في عام 2050، أي بعد جيل واحد فقط، سيكون أكثر من 93% من المقيمين في لبنان مكدّسين في تجمّعات مدينية ضيّقة ومُكتظة، ولا سيّما في وسط لبنان (بيروت الكبرى) وعلى شريطه الساحلي بين طرابلس وصيدا، في حين ستتضاءل نسبة سكّان الريف إلى أقل من 7%. وبالاستناد إلى التجربة اللبنانية في نمو المدن العشوائي والتركّز المُفرط للسكّان والنشاط الاقتصادي، فإن استمرار هذا الاتجاه يرسم صورة قاتمة للمستقبل أكثر بكثير ممّا هي اليوم.بين عامي 1950 و2050، سيكون عدد سكّان لبنان قد تضاعف أكثر من ثلاث مرّات. إلّا أن عدد سكّان التجمّعات الحضرية (التي يضمّ كلّ منها 5 آلاف نسمة وما فوق) تضاعف أكثر من 7 مرّات، في مقابل تقلّص عدد سكّان الأرياف إلى ثلث ما كان عليه في عام 1960.
هذا النمو الحضري يتجاوز بكثير معدّلات نمو السكّان، وهو أسرع بكثير من نمو سكّان المدن في العالم، ويرتّب مخاطر جسيمة على كلّ المستويات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ويعبّر بوضوح عن مأزق النموذج اللبناني وأثاره المُدمّرة على المجتمع. فازدياد عدد سكّان المدن وحصّتهم من مجمل سكّان لبنان، نتج من هجرة الريف وترك العمل في الزراعة الذي كان يوفر قبل خمسة عقود سبل المعيشة لنحو 40% من السكّان. وتشير الدراسات إلى أن النمو الحضري المُحقّق حتى الآن اقترن بزيادة معدّلات الفقر وانتشار العشوائيات السكنية والمزيد من الضغوط على البنية التحتية والخدمات الأساسية وفرص العمل.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وعلى الرغم من أن المدن تُعتبر من المحرّكات الأساسية للنمو الاقتصادي، عندما تنتقل الوظائف من المزارع إلى المصانع، إلّا أن مدن لبنان لا تلعب هذا الدور، بل تحوّلت إلى مناطق تكدّس واختناق وليس إلى محرّكات للنمو، وتعاني من الزحف العمراني العشوائي، ما يؤدّي إلى ازدياد الفقر، وتدني مستويات تقديم الخدمات، وتنامي المضاربات في أسواق الأراضي والإسكان، وضعف إدارة المدن، وارتفاع مستويات التعرّض لآثار تغيّر المناخ والكوارث الطبيعية، نظراً لتركزّ عملية التمدين على الشريط الساحلي الضيّق في وسط البلاد تحديداً.
تضاعفت نسبة سكّان المناطق الحضرية في لبنان أكثر من مرّتين في خلال أقل من 7 عقود، إذ ارتفعت من 32% إلى 89% بين عامي 1950 و2018، في مقابل تراجع سكّان الأرياف من 68% إلى 11.41% خلال الفترة نفسها. ومن المتوقّع أن تصل نسبة السكّان في المناطق الحضرية إلى 93% في عام 2050 في مقابل 6.65% في الأرياف.
هذه النتائج يستعرضها موقع «Our World in Data»، ويستند فيها إلى إحصاءات ودراسات الأمم المتحدة والبنك الدولي، وهي تدلّ على أن تطوّر الحياة الحضريّة في لبنان ليست بمنأى عن التحوّلات الحاصلة في العالم كلّه، إذ تبلغ نسبة سكّان المناطق الحضريّة في العالم اليوم نحو 55.29% بعد أن ارتفعت من 29.6% في عام 1950، ومن المتوقّع أن يستمرّ هذا الاتجاه التصاعدي وأن ترتفع النسبة إلى 68.36% في عام 2050.
وعلى الرغم من أن لبنان يتبع الاتجاه العالمي نفسه لتوسّع المناطق الحضريّة، إلّا أنه يتميّز لناحية تراجع حصّة سكّان الأرياف وارتفاع حصّة سكّان المدن على صعيدي العدد والنسبة المئوية معاً. كيف؟ عملياً، لم يتراجع عدد سكّان الأرياف في العالم إلّا أن نموهم كان هامشياً بالمقارنة مع نمو سكّان المناطق الحضرية المتسارع. أمّا في لبنان فالنتائج مختلفة. فقد شهدت المناطق الريفية نزيفاً في عدد سكّانها منذ ستينيات القرن الماضي، إذ تراجع نحو الربع من 1.04 مليون نسمة إلى 726 ألف نسمة بين عامي 1960 و2016. وأغلقت الفجوة (أي تساوى عدد سكّان الحضر والريف) في عام 1964، في حين لم تغلق هذه الفجوة على مستوى العالم إلّا في عام 2007. إلى ذلك، ارتفع عدد سكّان المناطق الحضرية نحو 7 أضعاف خلال الفترة نفسها، من 764 ألف إلى 5.28 مليون نسمة (45% منهم أي 2.39 مليون يعيشون في بيروت). لكن من المتوقّع أن يتراجع عدد سكّان المناطق الحضرية إلى 5.05 مليون في عام 2050، وعدد سكّان المناطق الريفية إلى 360 ألف نسمة، وذلك كون التقديرات للسنوات 2011 و2018 تتضمّن اللاجئين من سوريا، الذين يقدّر عددهم بأكثر من مليون لاجئ.
تبلغ نسبة السكّان في التجمّعات الحضرية الكبيرة في لبنان، أي التي تزيد عن مليون نسمة وتقيس الكثافة السكّانية، نحو 37.67% في عام 2016. علماً أن هذه النسبة ارتفعت من 31.08% في عام 1960 إلى 58.24% مع بداية الحرب اللبنانية في عام 1975، قبل أن تتراجع إلى 47.82% مع نهاية الحرب في عام 1990، وصولاً إلى 37.67% في عام 2016. أمّا نسبة سكّان أكبر مدينة لبنانية (بيروت) إلى عدد سكّان المناطق الحضرية فقد تراجع من 73.39% إلى 42.85% بين عامي 1960 و2016. ووفقاً للتقرير، تترجم هذه الكثافة السكّانية والنمو المتسارع بعدد سكّان المناطق الحضرية بتدني مستوى معيشة سكّانها. وتشير أحدث الأرقام المتوافرة والتي تعود إلى عام 2005، إلى أن 53.1% (أو 1.83 مليون نسمة) من سكّان المناطق الحضرية يعيشون في الأحياء الفقيرة، وهم ينتمون إلى الأسر المعيشية الفقيرة التي تعيش تحت خطّ الفقر وتفتقر إلى الوصول إلى المياه، و/ أو مرافق الصرف الصحي، و/ أو الإسكان، علماً أن هذه النسبة تصل إلى 29% في المناطق الحضرية للبلدان المتوسطة الدخل في الشريحة العليا التي ينتمي إليها لبنان، وإلى 27% في البلدان العربية.