يعبّر مقال الأستاذ مارك ضو عن توجّه فكري ذي وزن بين الناشطين السياسيين المستقلّين، الذين صنّفوا أنفسهم مرشّحين عن المجتمع المدني أو «المدنيين» خلال الانتخابات النيابية الأخيرة. هذا التوجّه يعتبر أن المشكلة في لبنان لا تكمن في بنية الاقتصاد نفسه، أو التوجّه الاقتصادي العامّ المُتبّع منذ عقود، بل في كيفية تطبيق هذا التوجّه والتشوّهات التي رافقت التنفيذ: الخصخصة التي حصلت لم تكن بالمستوى المطلوب (مثلاً)، أو لم تكتمل مساعي ترشيق القطاع العامّ وتقليص حجمه… إلخ، وهذا تماماً ما نراه بشكل مُتكرّر في تقارير صندوق النقد الدولي عن لبنان، الذي يقول إن على الحكومة أن تبذل مزيداً من الجهود في هذه المجالات. ولكن الإشكالية في مقال مارك ضو تتخطّى هذه المسألة، التي ناقشتُها سابقاً في مقال عن خطاب «المجتمع المدني» عشية الانتخابات النيابية («المجتمع المدني اللبناني: بالاستشاريين جئناكم»، الأخبار ـــ ملحق رأس المال، 26 آذار/ مارس 2018)، إلى الطريقة التي استخدمت بها الأرقام وتطويعها إلى أقسى الحدود من أجل خدمة توجّه أيديولوجي معيّن، لا تنفكّ التجربة تبيّن أنه يدفع إلى السياسات نفسها التي فشلت.ففي مقاله، يخلط بين أحزاب السلطة وبين الدولة بمؤسّساتها وقطاعاتها. يطرح ضو تقليص حجم القطاع العامّ عبر الخصخصة والشراكة مع القطاع الخاصّ، من أجل تحرير اللبنانيين واقتصادهم من سطوة أحزاب السلطة. كأنّه يوحي أن هذه المساعي ستحقّق ما لم تحقّقه الانتخابات النيابية الأخيرة: القطاع الخاصّ هو الحلّ. من أجل دعم حجّته، استخدم ضو الأرقام ليثبت سطوة الأحزاب (اقرأ الدولة) على سوق العمل. واللافت، أن الأرقام المُستخدمة لقياس حصّة القطاع العامّ من إجمالي الاستخدام هي غير دقيقة. فحجّة الكاتب تقوم على اعتبار أن سوق العمل في لبنان مكوّنة حصراً من القوى العاملة اللبنانية، وأن المقيمين في لبنان من مجمل القوى العاملة اللبنانية يبلغ عددهم 900 ألف شخص، وليس مليوناً و118 ألفاً، وهو التقدير الرسمي الوحيد منذ عام 2007. وعلى هذا الأساس، يستنتج الكاتب أن الدولة توظّف 30% من الـ900 ألف شخص، ويخلص إلى أنها «نسبة قريبة جدّاً إلى الدولة الاشتراكية الموجّهة مركزياً! بينما في دول الاقتصاد الحرّ، فالنسبة قد لا تتخطّى الـ10% من مجمل اليد العاملة».
بمعزل عن الغرض من تشبيه «الحالة اللبنانية» بـ«الدولة الاشتراكية الموجّهة مركزياً»، وهو تشبيه مستغرَب بتطرّفه، فإن هذه الخلاصة يشوبها إشكاليتان واضحتان: أوّلاً، أن نسبة التوظيف في القطاع العامّ في «دول الاقتصاد الحرّ»، وفق تعبير ضو، تتخطّى الـ10% في الكثير من الحالات، فهي تبلغ 20% في فرنسا (مثلاً)، ويبلغ المتوسّط في الدول الأعضاء في منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية (التي تضمّ 36 دولة مُلتزمة بالديموقراطية واقتصاد السوق) نحو 21%.
ثانياً، أن ضو يبني كل محاججته على استبعاد «العمالة الوافدة واللاجئين»، على الرغم من أن التقديرات تشير إلى أن عددهم يوازي عدد العمّال اللبنانيين في القطاع الخاصّ. فوفق منظّمة العمل الدولية يصل عدد اللاجئين الفلسطينيين في سوق العمل اللبنانية إلى 80 ألف شخص، ويقدّر عدد العمّال السوريين بـ400 ألف شخص (إذا افترضنا أنه يوازي عددهم قبل اللجوء)، كما أن عدد عاملات المنازل يصل إلى 220 ألف عاملة، ويمكننا أن نضيف عدد العمّال المصريين والآسيويين وغيرهم. إذاً، كحدّ أدنى يصل عدد العمّال والعاملات غير اللبنانيين في سوق العمل اللبنانية إلى 700 ألف شخص! فإذا أضفنا ذلك إلى رقم الـ900 ألف، الذي استند إليه ضو، نصل إلى أن مجمل القوى العاملة في لبنان يصل إلى مليون و600 ألف شخص. وإذا افترضنا أن الدولة توظّف 310 آلاف شخص، وفق مقال ضو، فإن نسبة العمالة في القطاع العامّ لا تتجاوز 19% من مجمل الاستخدام، أي إنها أدنى من معدّل منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية (اقرأ دول الاقتصاد الحرّ).
ثالثاً، استخدم ضو الأرقام المُتعلّقة بالقطاع العام فقط، ولم يقارب الأرقام المُتعلّقة بالقطاع الخاصّ. ففي كثير من الأحيان، تعمد مؤسّسات القطاع الخاصّ إلى عدم التصريح عن مستخدميها، من أجل تجنّب دفع الحدّ الأدنى للأجور والضمان الاجتماعي. تشير التقديرات إلى أن نسبة العمالة اللانظامية للأجراء اللبنانيين في القطاع الخاصّ (أي غير المُصرّح عنهم) تصل إلى 20%. وهذا يغيب كلّياً عن مقال ضو، إذ إن العديد من اللبنانيين يتّجه إلى القطاع العامّ كي يحصل على وظيفة آمنة مع ضمانات اجتماعية وأجور تقاعدية لا توفّرها الوظيفة المعروضة في القطاع الخاصّ. أو يتّجه إلى الوظيفة في القطاع العامّ لأنه ببساطة لا يجد وظيفة في القطاع الخاصّ، ولذلك يقبل باستخدامه ضمن صيغ التعاقد المختلفة في القطاع العامّ، وبالطبع في إطار المحاصصة والزبائنية، التي شكّلت للكثيرين نوعاً من شبكة الأمان الاجتماعي في غياب نظام حماية اجتماعية شامل (الذي لم يشكل بنداً من الاستراتيجية التي طرحها المقال).
إن الأجور في القطاع الخاصّ مُتدنية، كما إنتاجية القطاع نفسه وظروف العمل فيه. كذلك، إن أكثر من 90% من شركات القطاع الخاصّ توظّف أقلّ من 10 عمّال، ومعظمها يوظّف أقلّ من 5 عمّال. وأيضاً، إن أكثرية أصحاب المشاريع وروّاد الأعمال يتّجهون إلى الأنشطة المتدنية الإنتاجية في قطاع الخدمات البسيطة، أو يتحوّلون إلى الأنشطة الريعية التي يشجّعها النموذج الاقتصادي القائم. في ضوء ذلك، تبدو «ثنائية» القطاع الخاصّ «المُرتهن للسياسيين» والقطاع الخاصّ «النظيف»، التي يبني عليها ضو نقده وتوصياته، ثنائية وهمية. لأن التشخيص نفسه يبيّن أن «الثنائية» هي بين قطاع خاصّ يضمّ أصحاب الرساميل الكبيرة، بأشكالهم المتعدّدة، والموجودين في السلطة بشكل مباشر وغير مباشر، وبين قطاع خاصّ يتشكّل من مؤسّسات صغيرة وضعيفة ويضمّ عدداً كبيراً من العاملين لحسابهم، ويصارعون من أجل البقاء.
أخيراً، يعتبر ضو أن الحلّ هو في تحرير سوق العمل للسماح للقطاع الخاصّ بالعمل بحريّة. كأن اليوم وفي العقود الماضية لم يكن الأمر كذلك. فلبنان يعتبر شبه جنّة ضريبية، تتجوّل فيه الرساميل بحرّية مع معدّلات ضريبية منخفضة أو منعدمة، ونتيجة ذلك ذهبت الرساميل حيث تشتهي، أي إلى القطاعات ذات الربحية العالية والمضمونة، كالعقارات والنشاطات المالية. إزاء هذا الواقع، يعيد ضو طرح الحلول نفسها المطروحة، والتي أثبتت فشلها في بلدان رأسمالية متقدّمة، كفرنسا وبريطانيا وغيرها (نشر ملحق «رأس المال» العديد من المقالات المُترجمة عن هذا الموضوع). فالمشكلة في لبنان ليست حجم الدولة والقطاع العامّ وعدد الموظّفين بل إنتاجيته المتدنية، وهي مشكلة القطاع الخاصّ أيضاً. كما أن المشكلة ليست في سيطرة الدولة على سوق العمل، بل في أن الدولة ليست مُسيطرة كما يجب، ولا تتدخّل في الاقتصاد ووجهة الرساميل والاستثمارات.
لا نحتاج إلى دليل على فشل السياسيين وأحزاب السلطة، ولا إلى فسادهم، ولكن الوقائع ترفض أن تبشّرنا أنهم مشكلتنا الوحيدة، ويكفي إيجاد طريقة ما للتخلّص منهم حتى نتخلّص من مشكلتنا الخاصّة. في العالم كلّه، ولا سيّما في الدول التي يعتبرها ضو «دول الاقتصاد الحرّ»، تدور صراعات كبيرة ويتجدّد النقاش حول دور الدولة في الاقتصاد تحديداً، كسبيل لإنقاذ الرأسمالية مرّة أخرى من النتائج التي حقّقتها «الحلول» الرامية إلى التخلّص من الدولة.