«إن التاريخ العالمي كان سيكون له صفة روحانية حادّة لو لم يكن هناك مكان للصُّدف. وهي تُصبح بشكل طبيعي جزءاً من المنحى العام للتطوّر، ويتمّ التعويض عنها بأشكالٍ أخرى من الصُّدف»كارل ماركس

يبدو أن ترامب يستمع إلى مستشاريه. فأواخر الأسبوع الماضي، صعّدت الإدارة الأميركية حربها التجارية مع الصين برفعها الرسوم الجمركية على أكثر من 200 مليار دولار من السلع الصينية المستوردة. وكان أشيع قبل ذلك أن بعض مستشاري ترامب ينصحونه بالاستمرار بهذه الحرب، وذلك لأن الصين في حالة تراجع اقتصادية مع تدني الاستثمارات والمبيعات الجزئية، ما يجعلها في حالة ضعف تجاه الولايات المتحدة. وأيضاً، لفترة خلت، كان هناك الكثير من الحديث عن أزمة اقتصادية أو مالية محتملة في الصين، وأكثره صدر عن جهات سياسية أو دولية لديها أجندة، خفية أو واضحة، تجاه صعود الصين الخارق نحو صدارة الاقتصاد العالمي. في المقابل، كشف نيكولاس لاردي، من معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في واشنطن، أن نصائح مستشاري ترامب مبنية على ادعاءات غير صحيحة. فوفق المعطيات الموثوقة، شهدت الصين نمواً في الاستهلاك بأكثر من 7% سنوياً في النصف الأول من 2018، وساهم تراكم الرأسمال في ثلث النمو الذي بلغ 6.8%. طبعاً، ما دفع لاردي إلى أن يصحّح الانطباع العام، اعتقاده أن معرفة ترامب الحقيقة ستجعله يغيّر رأيه!
بغض النظر عن نجاعة هذا التكتيك وعلاقته الآنية بالسياسة العالمية، إلا أنه اليوم، بعد مرور أربعين عاماً على الإصلاحات التي أعلنها الحزب الشيوعي الصيني بقيادة الزعيم دينغ شياو بنغ آنذاك، لا بدّ من «جردة حساب» لهذه الفترة التي تحوّلت فيها الصين من قوّة سياسية، لكن ضعيفة اقتصادياً، إلى الاقتصاد الثاني في العالم بعد أميركا. ويخاف العالم، وعلى رأسه الإدارة الأميركية، أن تبدأ بسبب ذلك باستعراض عضلاتها السياسية إقليمياً ودولياً. في هذه الجردة بعض الأمور:

أوّلاً، الأرقام تكاد تكون خيالية
لقد حقّقت الصين منذ 1978 نمواً كبيراً، ما أحدث نقطة تفريع كبرى شبيهة ببدايات الرأسمالية، فزاد الناتج إلى الفرد 20 مرّة في هذه الفترة، أي إن المواطن المتوسّط الصيني أصبح أغنى بعشرين مرة. كذلك زادت حصّة الصين من الاقتصاد العالمي من 1.8% في 1978 إلى 18.2% في 2017، وسيصبح الاقتصاد الصيني الأوّل في العالم بحلول عام 2030، أي سيربح السباق مع أميركا. أمر أخير للتصوّر، كل سنة ينمو الاقتصاد الصيني بحيث يضيف إلى اقتصاده ناتجاً بحجم اقتصاد أوستراليا!

ثانياً، المادية التاريخية حلّت مكان الصراع الطبقي
يعتقد البعض (أو يريد أن يعتقد) أن الإصلاحات في الصين حصلت لأن القيادة الصينية آنذاك تخلّت عن الماركسية و/أو رأت أن الرأسمالية هي أفضل من الاشتراكية، وإلى ما هنالك من افتراضات تأتي من اليسار واليمين على حدّ سواء. طبعاً، يريد اليمين أن يبرهن أن هذا التحوّل هو جزء، ليس فقط من أزمة الشيوعية أو الاشتراكية المحقّقة (أي الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية في السابق)، بل جزء من أزمة الماركسية نفسها. لهذا، رأينا خيبة الأمل أخيراً بعد أن تأكّد أن الأمر ليس كذلك مع الحملة الأيديولوجية الواضحة للرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ. ولكن لنعد إلى عام 1978: في ذلك الوقت كانت الصين أمام مفترق طرق. فالزعيم التاريخي ماوتسي تونغ توفي قبل ذلك بسنتين، ووقعت هزيمة عصابة الأربعة، وكان الاقتصاد الصيني في وضع حرج. وسياسياً، كانت الصين لا تزال تعاني من الآثار السلبية للثورة الثقافية التي امتدّت من 1966 إلى 1976. في هذا الأطار، كان مفهوم الصراع الطبقي الذي أُخِذَ إلى حدّه الأقصى هو الخطأ الأساسي الذي قاد الثورة الثقافية. ما فعلته إصلاحات دينغ أنها إعادت الاعتبار إلى النظرية الماركسية التي أساسها أن تطوّر القوى المُنتجة هو محرّك التاريخ وليس الصراع الطبقي. يقول جيرالد كوهين، وهو صاحب كتاب «نظرية التاريخ لدى كارل ماركس» إن «القول، كما يفعل بعض الماركسيين، أن الصراع الطبقي هو محرّك التاريخ لهو تخلٍّ عن المادية التاريخية». ولذلك أطلقت إصلاحات دينغ قوى السوق والملكية الخاصّة وحافز الربح ليس لحدّ ذاتها، بل لأن الحزب الشيوعي أدرك بعد التجربة التي امتدّت من 1949 إلى 1978، أن الصين لم تكن مستعدّة للتحوّل الاشتراكي بعد الثورة الصينية، وبالتالي إن إطلاق هذه القوى كان من أجل تصحيح المسار التاريخي لتطوّر القوى المُنتجة. ولقد كان هذا الرهان صحيحاً وناجحاً كما رأينا أعلاه.

ثالثاً، هل الاقتصاد الصيني هو اقتصاد نحو الإشتراكية؟
لكن الإصلاحات عَنَت التخلّي عن النموذج الاقتصادي القديم أو الاقتصاد المُخطّط وإطلاق ما سُمّي «اقتصاد السوق الاشتراكي». ربّما كان هذا التحوّل أصعب أمر في تحليل ماذا حدث في 40 عاماً، وخصوصاً إذا أردنا أن نحدّد ماهية الاقتصاد الصيني اليوم، هل هو اقتصاد سوق اشتراكي؟ أم هو اقتصاد رأسمالي؟ أم أنه رأسمالية الدولة؟ يحاول الاقتصادي باري نوتون، من جامعة كاليفورنيا، أن يجيب عن هذه التساؤلات في مقالة نشرت في عام 2017 بعنوان «هل الصين اشتراكية؟»، ويخلص إلى القول: «حتى الذين يعتقدون اليوم أن النظام الصيني غير اشتراكي، فإنهم يعتبرون أن المثال الاشتراكي لا يزال ذا تأثير، وأن النظام قد يتطوّر باتجاه مؤسّسات أكثر اشتراكية وأكثر توزيعية. وعندما يحدث ذلك، فإن النموذج الصيني للاشتراكية قد يبدأ بالانبثاق». إذاً، الصين هي في حالة دَفقْ. ولكن يمكن استخلاص أمرين: الأوّل، أن الصين بعد أن مرّت بفترة في التسعينيات أطلق عليها نوتون «رأسمالية الغرب المتوحّش»، حيث إن السؤال عمّا إذا كانت الصين اشتراكية كان لا يعني شيئاً آنذاك، تمرّ الآن بمرحلة حيث الدولة والقطاع العام يزداد نفوذهما. وعلى الرغم من أن الصين لا تتوافق مع تعريف الاشتراكية على أنها «الملكية العامّة لوسائل الإنتاج»، إلّا أن ملكية الدولة قويّة في قطاع الرأسمال المكثّف (تصل إلى نحو 40%)، وفي قطاع الخدمات ذي الكثافة في الرأسمال البشري، وعلى رأسها القطاع المالي والنقل والاتصالات والتعليم والعلوم والخدمات التكنولوجية (تراوح بين 85% إلى الملكية الكاملة)؛ كذلك فإن الدولة تملك وحدها جميع الأراضي، حيث لا ملكية خاصّة. والخلاصة الثانية، أن سياسة الحزب منذ مجيء الرئيس شي جين بينغ هي باتجاه تأكيد المسار الأصلي للإصلاحات، وهو تطوير الاقتصاد من أجل الوصول إلى الاشتراكية، وليس البقاء في الرأسمالية، وهذا الأمر أكّده المؤتمر الـ19 للحزب في عام 2017.

رابعاً، هل القيم الاشتراكية مُمكنة؟
اليوم، يركّز الحزب الشيوعي الصيني على إشاعة ما يسمّيها «القيم الاشتراكية الأساسية». وهنا يُمكننا القول إنه إذا كان تحديد ماهية الاقتصاد الصيني صعباً، فالأصعب من ذلك، هو الإجابة عن إمكان استحواذ الشعب أو الطبقة العاملة على القيم الاشتراكية. يحاول الحزب اليوم أن يركّز على الحرب ضدّ الفساد، لكنّها ليست حرباً تقليدية على الفساد، بل هي جزء من إنهاء ارتدادات مرحلة «رأسمالية الغرب المتوحّش». ويركّز على أهمية تعليم الماركسية ونشرها من خلال مؤسّسات الحزب، وأيضاً في الجامعات حيث يشنّ الحزب حملة إيديولوجية مضادة ضدّ الفكر الاقتصادي البورجوازي. المعضلة الأساسية هنا هي أن الإصلاحات أدّت إلى قيام «علاقات إنتاج رأسمالية» وانتشار الأسواق والاستهلاك والسعي إلى الربح وتعاظم عدد الأثرياء وهذا يؤثّر مباشرةً بالبنى الفوقية للمجتمع (الفكر، الأيديولوجيا، القوانين، طرق الحياة، القيم، ...) كما سمّاها ماركس. وبالتالي، إن المعركة التي يخوضها الحزب في مجال البنى الفوقية صعبة، بل صعبة جدّاً. وهذه المعضلة يمكن استشرافها من المشهد الآتي: ذكّر شانغ فولين رئيس لجنة تنظيم المصارف أخيراً، القادة المصرفيين بأنهم «أعضاء حزبيون وسكرتريون في الحزب أوّلاً، وهم رؤساء للبنوك ثانياً». وهذا الأمر أو المفارقة أصبح جزءاً من الاشتراكية ذات الخصائص الصينية.
في عام 1978 كان من الواضح على المستوى العملي استحالة الاستمرار بالنموذج الاشتراكي الصيني القديم، لأن الاقتصاد الصيني لم يتطوّر ليسمح بإقامة علاقات إنتاج اشتراكيّة. فماركس كان واضحاً جدّاً في «المدخل إلى المساهمة في نقد الاقتصاد السياسي»، عندما قال: «لا يختفي أي نظام اجتماعي إلّا بعد أن تتطوّر كامل قوى الإنتاج في طيّاته، ولا تَسْتبدل علاقات الإنتاج الجديدة الأكثر تطوّراً تلك القديمة إلّا بعد أن تكون قد نضجت الظروف المادية لانبثاقها في إطار المجتمع القديم». وهذه القوانين حتّمت الإصلاحات في 1978، وهي الآن تُخيّم على الحزب الشيوعي الصيني الذي يقود تجربة تاريخية لم تحصل من قبل، حيث يدير حزب شيوعي تطوّر قوى الإنتاج مع علاقات إنتاج رأسمالية نحو الاشتراكية. وهنا تكمن أهمية الفهم العلمي للمسار التاريخي وقوانينه الأساسية وفي تجلّيه عبر الصُّدف في بعض الأحيان.