«بالنسبة إليّ، إن المجتمع الاشتراكي ليس شيئاً غير متغيّر. فمثل كل التشكيلات الاجتماعية، يجب تصوّره على أنه في حالة دفق وتغيير دائمين»فريدريك إنجلز

في 24 أيلول/ سبتمبر الماضي، وخلال زيارته لنيويورك، اجتمع الرئيس الكوبي ميغل دياز-كانيل، يرافقه وفد من الحكومة الكوبية، مع مديرين تنفيذيين لعدد من شركات تكنولوجية وغير تكنولوجية أميركية، منها مايكروسوفت وماكينزي وتويتر ومجموعة فيرجين وبلومبرغ، في مركز شركة غوغل. وجاء الاجتماع بناءً على دعوة من نائب رئيس شركة ألفابيت، وهي الشركة الأمّ لغوغل.
وفق الغرانما، الجريدة الناطقة باسم الحزب الشيوعي الكوبي، تمحور هذا الاجتماع حول إمكانات السوق الكوبية، بالإضافة إلى آفاق التنمية الاقتصادية الكوبية. وشدّد دياز-كانيل على دور تطوير التقنيات العالية في تقدّم الدول النامية. ولمّح إلى التحدّيات التي تنطوي عليها هذه التطوّرات التكنولوجية واستخدامها في عالم يتزايد فيه عدم المساواة، مؤكّداً أن مجتمع المعلوماتية من أولويات الحكومة الكوبية. وأشار أخيراً إلى أن الإمكانات القيّمة للموارد البشرية التي تتمتع بها كوبا، هي التي حفزت هذا اللقاء أيضاً.
آريس - كوبا

في هذا الإطار، ربّما، يعوّل الكوبيون على نجاحات الاقتصاد الكوبي في مجال التكنولوجيا البيولوجية، ويريدون تكرارها في مجال الاقتصاد الرقمي. طبعاً، الأمور ليست بالسهولة التي يعتقدها البعض، خصوصاً أن مجال التكنولوجيا الرقمية يتمتع بخاصية «الرابح يأخذ كلّ شيء»، أي أن شركة أو بضع شركات هي التي تسيطر على السوق بالكامل، ما يمنع التنافس (غوغل أفضل مثال في إنهائها لياهوو وغيرها!). كذلك إن القطاع الرقمي يتمتّع بارتفاع معدّل المبيعات إلى العمالة، ما يعني أن درجة خلق الوظائف (أو الحاجة إلى العمالة) متدنية مقارنةً بقطاعات أخرى. هذان الأمران يشكّلان عقبة أساسية أمام دخول كوبا، أو غيرها، معترك هذه التكنولوجيا من باب الإنتاج أو المشاركة في الإنتاج، بينما من السهل أن تشارك، كما أكثرية البلدان، في الجانب الاستهلاكي منها. الجدير بالذكر هنا أيضاً، أن التكنولوجيا الرقمية نفسها هي أيضاً مُحرّك من مُحرّكات عدم المساواة داخل الاقتصادات الرأسمالية وعلى المستوى العالمي، التي تحدّث عنها الرئيس الكوبي، وهي ليست حلّاً لها.
هل الأمر يائس إلى هذا الحدّ؟ إنه كذلك على الأرجح. لقد عاش الكوبيون فترات سيّئة خلال ما عُرف بالفترة الخاصّة التي امتدت لسنوات عدّة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في التسعينيات، كما عاشوا فترات جيّدة في فترة الانفتاح، ولا سيّما أخيراً بعد إطلاق الرئيس السابق راوول كاسترو الدفعة الأخيرة من الإصلاحات الاقتصادية. وفي هذه الفترات برهنوا على قدرة كبيرة على الابتكار كما على التكيّف. ومن هنا، فإن هذه المقدرة بالإضافة إلى الاستقرار السياسي الذي تشهده الجزيرة، بما فيها الانتقال إلى جيل ما بعد الثورة في قيادة البلاد الذي حصل بنحو سلس وفعّال، ومع كون الحزب الحاكم قادراً على التخطيط وحشد الموارد في اتجاه هذه القطاعات التكنولوجية، كما وجود الكمّ الهائل من العمالة الماهرة وارتفاع مستوى التعلّم لدى السكّان بشكل عامّ، كلّها عوامل يمكن أن تشكّل أرضية للرهان على أن كوبا قد تصبح فعلاً رائدة في أميركا اللاتينية في مجال التكنولوجيات الرقمية.
بغضّ النظر عمّا يمكن أن يحدث في المستقبل، إلّا أن لقاء رئيس الدولة الشيوعية الوحيدة في أميركا اللاتينية، التي استمرّت اشتراكية على الرغم من كلّ الصعوبات، مع تلك الشركات، وبالتحديد في مقرّ غوغل، لهو نوع من المشهدية (spectacle) التي نراها الآن أكثر وأكثر في هذا العالم المعولم، حدث في الوقت نفسه الذي تراجعت فيه أسهم شركات التكنولوجيا وانخفض مؤشّر ناسداك بسبب التوتر بين الولايات المتّحدة والصين الدولة الشيوعية الأخرى، وهو سيطرح تساؤلات عن العلاقة المُحتملة بين البلد الشيوعي والمؤسّسات الرأسمالية الكبرى، التي بالنسبة إلى بعض «معادي الرأسمالية» تشكّل «محور الشرّ»، وعلى رأسهم الخمسة الكبار (آبل، مايكروسوفت، ألفابيت، أمازون، فايسبوك) وخصوصاً العلاقة مع غوغل، هذا العملاق الاقتصادي والمعلوماتي الذي يطبع الرأسمالية الحديثة بآثاره الواضحة.
بعض الملاحظات سريعاً حول: لماذا يبحث الكوبيون عن علاقة مع بعض «محور الشرّ» هذا؟ والسؤال الآخر الملموس الذي يطرح نفسه: الشركات تتعاطى مع الشيوعيين بدافع الربح، ولكن ما هو دافع الشيوعيين؟
الجواب باختصار: الاشتراكية من دون تكنولوجيا متقدّمة هي اشتراكية غير قابلة للاستمرار. كارل ماركس كان «حتميّاً تكنولوجيّاً» بالدرجة الأولى. فمقولته «طاحونة اليد تعطيك المجتمع مع الإقطاعي، وطاحونة البخار تعطيك المجتمع مع الرأسمالي» تنطبق أيضاً على المجتمع الاشتراكي، إذ إن التقدّم التكنولوجي هو المُحدّد لشكل علاقات الإنتاج، وخصوصاً في البلدان الاشتراكية التي بُنيت في اقتصاديات لم تستنفد شكلها الرأسمالي بعد، كما حدث في روسيا والصين وكوبا. وبالتالي لم يكن بالإمكان لهذه المجتمعات أن تنفلت من تبعات هذه المقولة. ولهذا، كان تراكم رأس المال والتقدّم التكنولوجي على المستوى نفسه، إن لم يكن على مستوى أهمّ، من هدف المساواة في الاتحاد السوفياتي. ووصل هذا الأمر إلى الوعي الفردي المتوسّط في الاتحاد السوفياتي الذي كان مُهتماً جدّاً بالعلوم الأساسية، مثل الرياضيات والفيزياء، وحتى بالخيال العلمي، وحتّى الأشكال الهندسية والمعمارية السوفياتية كانت طليعية تكنولوجياً، ومثال على ذلك الكثير من الأبنية، منها البنك المركزي في جورجيا الذي بُني بشكل هندسي مستقبلي، وفي هذا الإطار حتّى مواقف الحافلات العامّة كانت طليعية. أي متتبع لتاريخ الاتحاد السوفياتي يستطيع أن يرى هذا الأمر بوضوح.
ولهذا، فإن الأحزاب الشيوعية الحاكمة كانت دائماً ترى في التقدّم الاقتصادي والتكنولوجي أساساً لاستمرار الاقتصاد الاشتراكي. وكانت الإصلاحات الاقتصادية كإدخال الأسواق والحوافز المادية تُتّبَع بهدف تحفيز هذا التقدّم وليس لأسباب أخرى، وإنها «ضرورة» حتّمتها الظروف التي حصل فيها الانتقال إلى الاشتراكية.
بشكل أعمق، كان الهاجس دائماً تطوير القوى المُنتجة لأن علاقات الإنتاج الاشتراكية لا يمكن أن تتوافق مع قوى إنتاج متأخّرة عن مثيلاتها في الدول الرأسمالية على الأقل. وهذا المنهج كان أساس سياسة لينين في النيب في 1921 وما اكتشفه الصينيون والفيتناميون في 1978 و1986 على التوالي. لكن الجدير بالذكر أن هذه الإصلاحات أيضاً حصلت في أوروبا الشرقية في الستينيات، ووصلت إلى حدّها الأقصى في تشيكوسلوفاكيا في ربيع براغ في 1968 الذي قاده السكرتير الأوّل للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي ألكسندر دوبتشيك، مُعلناً «الاشتراكية ذات الوجه الإنساني». ولكن كما في زمن النيب وفي إصلاحات الثمانينيات في الصين وفيتنام والاتحاد السوفياتي، وبالتأكيد اليوم في بعض ردود الفعل على الإصلاحات في كوبا، كان ولا يزال هناك معارضة من «اليسار» وصل في بعض ممثّليه إلى تمجيد الثورة الثقافية في الصين.
في هذا الإطار، ومثالاً على ذلك، كتب المفكّر الماركسي الأميركي بول سويزي في مقال بعنوان «تشيكوسلوفاكيا، الرأسمالية والاشتراكية» نشر في تشرين الأوّل/ أكتوبر 1968، أن الدول الاشتراكية في الستينيات، التي بدأت بشكل أساسي في الإصلاحات، خصوصاً في يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، كانت أمام مفترق طرق وأمام أحد خيارين: «الأوّل، إحداث ثورة ثقافية كما اتبعها الصينيون، أي حملة شاملة لإيقاظ الجماهير ورفع مستوى الوعي السياسي وإحياء المثل الاشتراكية، وإمّا الاستمرار بشكل متزايد في الاعتماد على الانضباط المُنبثق من الأسواق وحافز الربح». ويضيف سويزي أن الأحزاب الحاكمة في الاتحاد السوفياتي وغيرها لم تكن مُستعدّة لأن تذهب نحو الخيار الأوّل، وبالتالي اتخذت المسار الثاني للحفاظ على «سلطتها ومكاسبها». طبعاً، بغضّ النظر عن السياق الذي أتت فيه هذه المقالة، إلّا أن التاريخ في الصين، على الأقلّ، قد حكم بالفشل على أي ثورة ثقافية إرادوية، وكان الخيار الثاني بالإصلاحات لتطوير القوى المُنتجة الخيار الصائب الذي نقل الصين من فوضى الثورة الثقافية وإرهاصاتها إلى المكانة التي تتمتع بها اليوم.
الزمن تغيّر بالتأكيد في كوبا. وبول سويزي، في سياق نقده للإصلاحات، يُورد خطاباً للزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو عقب تدخّل دول حلف وارسو في تشيكوسلوفاكيا لإنهاء ربيع براغ، قال فيه: «هل الاتحاد السوفياتي أيضاً سيكبح بعض التغييرات في الاقتصاد، التي تضع تأكيداً أكبر لدور علاقات السوق... وكبح الذين يدافعون عن جاذبية الأسواق والأسعار المبنية عليها؟ هل هذا يعني أن الاتحاد السوفياتي يعي أهمّية التراجع عن هذا المنحى؟ فأكثر من مقالة في الصحافة الإمبريالية أبدت سعادتها بهذا المنحى الموجود أيضاً في الاتحاد السوفياتي». اليوم، من الواضح، بعد انتهاء الحرب الباردة وتأثيراتها التي جاء خطاب كاسترو في سياقها، وبعدما انتقلت كوبا من المرحلة التوزيعية التي اعتمدت فيها بشكل أساسي على موقعها في المنظومة الاشتراكية إلى مرحلة الاستثمار الخارجي من أجل الحفاظ على الاستقرار، تُعدّ الآن للانتقال إلى مرحلة استكشاف التكنولوجيات الجديدة. هذا ما أراد الشيوعيون الكوبيون استشرافه في اجتماعهم في مقرّ غوغل في نيويورك لا أكثر ولا أقلّ.