تسبّبت الحرب في لبنان (1975-1990) بدمار كبير. قتل فيها نحو 150 ألف شخص، ولا يزال نحو 17 ألف شخص في عداد المفقودين. شكّل القتلى والمفقودون نحو 5% من مجمل سكان لبنان في تلك المرحلة، بالإضافة إلى عشرات آلاف الجرحى ومئات آلاف المهجّرين والمهاجرين. قُدّرت الخسائر المادية والإنتاجية في هذه الحرب بأكثر من 30 مليار دولار. وانخفض النمو الاقتصادي إلى النصف، ولم يعد نصيب الفرد من مجمل الناتج المحلي الحقيقي إلى ما كان عليه في عام 1974 إلّا في عام 2002. باختصار، هدرت الحرب جيلاً كاملاً تقريباً، ودمّرت البنية التحتية المادية وجزءاً مهمّاً من الأصول الرأسمالية المُتراكمة في الفترة السابقة، والأهمّ، أنها أسفرت عن تفكيك الدولة والسيطرة على ريوعها، ولا سيّما في المرحلة الثانية منها بعد الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، التي شهدت أيضاً انهيار سعر صرف الليرة من أقل من 5 ليرات للدولار الواحد في عام 1981 إلى أكثر من 2850 ليرة في عام 1992، ومهّدت لإرساء النموذج الاقتصادي القائم حالياً والمُهدّد بالانفجار في كلّ حين.هناك اتفاق واسع على أن عوامل كثيرة، داخلية وخارجية، دفعت إلى هذه الحرب، في مقدّمها عدم عدالة توزيع الثروة والدخل، واحتكار الاقتصاد من أقلية صغيرة، وسيطرة رأس المال الأجنبي، وعجز البنية الاقتصادية التي تطوّرت منذ الاستقلال عن امتصاص تدفّقات النازحين من الريف إلى المدينة (بيروت تحديداً)، في ظلّ هيمنة واضحة للاحتكارات التجارية والمصرفية وتزايد نفوذ الملّاك العقاريين الكبار، وتغليب أدوار الوساطة الإقليمية والتركّز الشديد في قطاع الخدمات على حساب نمو الزراعة والصناعة.
بين عامي 1950 و1974، سجّل الاقتصاد اللبناني نموّاً بنسبة 7% كمتوسّط سنوي. وهو معدّل نمو مرتفع نسبياً، ما أعطى انطباعاً خادعاً بالازدهار والبحبوحة. إلّا أن قطاع الخدمات استحوذ في حينه على أكثر من 70% من مجمل الناتج المحلي، وكان الاستهلاك الشخصي (استهلاك الأسر) هو المحرّك الرئيس لهذا النمو، وساهم بنحو 80% من مجمل الناتج المحلّي. وعلى الرغم من هذا النمو «القوي» في تلك الفترة إلّا أن نصيب الفرد من مجمل الناتج المحلّي لم ينمُ في المقابل إلّا بنسبة 3%، وكان هذا المعدّل أقلّ من المتوسّط المُسجّل في سبعة بلدان مجاورة (قبرص، سوريا، تركيا، إسرائيل، الأردن، مصر، تونس). ويدّل ذلك إلى أن النمو الاقتصادي قبل الحرب الذي يستسهل البعض وصفه بـ«المعجزة اللبنانية» لم يكن في الواقع إلّا ستارة أخفيت خلفها تفاوتات اجتماعية ومناطقية هائلة تزايدت باطراد، وهو ما يُعبّر عنه مؤشّر «جيني» الذي يقيس توزيع الدخل (مع التحفّظ على دقّة هذا المؤشّر)، إذ ارتفع من 0.51 في عام 1960 إلى 0.55 في عام 1974 (0 يعني مساواة كاملة و1 يعني لامساواة كاملة).
ساهمت الحرب في تعميق الأزمة البنيوية وزيادة حدّتها، وساهمت بإضافة تشوّهات ومواطن ضعف كثيرة، على كلّ الصعد والمستويات. فقد عانى المجتمع اللبناني من نزفٍ متواصل في العمالة الماهرة ورأس المال بسبب الهجرة الكثيفة، وجرى تقطيع أوصال المناطق وعزلها عن بعضها، وحدثت تحوّلات اجتماعية وديموغرافية جارفة، وأفرزت ما يمكن تسميته بنظام الحرب ومجتمعه واقتصاده، من خلال تحكّم الميليشيات بالمجتمع المدني وقمعه وتقاسم السوق والأرض والريوع والاستعاضة عن الدولة بتنظيمات وتشكيلات دون مرتبتها، وشمل ذلك المحاكم والضرائب والمصادرات والاستيلاء على الأملاك العامّة والتحكّم بالتجارة وتوزيع الكهرباء والمياه والمحروقات والدواء والمواد الغذائية... وتعاظم دور المنظّمات غير الحكومية حتى باتت تحتكر (تقريباً) الرعاية الاجتماعية والصحّة والتعليم وغيرها.
ولكن، على الرغم من فداحة الحرب ومآسيها ونتائجها الكارثية الماثلة حتى اليوم، فهي كانت بمثابة فرصة نادرة لمعالجة الاختلالات البنيوية الأساسية في النظام السياسي ونموذجه الاقتصادي وآلياته لإعادة توزيع الثروة والدخل واستخدامات الأراضي ونمط العمران المديني، ولا سيّما مع تعطّل بعض وظائف الوساطة التجارية والمالية السابقة، وهروب رأس المال الأجنبي، وإضعاف البرجوازية التقليدية، وتجزئة الأسواق وتفريع المؤسّسات (الوزارات والجامعة اللبنانية وفروع المصارف والرعاية الصحية) وتوزيع التجهيزات خارج منطقة بيروت الكبرى المركزية... كان يمكن أن تشكّل هذه العوامل (وغيرها) حوافز في مرحلة إعادة الإعمار والبناء بعد الحرب لتفكيك النظام السابق وإعادة تشكيل السلطة وخلق أقطاب اقتصادية موزّعة مناطقياً، بما يقوّض مركزية بيروت المُفرطة وينهض بالاقتصاد الحقيقي ويعمّم منافع النمو الاقتصادي ويعيد توزيع خسائر الحرب ومنافع إعادة الإعمار.
ما حصل بعد اتفاق الطائف، كان عكس المُرتجى كلّياً، ليس فقط بسبب تزامن وقف الحرب مع صعود «النيوليبرالية» على مستوى العالم، بل أيضاً بسبب ما عبّر عنه الرئيس الراحل رفيق الحريري في انتخابات عام 2000، عندما برّر النتائج السلبية لمرحلة إعادة الإعمار بأننا «اضطررنا لشراء السلم الأهلي بالمال».
تُترجم هذه المقولة بنظرية شائعة عن أن في المجتمعات كالمجتمع اللبناني، تستخدم التنظيمات (الطائفية في حالتنا) العنف أو تهدّد باستخدامه لجمع الثروات والاستحواذ على الموارد، وبما أن كبح العنف هو الشرط الأساسي للنمو الاقتصادي في المجتمعات التي تعيش في ظلّه، فإن النظام السياسي يصبح محكوماً بالتلاعب بالمصالح الاقتصادية، بغرض استدرار ريوع تجعل مراكز القوّة تدرك أن مصلحتها تكمن في التنسيق (المحاصصة) بدلاً من الاقتتال.
المشكلة الرئيسة في هذه المقولة، أنها قد تكون قابلة للتطبيق لفترة زمنية عندما تكون الريوع كافية لتوزيعها، ولكن ماذا يحصل عندما تتقلّص الريوع ولا يعود الاقتصاد قادراً على تعويضها؟ إننا الآن نواجه هذه المشكلة، تماماً كما واجهناها في السبعينيات وذهبنا إلى حرب أهلية دامت 15 عاماً، وكانت أطول نزاع أهلي في حينه.
جرى في التسعينيات من القرن الماضي تكريس نظام الحرب لا تفكيكه، وأعيد إنتاج البنية نفسها التي كانت سبباً من أسباب الحرب، وبات 1% من السكّان يستأثرون وحدهم بأكثر من 40% من الثروة و25% من الدخل، ولم يعد الاقتصاد قادراً على توفير إلّا وظيفة واحدة لكلّ 6 وافدين جدد إلى سوق العمل، والبقية يهاجرون أو ينضمّون إلى جيش العمّال الاحتياطي الذي يساهم بتخفيض الأجور. وارتفعت المديونية العامّة والخاصّة (الحكومة ومصرف لبنان والشركات والأسر) من 107% من مجمل الناتج المحلّي إلى أكثر من 389%. وهيمن القطاع المالي كلّياً وبلغ حجمه نحو 450% من الاقتصاد، وهذه النسبة هي من أعلى النسب في العالم.
يتبع