لغاية أيلول من هذا العام، وبالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي، ارتفع الرقم القياسي لأسعار المستهلك الصادر عن إدارة الإحصاء المركزي من 101.08 لغاية 107.68. بمعنى آخر، فإن متوسّط أسعار السلّة الاستهلاكية للمواطن اللبناني ارتفع بنسبة 6.53% خلال سنة واحدة فقط، أو ما يعني هبوط القيمة الشرائية لدخله بالنسبة نفسها. لكن الأهمّ في الأرقام التي عرضتها إدارة الإحصاء المركزي، هو تركّز معظم زيادة الأسعار في أبواب الإنفاق الأساسية لا الكمالية، أي تلك التي لا تخضع لقدرة المواطن على الحدّ من استهلاكها.خلال عام، ارتفعت كلفة الماء والكهرباء والمحروقات بنسبة 13.88%، ليسجّل هذا الباب تحديداً نسبة الارتفاع الأعلى من بين أبواب الإنفاق التي يشملها المؤشّر. وفي المرتبة الثانية تحلّ كلفة الإنفاق على النقل بنسبة 8.81%، بينما تأتي كلفة الإنفاق على الألبسة في المرتبة الثالثة بنسبة 8.16%. أمّا أبواب الإنفاق الأخرى فكانت الاستجمام والتسلية والمواد الغذائية والتعليم والمطاعم.

هذا الارتفاع المطرد في الأسعار تنبّأت به منذ السنة الماضية جمعيّة حماية المستهلك، التي أشارت في تقرير لها إلى أن الهندسات المالية التي كان ينفّذها مصرف لبنان، ونتج عنها ضخّ كمّية كبيرة من السيولة «دفعة واحدة في الاقتصاد اللبناني الهشّ، ستؤدّي حتماً إلى تضخّم وارتفاع كبير في الأسعار خلال الأشهر التالية». أمّا من سيدفع الثمن وفق تقرير الجمعيّة فهم المستهلكون الذين ستتدهور قدرتهم الشرائية بشكل خطير، أي سيزدادون فقراً، خصوصاً أننا «أمام ارتفاع خطير في الأسعار لا علاقة له بأي تطوّر اقتصادي خارجي أو داخلي، بل سببه سياسات منظّمة تشترك فيها الفئة الحاكمة مع القطاع المالي والتجاري».
هذا التحليل يتناسق مع أرقام الكتلة النقدية التي ينشرها مصرف لبنان، والتي ارتفعت من 185.82 ترليون ليرة في بداية 2016، لغاية 212.61 ترليون ليرة حتّى شهر آب/ أغسطس الماضي. بمعنى آخر، ارتفعت هذه الكتلة بنسبة 14.4% خلال هذه الفترة، بالتوازي مع ارتفاع مؤشّر الرقم القياسي لأسعار المستهلك من 94.07 نقطة إلى 107.2 نقطة منذ بداية 216 وحتى آب/ أغسطس الماضي، أي بارتفاع نسبته 14%. هنا يصبح من الواضح علاقة ارتفاع الأسعار مع النموّ الذي شهدته الكتلة النقدية خلال الفترة الماضية جرّاء كل أشكال الهندسات والإجراءات الاستثنائية التي كان يجريها مصرف لبنان مع المصارف.
ولعلّ مراقبة قرارات مصرف لبنان الأخيرة للتعاطي مع هذا الواقع والتخفيف من آثار قراراته السابقة تؤكّد هذا التحليل. فالقرارات الأخيرة مثل الطلب إلى المصارف تخفيض نسبة القروض إلى الودائع بالليرة لغاية 25% هدفت بالدرجة الأولى إلى الحدّ من توافر هذه الكتلة النقدية الكبيرة بالليرة في السوق بعد الهندسات، خصوصاً أنّها تشكّل بالنسبة إلى مصرف لبنان مصدر خطر ليس لجهة الضغوط التضخّمية على الأسعار فقط، بل أيضاً لجهة الطلب على العملة الصعبة.
بمعزل عن علاقة هذا الارتفاع بمسألة الأزمة المالية وقرارات مصرف لبنان خلال السنوات الأخيرة، يبقى الأكيد أن الفئات المحدودة الدخل وحدها ستتحمّل عبء هذه التحوّلات في السوق. خصوصاً أن آخر تصحيح لأجور القطاع الخاصّ كان عام 2012، وخلال السنوات السبع الماضية ارتفع مؤشّر الأسعار بنسبة 23% إذا أخذنا في الاعتبار الزيادة الأخيرة، وهو ما يعني تراجع القدرة الشرائية لهذه الأجور بهذه النسبة. وبالتوازي مع هذه التحوّلات المقلقة، يبدو أن السياسات الرسمية ما زالت تسير باتجاه المعالجات التي تهدف إلى الحفاظ على استمرارية المنظومة الاقتصادية القائمة، ولو عبر إجراءات تأتي على حساب الفئات المحدودة الدخل في المجتمع.