أسوأ طريقة لمواجهة أزمة، هي في إنكار وجودها. وهذه طريقة مُعتادة وليست فريدة أو جديدة، وهي لا تشذُّ عن القاعدة المُعتمدة في الحالة اللبنانية، اليوم وفي كلّ وقت.لذلك، كلّما خرج مسؤول في الدولة أو مصرفي أو «خبير» ليطمئننا إلى أن لا خطر على سعر صرف الليرة الثابت، وأن الخوف السائد بين الناس سببه «شائعات» و«مؤامرات» فقط، علينا أن نخاف أكثر، لا لأن الخطر موجود بالفعل وهناك مؤشّرات كثيرة عليه لا يمكن طمسها وتجاهلها، بل لأن إنكار مجرّد احتمال وجود الخطر منذ البداية يعني أمراً واحداً، هو: التخلّي عن المسؤولية، وترك اللعبة النقدية تأخذ مداها الخطير من دون أي تدخّل للجم آثارها السلبية وأكلافها المتعاظمة على المجتمع والاقتصاد، وبالتالي تجيير إدارة الخطر نفسه إلى فاعلين محدّدين (مصرف لبنان والمصارف وكبار المودعين والمؤسسات المالية الدولية)، تتحكّم بتصرّفاتهم مصالح نفعية خاصة، لا تتطابق بالضرورة مع المصلحة العامّة، ولا تتطابق حتماً مع الحاجة الملحّة في مثل هذه الظروف لحماية الفئات الضعيفة، وهي الفئات الأكثر تعرّضاً للخسارة، سواء أسفرت هذه الإدارة عن انهيار سعر الصرف، أو فرضت خفضه أو كابرت بإبقائه ثابتاً مهما كانت الكلفة باهظة. ففي كل هذه الخيارات، ستعمد الإدارة الحالية إلى تمويل الكلفة على حساب الأجور والأرباح في الاقتصاد الحقيقي وعلى حساب مستوى المعيشة العامّ.
بمعزل عن الأسباب، وعلى الرغم من المفارقات التي يثيرها ربط سعر صرف الليرة بالدولار وتثبيته في اقتصاد مدولر بنسبة تفوق 70% من تعاملاته ويتّكل في تمويل حاجاته على التدفّقات الخارجية بدرجة كبيرة... فإن معظم المقيمين في لبنان يتفقون على أن ثبات سعر صرف الليرة مهمّ، بل هو في مقدّمة المسائل المهمّة. وهذا الموقف قد يكون مفهوماً في ضوء التجربة المريرة التي عاشوها بين عامي 1982 و1992، عندما انخفض سعر صرف الليرة في مقابل الدولار من أقل من 5 ليرات في أيلول/ سبتمبر 1981 إلى 2850 ليرة في آب/ أغسطس 1992.
لقد ساهم هذا «العقد الأسود» بتحوّلات اجتماعية جارفة، أدت إلى رمي المزيد من الأسر في براثن الفقر، بسبب خسارتها لجزء مهمّ من القوة الشرائية للأجور وتعويضات نهاية الخدمة ومعاشات التقاعد والمدّخرات الصغيرة المودعة في المصارف. وساهم ذلك أيضاً بتحوّلات سياسية كبيرة كرّست نتائج الحرب وميزان القوى فيها، ومكّنت «المجتمع المضاد» (وفق المصطلح الذي استخدمه سليم نصر لوصف مجتمع الحرب واقتصادها) من السيطرة كلّياً على الاقتصاد والموارد والامتيازات وريوع الدولة والتحكّم بسياسات إعادة التوزيع وآليات تركيز الثروة والدخل لمصلحة القلّة المُهيمنة... كان كل ذلك ممكناً ومتاحاً في ظل حرب أهلية مدمّرة واحتلال إسرائيلي مديد وتدخّل عسكري سوري مباشر، وتفكّك الدولة وانحلالها شبه التامّ وفقدانها السيطرة على حدودها وأراضيها، بالإضافة إلى موجات تضخّم متتالية ومضاربات محمومة واختلاسات للودائع وتعثّر مصارف تجارية عدّة وفرض مصادرات وخوّات وجباية ضرائب ورسوم في مناطق نفوذ خاصّة. إلّا أن ما كان قائماً في ظروف الحرب، استمرّ بعدها وترسّخ على مدى ربع قرن، وتحوّل إلى نظام دائم من دون أن يكتسب أيّاً من عناصر هذه الديمومة.
وفق ما توصّلت إليه دراسة ليديا أسود على تصريحات ضريبة الدخل لعام 2014، يتبيّن أن 10% من السكّان باتوا يستأثرون حالياً بأكثر من 55% من الدخل الوطني، علماً أن 1% فقط من السكّان يستأثرون بربع الدخل وحدهم. وتفيد بيانات أخرى تتعلّق بالثروة بأن فئة الـ10% الأكثر ثراءً تستحوذ على 70% من إجمالي الثروة القومية، وتستحوذ فئة الـ1% الأكثر ثراءً وحدها على 40% من هذه الثروة. ووفق إحصاءات مصرف لبنان في نهاية عام 2017، يتبيّن أن 0.8% فقط من مجمل المودعين (نحو 24 ألف حساب) يستحوذون وحدهم على 52% من مجمل الودائع المصرفية (نحو 87 مليار دولار). وتكشف هذه الإحصاءات أن هؤلاء المودعين الكبار يستحوذون الآن على ثلثي الودائع بالعملات الأجنبية وثلث الودائع بالليرة، في حين أن أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسّطة يمتلكون ثلثي الودائع بالليرة، وهم الأكثر تعرّضاً لمخاطر سعر الصرف، إلى جانب العمّال والمستخدمين في القطاعين العام والخاصّ، النظاميين واللانظاميين، وأيضاً العاملين لحسابهم في أنشطة الخدمات المتدنية الإنتاجية وبعض المهن الحرّة... فهؤلاء جميعهم يحقّقون دخلهم بالليرة اللبنانية، ويشكّلون النسبة الأكبر من القوى العاملة في لبنان، وبالتالي النسبة الأكبر من الأسر المُقيمة في لبنان.
هذا التركّز الشديد في الثروة والدخل والمخاطر ليس وليد ضغوط طارئة أو عثرات ظرفية، بل هو النتيجة الحتمية لسياسة التثبيت النقدي المُعتمدة، التي تقوم على رفع معدّلات الفائدة إلى مستويات سخيّة مبالغ بها، وخلق النقود بكثافة بهدف الرفع المالي وزيادة المديونية العامّة والخاصّة، وإجراء هندسات مالية مُكلفة جدّاً لدعم ميزانيات المصارف وتمكينها من زيادة موجوداتها وأرباحها وأرباح كبار المودعين، وتقديم الدعم المباشر من الموازنة العامّة ومصرف لبنان لتمويل رفع الفوائد على الودائع لدى المصارف للمحافظة عليها وتكديس المزيد منها بلا سقف، وكذلك لتمويل خفض كلفة الاقتراض، ولا سيّما للأسر، بهدف تحفيز الاستهلاك والتملّك السكني وتشجيع المضاربات على أسعار الأراضي لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية وتحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج إلى سوق العقارات.
لقد لعبت هذه السياسة دوراً حاسماً في تعميق الاختلالات البنيوية في الاقتصاد اللبناني، وساهمت في تكريس هيمنة القطاع المالي إلى جانب قطاع الخدمات، ولا سيّما التجارة (نحو 75% من مجمل الناتج المحلي)، وبالتالي لم يعد هذا الاقتصاد يصلح لتوليد الوظائف والدخل والثروة والقيم المضافة، بما يكفي لدعم استقرار سعر الصرف، فتحوّل تثبيت سعر الصرف من أداة مؤقّتة، وربّما مبرّرة، لتجاوز مرحلة إعادة الإعمار بعد الحرب في التسعينيات من القرن الماضي والحصول على التمويل الخارجي لدفع النمو وتمويل عجز الموازنة والحساب الجاري، إلى هدف قائم بذاته، يجري عزله تماماً عن الأهداف الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويجري التعامل معه كما لو أن نتائجه ليست متّصلة بكل النتائج الأخرى التي يشكو منها الجميع، من انهيار البنى التحتية والخدمات العامّة وارتفاع كلفة المعيشة وانخفاض الأجور وتنامي الدين العامّ وصولاً إلى الفساد وحتى زحمة السير.
في الواقع، هذا ما نواجهه اليوم. فنحن في مواجهة مرحلة متقدّمة جدّاً من أزمة نظام يعجز كلّياً عن الاستمرار من دون أن يرتّب المزيد من الخسارة والتدهور على كلّ المستويات، والمزيد من المخاطر على الفئات الاجتماعية الأكثر حاجة إلى الحماية والدعم. ولكن، ببراعة فائقة، يجري اختزال كلّ المسألة بسعر الليرة، في حين أنها أزمة بنيوية جدّية تستدعي مساومات وتنازلات كبيرة تصيب وظائف الدولة ونظامها الضريبي وبنية الاقتصاد وعلاقات العمل ورأس المال. وفي كلّ ذلك، لا يتبوأ سعر الصرف إلا منزلته الفعلية كأداة لا كهدف بذاته.