«إن عملنا هو الوصول إلى كل زاوية في العالم... لهؤلاء الذين يحاربون من أجل عالم أفضل... إن عملنا هو البناء على إنسانيتنا المشتركة، وعلينا أن نقوم بكل شيء لمعارضة السلطات التي تحاول أن تفرّقنا عن بعضنا البعض، إن كانت سياسية أو شركات رأسمالية. نحن نعلم أن هذه السلطات تعمل معاً عبر الحدود. وعلينا أن نفعل الشيء نفسه»برني ساندرز

بغض النظر عما سيحدث لليرة اللبنانية التي يتصارع اليوم حولها قُطبا «الدينونيين» و«الاعتذاريين»، لا شكّ أن الاقتصاد اللبناني في أزمة كبرى، أذ إن الأزمة لا تطاول فقط مؤشّرات اقتصادية مثل النمو والبطالة، والتي قد يُمكن حلّها بسياسات مالية أو نقدية جديدة، بل هي أصبحت أزمة بنيوية تطاول قدرة الاقتصاد على رفع الإنتاجية وتطوير التكنولوجيا ووسائل الإنتاج والبنية التحتية والتصدير واستعمال العمالة الماهرة ورفع مستوى المعيشة للمواطن المتوسّط. كل هذا يعني ترسّخ منحى طويل الأمد من التراجع الاقتصادي وفقدان لبنان لموقعه أيضاً. وهذا الأمر لا ينتظر الوقت ليُبرزه، بل هو يتظهّر الآن، فقد بيّن التقرير الأخير حول التنافسية أن كثيراً من المؤشّرات ليست في وضع سيئ فقط، بل أيضاً ذات منحى تراجعي. فحالياً يحتلّ لبنان المرتبة 105 في العالم، والمرتبة الأخيرة في المنطقة العربية خلف دول خُدعَ اللبناني العادي لمدة طويلة كي يصدق أن لبنان أفضل منها بكثير!
وعلى الرغم من الأزمة، فإن القوى السياسية كلّها والتي دخلت لعبة الأحجام ولم تخرج منها، ليس لديها أي تشخيص للأزمة ولا حلول لها خارج إطار الأمور الكلاسيكية التي يتمّ تردادها، والتي لن تجدي نفعاً، مثل وقف الهدر ومحاربة الفساد واستعادة الثقة والنفط والغاز وإعادة إعمار سوريا... وكلّها بمثابة قنابل دخانية تطلقها الأحزاب الحاكمة، وهي في المحصّلة محاولة لشراء الوقت بانتظار دفق مالي خارجي، بات النموذج الاقتصادي القديم معتمداً عليه، عَلّه يعطيه وقتاً إضافياً. ولكن للذي لم ينتبه بعد فإن النموذج الاقتصادي القديم يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وهنا تبرز الحاجة إلى إنقاذ اقتصادي. لكن هل الإنقاذ سيأتي من العدم، أو هو أمر تقني نستقيه من خطّة مثل خطّة ماكنزي؟ الجواب اليوم هو على عاتق، أو من مهمّة، القوى السياسية البديلة التي شاركت في الانتخابات الأخيرة، التي عليها أن تطرح أيضاً البديل الاقتصادي.
رمسيس مورالس إيزكويردو ــ كوبا

فعلى الرغم من النتائج السيئة لقوى المعارضة الديموقراطية، إلا أن هذا لا يعفيها من طرح البرامج البديلة والإنقاذية تحضيراً لمسارين محتملين: الأول، حصول أزمة كبرى وانهيار اقتصادي يؤدّي إلى أزمة سياسية كبيرة تتطلّب أن تأخذ قوى جديدة دورها في عملية الإنقاذ. والثاني، تحضيراً للانتخابات المقبلة التي من دون شكّ ستصل إليها الأحزاب الحاكمة الحالية مُنهكة من ألعابها وغير قادرة على تجديد نفسها، لا كمّياً ولا نوعياً. في هذا الإطار، وكجزء من المعارضة الديموقراطية، على اليسار، وخصوصاً الحزب الشيوعي اللبناني، أن يطرح برنامجاً للتغيير يحشد حوله الطبقات والقوى المتقدّمة في المجتمع، التي لم تعد ترى في النموذج الاقتصادي والسياسي الحالي فضاءً تعمل فيه من أجل تحقيق مصالحها. اليوم لم يعد ممكناً البقاء في الماضي بذريعة انغلاق طرق المستقبل. لربّما كان هذا الأمر مبرّراً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 وانتصار الرأسمالية وبعد اتفاق الطائف وسيطرة الأحزاب الطائفية والدينية وبعد هجوم الرأسمال المحلّي في التسعينيات. الآن كل هذا تغيّر، فالرأسمالية حول العالم في أزمة، واتفاق الطائف وأحزابه في أزمة، ومرحلة صعود الرأسمال المحلّي انتهت.
اليوم، يفترض بوضع اليسار الدولي أن يكون دافعاً أساسياً ليأخذ اليسار اللبناني مكاناً في الفضاء السياسي. فاليسار حول العالم لديه قوّة دفع جديدة، والمشهد تغيّر كثيراً منذ تلك الأيام والسنين التي تلت انقلاب ريغن وثاتشر وتخلّي الديموقراطية الاجتماعية عن جذورها مع بلير وشرودر. فاللامساواة التي هي بازدياد مطرد والتطوّر التكنولوجي واحتمالات الركود الطويل الأمد، كلّها تؤشّر إلى أزمة كبرى في الرأسمالية. وهذه الأزمة يلاقيها حراك سياسي لليسار؛ فقد دعا أخيراً برني ساندرز ويانيس فاروفاكيس إلى قيام حركة يسارية عالمية لمواجهة صعود اليمين. والأهمّ، أن حزب العمّال البريطاني، الذي قاده توني بلير إلى اليمين، يطرح الآن برنامجاً ديموقراطياً اشتراكياً راديكالياً أساسه ليس الديموقراطية الاجتماعية، بل الملكية المشتركة لبعض وسائل الإنتاج والملكية العامّة لمؤسسات الخدمات العامّة مثل الكهرباء والمياه والنقل والسكن الاجتماعي.
لكن من أجل ملاقاة كلّ ذلك، على اليسار اللبناني أن يتخلّى عن عوائق عدّة حكمت عمله في السنوات الأخيرة، وأن يطرح برنامجاً اشتراكياً للتغيير. هناك ثلاثة خيارات مختلفة، على الرغم من تقاطعها في بعض البنى والسياسات، يمكن أن يتبعها اليسار في هذه الفترة، ولكن أيها الأكثر توافقاً مع المرحلة الحالية التي يمرّ فيها لبنان؟

أولاً، الديموقراطية الاجتماعية.
إن اتباع سياسة ديموقراطية اجتماعية هي أساساً مبنية على دولة الرعاية الاجتماعية كما على الاقتصاد المُختلط. في هذا الإطار، يتطلّب الأمر نظاماً ضريبياً هائلاً ونظاماً متطوّراً لإعادة التوزيع. إن هذا الأمر لا يمكن أن يتحقّق من دون أن تكون القاعدة المادية للاقتصاد متطوّرة. في الحالة اللبنانية، كما سأبيّن ببعض التفصيل، في النقطة الثالثة أدناه، الوضع ليس كذلك وإن أي إعادة توزيع للمداخيل من دون الأخذ بالاعتبار الحاجة إلى تطوير الاقتصاد ستكون آثارها سيّئة.

ثانياً، الديموقراطية الاشتراكية.
إن حزب العمّال البريطاني، كما ذكرت، يحمل في طيّات برنامجه الجديد إجراءات أكثر راديكالية تذهب أبعد من الديموقراطية الاجتماعية التقليدية من حيث طرحه الملكية المشتركة بين الرأسمال والعمل للشركات الكبرى، وطرحه لمفهوم «العائد الاجتماعي» الذي يحوّل جزءاً من عائدات الرأسمال إلى المجتمع لبناء البنية التحتية والاجتماعية على أنواعها. جون مكدونال، سكرتير الخزينة الظلّ، كان واضحاً في وضع مسألة الملكية كأولوية عندما أعلن في مؤتمر حزب العمّال في أيلول/ سبتمبر أن «السلطة تأتي أيضاً من الملكية». نحن نؤمن بأنّ العمّال، الذين يخلقون ثروة المؤسّسات، يجب أن يشاركوا في ملكيّتها... سنقوم بإمرار تشريعات تطاول الشركات الكبيرة لتحويل الأسهم إلى «صندوق ملكية تضميني». وسوف يتمّ الاحتفاظ بالأسهم وإدارتها بشكل جماعي من العمّال. وستمنح حقوق المساهمين للعمّال الحقوق نفسها التي يملكها المساهمون الآخرون... وسيتم دفع الأرباح مباشرة إلى العمّال من الصندوق... وبهذا، سيكون لنحو 11 مليون عامل رأي أكبر، وحصّة أكبر في مكافآت عملهم... لكنّنا أيضاً نعلم أن الاستثمار الجماعي في البنية التحتية والتعليم والأبحاث والتطوير الذي نقوم به كمجتمع هو الذي يجعل روّاد الأعمال قادرين على تطوير أعمالهم؛ لذلك نعتقد أن من الصواب أن يشارك المجتمع في العوائد التي ينتجها هذا الاستثمار. ولهذا السبب، سيتمّ تحويل نسبة من الإيرادات الناتجة من «أموال الملكية التضمينية» إلى خدماتنا العامّة كعائد اجتماعي. وبمرور الوقت، سيعمل هذا على مراكمة المليارات التي يمكن إنفاقها لدعم خدماتنا العامّة ونظام الضمان الاجتماعي. أيضاً، لبنان الآن ليس مستعدّاً لهذا النوع من الإجراءات الراديكالية ما عدا ما يطاول القطاعات الريعية كما سنرى.

ثالثاً، اشتراكية السوق.
إن الخيارين السابقين يتطلّبان اقتصاداً متقدّماً. وهو أمر ركّز عليه كارل ماركس وفريدريك إنجلز، حيث إن «اشتراكية التوزيع» المبنية على اقتصاد غير متطوّر ليست قابلة للاستمرار وهي طوباوية (انظر ما يحصل في فنزويلا اليوم التي تعاني من إرهاصات اشتراكية توزيعية). إن أي سياسة اقتصادية لليسار في لبنان، اليوم، يجب أن تنطلق من تشخيص بأن الرأسمالية اللبنانية لم (ولن) تحقّق التقدّم الصناعي والتكنولوجي اللذين يزيدان الإنتاجية والفائض الاقتصاديين نحو قيام دولة الرعاية الاجتماعية و/أو مجتمع الملكية المشتركة، وصولاً إلى الإشتراكية. الحاجة الآن هي إلى «دفعة كبيرة» وتحويل الثروة الريعية إلى تراكم رأس المال وإلى التقدّم التكنولوجي. والطريقة لتحقيق ذلك هي استعمال النظام الضريبي لاستغلال القطاعات الريعية وتحويل الموارد وإعادة التوزيع، ليس للاستهلاك، بل إلى التصنيع وتطوير القوى المُنتجة من خلال سياسة صناعية وتكنولوجية للدولة. وبهذا يتمّ تحقيق هدفين في آن: نزع سيطرة القلّة على الثروة والدخل المتركّزة في الريع وإقامة اقتصاد متقدّم . سياسياً، إن حمل اليسار لمشروع القفزة الكبرى لإقامة اقتصاد عالي الإنتاجية عبر اشتراكية السوق و«إدارة وتسيير الرأسمالية اللبنانية»، يمكن أن يجذب الشباب المُتعلّم والعمّال والموظّفين والرياديين وبعض الرأسماليين المتنوّرين الذين يعانون كلّهم اليوم من سيطرة الريع الخامل على الاقتصاد، ما يمنع حالياً التقدّم والرفاه وتحقيق آمال الكثيرين في مستوى معيشة أفضل يتماشى مع القدرات الكامنة في لبنان، والتي يُبدّدها الرأسمال الريعي والتجاري ونظام إعادة التوزيع الطائفي.
عشية المؤتمر الـ 11 للحزب الشيوعي اللبناني، كتبت أن عليه تمثيل ثلاث: تطوير القوى المُنتجة والتقدّم، العدالة والمساواة، والديموقراطية الحقيقية. الأول هو النقيض لهذا الاقتصاد الريعي الراكد والمأزوم؛ والثاني هو النقيض لسيطرة القلّة، أو طبقة الـ 1% المستحوذة على الثروة والدخل؛ والثالث هو النقيض للنظام الشمولي الطائفي. اليوم، في ظل هذه الأزمة الكبرى، الفرصة مُتاحة، وخلال السنوات الأربع المقبلة، لحشد أكثرية يقودها اليسار نحو هذا التغيير الذي ينطلق من الواقع لا إسقاطاً عليه؛ فكما قال نيكولاي بوخارين «إن المجتمع الجديد لا يمكن أن يظهر كما الإله من الآلة».