يدفع صغار المستهلكين أسعاراً أعلى لكلّ كيلوواط/ ساعة من الكهرباء، وتصل إلى مرّة ونصف مرّة أكثر بالمقارنة مع كبار المستهلكين. هذا ما ركّزت عليه ورقة بعنوان «دعم الكهرباء غير المرئي: الامتياز البيروتي»، أعدّها الأستاذ في مركز البحوث الدولية إيريك فرديل، ويستند فيها إلى البيانات والمعلومات المتوافرة من مؤسّسة كهرباء لبنان وفي الخطّة الوطنية الاستراتيجية لقطاع الكهرباء والبنك الدولي، التي تتيح احتساب الفوارق في أسعار الكهرباء بين شرائح الاستهلاك والمناطق المختلفة والناتجة من عدم المساواة في برنامج التقنين الذي تعتمده المؤسّسة، ومن هيكلية التعرفات الثابتة التي قرّرها مجلس الوزراء منذ عام 1994، والتي أدّت إلى تعميق الفوارق لمصلحة أصحاب الدخل الأعلى والقاطنين في بيروت الإدارية والمستفيدين من الاستثناءات الانتقائية من التقنين، والمستفيدين أيضاً من التعرفات الخاصّة والتعدّيات على الشبكة العامّة والممتنعين عن تسديد الفواتير.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

يصل التقنين الكهربائي المُعتمد من قبل مؤسّسة كهرباء لبنان إلى أكثر من 12 ساعة يومياً، ولا سيّما في المناطق الطرفية حيث يتركّز الفقراء. وكمتوسط عام، لا تنقطع الكهرباء في بيروت الإدارية (والاستثناءات الأخرى) لأكثر من 3-4 ساعات يومياً. ووفق البيانات الإحصائية، يتمتع سكّان بيروت بمستوى دخل أعلى وتجهيزات أفضل من سائر المناطق، وبالتالي هم الأكثر استهلاكاً للكهرباء المدعومة ويحصلون على الحصة الأكبر من قيمة الدعم ولا يضطرون (غالباً) إلى تحمّل كلفة اشتراكات المولّدات والبدائل الأخرى التي ترهق ميزانيات الأسر في بقية المناطق.
تقول القاعدة العامّة، إنه كلّما استُهلِك المزيد من الكهرباء المُنتجة عبر مؤسّسة كهرباء لبنان، وكلّما توافرت لساعات أطول، كانت الاستفادة من الدعم أكثر، وزادت الكلفة المترتبة على المال العامّ. و«هذه ليست آلية دعم مدروسة، بل آلية غير مرئية لزيادة حدّة اللامساواة والتمييز داخل المجتمع»، وفق ما خلصت إليه الورقة المذكورة.
في الواقع، إن استهلاك كلّ مشترك يتناقص كلّما ابتعدنا عن بيروت وضواحيها باتجاه بقية المناطق، بحيث تحصل بيروت الإدارية على 21% من الدعم فيما لا تضمّ سوى 13% من المستهلكين، تليها أنطلياس (مناطق جبل لبنان الشمالية) التي تحصل على 17% من الدعم، وهي نسبة أعلى من نسبة تركّز المشتركين فيهم (12% من المشتركين)، فيما مناطق الشياح وبكفيا وكسروان وصيدا تحصل على دعم متناسق نسبياً مع عدد المشتركين فيها. أمّا المناطق الطرفية والأكثر فقراً، مثل جب جنين وصور والنبطية وبعلبك والهرمل وطرابلس وعكار والمنية، قتتلّقى دعماً يقلّ بنسبة 50% عن حصّة المشتركين المقيمين فيها.
السبب الآخر للخلل في توزيع الدعم الكهربائي، يكمن في هيكلية الأسعار المدعومة نفسها. فقد قُسِّمَت التعرفة المخصّصة للتوتر المنخفض، أي للمنازل والمؤسّسات الصغيرة والمتوسطة، إلى خمسة شطور، ويُحدّد لكلّ شطر سعر ثابت يتصاعد بين الشطر والشطر الذي يليه (35 ليرة لغاية 100 كيلوواط/ساعة في الشهر، و55 ليرة ليرة بين 100 و300 كيلوواط، و80 ليرة بين 300 و400 كيلوواط، و120 ليرة بين 400 و500 كيلوواط، و200 ليرة لما فوق 500 كيلوواط)، ويضاف إليها تكاليف ثابتة هي عبارة عن رسوم (رسم الاشتراك وبدل تأهيل) وضرائب (طوابع وTVA). وفقاً للورقة المذكورة، أدّت هذه التكاليف الإضافية الثابتة إلى تشويه الهدف من التعرفة التصاعدية، بحيث باتت كلفة الكيلوواط/ساعة أكثر من 16 سنتاً لمن يستخدم 50 كيلوواط في الشهر، فيما تبلغ نحو 10 سنتات لمن يستهلك 500 كيلوواط في الشهر.
غالباً ما يُحمَّل الفقراء مسؤولية العجز في مؤسّسة كهرباء لبنان، بوصفه ناتجاً من تثبيت التعرفة، ويوضع الهدر غير الفني (السرقات وعدم تسديد الفواتير) في مقدّمة النقاشات، إلّا أن الورقة تشير إلى أن هناك القليل من البيانات التي تبيّن أن السرقات ترتكب في المناطق الفقيرة والطرفية على عكس المناطق المركزيّة، حيت يرتفع الاستهلاك.
انطلاقاً من هذه المعطيات، يجدر طرح السؤال: هل يجب إلغاء الدعم لأسعار الكهرباء وتحميل الفقراء عبء هذا «التقشّف»؟ أم يجب إصلاح الدعم وإعادة توجيهه نحو فئات الدخل الأدنى والمتوسط ومؤسّسات الإنتاج؟
إن كلفة إنتاج الطاقة الكهربائية في لبنان مرتفعة جدّاً، بسبب عوامل كثيرة، أهمّها الاستخدام الكثيف لأغلى أنواع الوقود، واستجرار الطاقة من مصادر تجارية مؤقّتة (البواخر، سوريا)، وتلزيم عمليات التشغيل والصيانة والجباية لشركات خاصة عبر عقود سخيّة، وتقادم معامل الإنتاج والمحطّات، والهدر الكبير للطاقة المُنتجة الناجم عن عدم كفاءة شبكات النقل والتوزيع والتعدّيات الكثيرة على هذه الشبكات، بالإضافة إلى امتناع مشتركين كثر عن تسديد الفواتير المستحقّة، بما في ذلك إدارات ومؤسّسات عامّة وشركات خاصّة. لذلك، كل حديث عن خفض كلفة الدعم، من دون معالجة كل هذه العوامل، لا يعدو كونه طريقة لنقل الكلفة من الموازنة العامة إلى ميزانيات الأسر، وهذا يؤدّي إلى تعزيز التفاوتات أكثر بكثير مما يفعله الدعم القائم اليوم.