دفعت الأزمة المالية عام 2007 الاقتصاد العالمي إلى أكبر تراجع منذ الكساد الكبير. واستطاعت الطبقات الرأسمالية إنقاذ النظام عبر مزيج من الحوافز والائتمان المنخفض الثمن وإجراءات تقشّف كبيرة طالت الطبقات العاملة حول العالم. وعلى الرغم من أنّ هذه الخطوات حفّزت انتعاشاً جديداً، إلاّ أنّه انتعاش ضعيف عانى من مجموعة من التناقضات السياسية والاقتصادية. طلبت مجلّة «إنترناشونال سوشلست ريفيو» International Socialist Review من مجموعة من الاقتصاديين الماركسيين إعطاء تقييمهم الخاص لعصرنا الاقتصادي ومساره.
يشرح ديفيد ماكنالي David McNally كيف عزّز الانتعاش عدم المساواة الطبقية والاستقطاب السياسي إلى اليمين واليسار، في مداخلة بعنوان «نمو فاتر واستقطاب اجتماعي وانفتاح على اليسار».
في المراحل الأولى من الركود العالمي، خرج اثنان من خبراء الاقتصاد من خارج التيار الرئيسي بادّعاء استشرافي. فكتبا أن «الأزمة المالية العالمية في أواخر العقد الأول من القرن الحالي تبرز كأخطر أزمة مالية عالمية منذ الكساد الكبير. وتشكّل هذه الأزمة لحظة تحوّل في التاريخ الاقتصادي العالمي. ومن المرجّح أن يقود الحلّ النهائي لها إلى إعادة تشكيل السياسات والاقتصاد لجيل مقبل على الأقل»(1). ومنذ ذلك الحين، ثبت صحة هذا الادعاء بقوّة. لنأخذ أولاً أداء الاقتصاد الرأسمالي المُهيمن على العالم خلال تلك الفترة. فمنذ عام 2007، نما الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة بمعدل 1.4% سنوياً. وعلى مدار العقود الثلاثة والنصف الماضية (1970-2006)، بلغ متوسط النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة 3.2%. باختصار، منذ بداية الركود العالمي، نما الاقتصاد الأميركي بأقل من نصف معدّله السابق.

ركود متواصل على مستوى الأجور
يتعارض هذا التباطؤ بشكل لافت مع المديح اللامتناهي الذي يكيله الخبراء للاقتصاد «المزدهر» ظاهرياً في الولايات المتحدة. ولكن لم يكن هناك ازدهار بالمعنى الجذري، أي نمو مستدام للاستثمارات التجارية، الذي يعزّز توسعاً ديناميكياً من خلال تجديد الإنتاج والتوزيع وإعادة تجهيزهما.
بدلاً من ذلك، كان النمو منذ عام 2009 مدفوعاً بعاملين خاصّين اثنين. الأول هو البرنامج الضخم لإنقاذ المصارف والتحفيز المالي الذي نفذته المصارف المركزية. وعلى الرغم من أنّ ذلك أدى إلى زيادة كبيرة في الديون الحكومية، إلّا أنه منع انهيار النظام المالي، وأبقى أسعار الفائدة منخفضة، ولو بشكل مصطنع، وسمح للشركات التي تعاني من «تسرّبات» بالاقتراض لتبقى «عائمة». أما العامل الثاني الحاسم، والذي يعيد تشكيل السياسات بشكل نهائي، فيتكوّن من سياسات التقشف وضغط الأجور، الذي عزز أرباح الشركات وزاد الفقر وعدم المساواة الاجتماعية. ومع انتهاء الركود عام 2011، لا تزال مستويات معيشة الطبقة العاملة في حالة ركود مستمر منذ عقد من الزمن. فلنستكشف معاً كل من هذه الاتجاهات:
بعد أن واجهت انهياراً مالياً عام 2009 أطاح بمؤسسات مالية، قامت المصارف المركزية الموجودة في مركز الرأسمالية، بما فشلت في القيام به في ثلاثينيات القرن الماضي، فقد ضخّت تريليونات الدولارات مباشرة في النظام المالي. وكجزء من خطة إنقاذ المصارف، اشترى الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ما قيمته حوالى 2.5 تريليون دولار من «الأصول» في بنوك خاصة، ومعظمها سامة للغاية. وفي تلك الأثناء، سلّمت وزارة الخزانة الأموال واشترت الأصول كما لو كانت تنفق وهي في حالة سكر. والنتيجة كانت ارتفاع الدين الحكومي في الولايات المتحدة ثلاثة أضعاف - من حوالى 5 تريليونات دولار عام 2007 إلى أكثر من 15 تريليون دولار اليوم. وهنا قد يقول السياسيون النيوليبراليون إن الاستثمار العام في التعليم والرعاية الصحية والدواء والإسكان العام أكثر كلفة من قدرة الحكومة، إلّا أنّه من المفترض ألّا تكون هناك قيود مرتبطة بالكلفة حين يتعلّق الأمر بإنقاذ المصارف الخاصة.
نتيجة إغراق النظام المالي بالسيولة، دفعت المصارف المركزية أسعار الفائدة إلى أدنى مستوياتها في التاريخ. وترك ذلك تأثيراً معاكساً لمنع حدوث كساد عالمي هائل، من ناحية، وأدّى إلى انخفاض معدلات الاستثمار والتراكم، من ناحية أخرى. ففي النهاية، تتمثل إحدى وظائف الركود بالنسبة إلى الرأسمالية في إفلاس الأجزاء الأقل كفاءة وربحية من رأس المال، ما يمهّد الطريق أمام أكثر الشركات إنتاجية لتوسيع أسواقها وبدء موجات جديدة من الاستثمار.
أتاحت أسعار الفائدة المنخفضة اصطناعياً للآلاف من الشركات المتعثّرة الصمود عن طريق اقتراض الأموال، بشكل مجاني تقريباً، وبقيت المشاريع الهامشية تتراوح في حالة بين الحياة والموت. وقد منع ذلك الشركات الربحية من التهام أسواقها وإطلاق مشاريع استثمارية جديدة. ولكن الاتجاه المرافق، أي التقشف وضغط الأجور، هو الذي يعيد بشكل مباشر تشكيل الحياة السياسية بطرق خطرة وباعثة على التفاؤل في آن.

تزايد عدم المساواة والفقر
في أيار/مايو من العام الجاري، وجدت منظمة «يونايتد واي» United Way أنّ 43% من سكان الولايات المتحدة- أي أكثر من 51 مليون أسرة- غير قادرين على توفير الحاجات الأساسية (السكن والغذاء والرعاية الصحية والنقل وما إلى ذلك). وفي الوقت نفسه تقريباً، أعلنت الأمم المتحدة أن 40 مليون شخص في الولايات المتحدة يعيشون في فقر، في حين أنّ البلاد هي أيضاً موطن لـ2208 ملياردير.
ينتج هذا الفقر المدقع، الذي يطال شرائح كبيرة من المجتمع، من الانتقال المنتظم للثروة إلى أعلى الهرم. ففي عام 1978 على سبيل المثال، حصل نصف أصحاب المداخيل الدنيا في الولايات المتحدة على 20% من إجمالي الدخل فقط. واليوم انخفضت حصتهم إلى 12%. وليس من المستغرب، أنّ حصة 1% من أصحاب أعلى المداخيل سلكت اتجاهاً معاكساً: من 11 إلى 20% (2).
يؤجج انهيار أرباح الغالبية الانحدار الاجتماعي في كل المجالات. فعام 2016، انخفض متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة للمرة الأولى منذ ما يقرب من ربع قرن. أما لجهة تحقيق الأمان التقاعدي، فالأرقام مذهلة: 100 من المدراء التنفيذيين للشركات لديهم مدخرات تقاعدية بقدر ما لدى 116 مليون أميركي(3). والأمر في كندا ومعظم الدول الأوروبية مشابه على هذا الصعيد وإن لم يكن بالغ الوضوح.
وتُظهر كل هذه الاتجاهات أيضاً أنماطاً شديدة العنصرية والتمييز على أساس الجندر. وعندما نعاينها على نطاق عالمي، تصبح أكثر فظاعة. فوفقاً لـ«أوكسفام»، فإن أغنى ثمانية رجال في العالم لديهم ثروة تساوي نصف الجنس البشري (3.6 مليار شخص). والواحد في المئة الأغنى لديهم ثروة أكبر من ثروات الـ99% المتبقية من الناس على هذا الكوكب (4).
في هذا السياق يرشح الغضب الطبقي، غالباً عن طريق معاقبة النخب السياسية التي تؤدي إلى استمرار عدم المساواة المتزايدة(5). ولكن في ظل ضعف النقابات والحركات الاجتماعية، غالباً ما يستغل اليمين هذا الغضب، ويوجهه عن طريق العنصرية والتمييز على أساس الجنس ومهاجمة المهاجرين. ولكن كما تظهر إضرابات الأساتذة في الولايات المتحدة، من الممكن أيضاً أن يؤدي إحباط الطبقة العاملة إلى تأجيج الحملات القائمة على التضامن والمقاومة الجماعية للتقشف النيوليبرالي.
وهذا أمر بالغ الأهمية. فالانتعاش الفاتر من أزمة 2007 - 2009 سوف يفتح الباب في نهاية المطاف لركود جديد. وحين يحدث ذلك، ستظهر أزمات جديدة ومعها احتمال مقاومة شديدة. ومرة أخرى سيضع الركود العالمي المتواصل الأولوية لتنظيم الطبقة العاملة وتعبئتها من قبل يسار اشتراكي متفانٍ.

International Socialist Review
* ترجمة: لمياء الساحلي

المراجع

(1) Carmen M. Reinhart and Kenneth S. Rogoff, This Time is Different: Eight Centuries of Financial Folly (Princeton: Princeton University Press, 2009), 208
(2) Thomas Picketty blog, «WID World: New Data Series on Inequality and the Collapse of Bottom Incomes», Le monde, January 11, 2017
يشار إلى أنّ الأرقام المتعلقة بالدخل لا تعكس بشكل تام أبعاد عدم المساواة لأنها تستبعد الأصول التي يمتلكها الأفراد (أي «ثروتهم»).
(3) Lenny Bernstein, «U.S. Life Expectancy Declines for the First Time Since 1993», Washington Post, December 8, 2016
Andrea Germanos, «100 CEOs Have as Much Retirement Savings as 116 Million Americans», Common Dreams, December 16, 2016
(4) Pan Pylas, «Eight Men as Rich as Half the World, Anti-Poverty Group Oxfam Says», Associated Press, January 16, 2017
Oxfam, «An Economy for the 1%», January 18, 2016
(5) من آخر الأمثلة على ذلك هزيمة الحكومة الليبرالية في مقاطعة أوناريو الكندية على يد محافظي اليمين المتشدد. انظروا:
Todd Gordon, «Ontario’s Donald Trump», June 18, 2018, Socialist Worker