن الدفع، وهو ما يُستخدم كحجة لرفع أسعار الفائدة وهوامش ربح المصارف منها.
وفق تقرير مماثل صدر في العام الماضي، يتأكّد دور مصرف لبنان الواسع في تركيز هذه التوظيفات وزيادة مخاطرها، إذ إن الزيادة المتسارعة في التوظيفات السيادية نتجت بشكل رئيس من «الهندسات المالية» التي يقوم بها البنك المركزي مع المصارف، بحجّة تعزيز موجوداته بالعملات الأجنبية لمواصلة الدفاع عن تثبيت سعر صرف الليرة، وتعزيز ميزانيات المصارف ودعم أرباحها، بحجّة ضمان استقرار القطاع المالي وتفادي الأزمات فيه. ففي عام 2016، قدّم مصرف لبنان عائداً يبلغ 40% لإعادة موجودات المصارف بالدولار من الخارج وتوظيفها لديه كودائع أو شهادات إيداع... والآن يقدّم عائداً أعلى بـ 1% على الأقل من العائد في السوق لإغراء المصارف بزيادة توظيفاتها لديه على شكل توظيفات نقدية حرّة، بحجة امتصاص السيولة بالليرة والدولار لمنع أي تهديد لسعر الصرف.
في الحصيلة، نحن اليوم نسدّد كلفة جبل من «الديون السيادية» بناه مصرف لبنان مع المصارف المحلية على طريقة «مادوف» أو نموذج «بونزي»، يبلغ حجمه المتراكم أكثر من 265% من مجمل الناتج المحلي، وتكسب منه المصارف عوائد بقيمة تصل إلى 8 مليارات دولار سنوياً.