«النقد أخطر من أن نجعله بين أيدي موظّفي البنوك المركزية»ميلتون فريدمان

شهدت السياسة النقدية تقلّبات حادّة في أهدافها المعلنة وأدواتها المستعملة. وعلى رغم أن هذه التقلّبات هي دليل تخبّط وارتجال وقصر نظر، إلّا أنها لا تحظى حتى الآن بأي مساءلة سياسية، ولا تثير أي نقاش جدّي خارج الدوائر الضيقة للاعبين الرئيسين (المصرفيون والدائنون وكبار المودعين)، الذين يسيطرون على «اللعبة النقدية» الجارية، ويحوّلون كلّ تهديد لمصالحهم الخاصّة وأرباحهم الفاحشة إلى تهديد وجودي مفزع، يقتل السياسة بمعناها النبيل، ويجعلها مثل «الزومبي»، جثة ميّتة متحركة، مجرّدة من الوعي والمشاعر والتعلّم.
تتصرّف النخب السياسية الفاعلة على أساس أن أكثر ما يهمّها الآن هو أن يبقى سعر الليرة ثابتاً، وتقدّم هذه الأولوية على كلّ الأولويات. وهي صرفت جهوداً كثيرة ومذهلة كي تقنعنا جميعنا أن مصالحنا المتناقضة وصراعاتنا كلّها تتفق مع هذه الأولوية المطلقة، وعلينا ان نبقيها خارج جدول الأعمال، والتعامل معها كغاية بذاتها تبرّر الوسيلة.
هذا التصرّف يكاد يكون شاملاً، فحتّى النخب المعارضة تنأى بنفسها، وكذلك النخب المثقّفة التي تتقاعس عن الدخول في الجدل الدائر في العالم عن دور البنوك المركزية. أمّا نحن، فما زلنا ننشغل بالإشاعات عن صحّة «حاكم البنك المركزي» (مثلا)، ونشعر، بشكل جماعي، أنه أكثر كفاءة من جميع السياسيين، ولسان حالنا يقول: أليس الأجدى أن نحافظ على استقلالية مصرف لبنان وحرّية حركته لننقذه من الدمار الشامل الذي أصاب إدارات الدولة ومؤسّساتها الأخرى بسبب تدخّلات السياسيين؟
نعدم كل الخيارات والبدائل سلفاً، فنحن لا نثق بالسياسيين أبداً، وهذا كافٍ كي نترك معركة إعادة توزيع كلفة تثبيت سعر الليرة جانباً، نؤجّلها دائماً، لكي ننصرف إلى معاركنا الأخرى. ولكن تصرّفنا الحيادي يخدم النخب الحاكمة، التي تنظر إلى سعر الليرة الثابت كما لو أنه الطلقة الأخيرة أو المسمار الأخير في نعش نظام ما بعد الطائف. وبالتالي نتركها تمعن في رهن مستقبلنا لشراء المزيد من وقتها الحاضر، وهو وقت سيء بكلّ المقاييس.
تخشى هذه النخب من النتائج المتوقّعة لانفلات «غول التضخّم» واضمحلال القوة الشرائية لمداخيل معظم المقيمين في لبنان، فسعر الصرف الثابت هو كلّ ما تبقى من «وعودها» في ربع القرن الأخير بعد الحرب، أمّا الباقي فكلّه تحوّل «نكبات»، إذ يكفي النظر إلى الحجم القياسي التاريخي الذي بلغته أرقام المديونية والعجز المالي والعجز التجاري، ويكفي النظر أيضاً إلى واقع الكهرباء والمياه والاتصالات والنقل والطرقات وإدارة النفايات والبيئة والصحّة والتعليم والتأمينات الاجتماعية والبطالة والهجرة والفساد والهدر والفوضى ومخالفات البناء واحتلال الأملاك العامة والامتيازات والاحتكارات والجريمة المنظّمة... كلّ شيء خراب إلّا سعر الليرة فهو ثابت، ونريده أن يبقى ثابتاً، ونحن عالقون في هذه الورطة.
لا ينشأ مثل هذا الواقع، ولا تحصل مثل هذه التصرّفات، ولا تستمرّ هذه اللعبة، إلّا عبر صناعة القلق. وهذا ما يصنعه الخطاب السياسي الذي لا ينكر «الأزمة»، بل يهوّل بها بوصفها «مؤامرة» و«ضغوطاً» و«إشاعات» و«عوامل خارجية»، أو يرمي مسؤوليتها على «متطفّل أجنبي» يمثّل تهديداً للمجتمع كلّه، مثل اللاجئين السوريين. يتقصّد هذا الخطاب أن لا يطمئننا، ويبشّرنا بالمزيد من الأكلاف والتضحيات.
منذ عامين تقريباً، أطلق مصرف لبنان أكبر هندسة مالية في تاريخه، أسفرت عن نقل نحو 5.6 مليار دولار من المال العامّ، في أقل من 6 أشهر، كأرباح فورية واستثنائية لعدد من المصارف وكبار مودعيها. واستمرّ بتنفيذ المزيد من الهندسات المربحة جدّاً، وبالتالي واصل نقل المزيد من الأرباح إلى المصارف والمودعين والدائنين، بذريعة الحاجة إلى «تعزيز مخزونه من الدولار، وإطالة آجال استحقاق الودائع، والحدّ من السيولة المتاحة، ومنع المضاربات على الليرة». وكلّ ذلك جرى تسويقه كبديل عن رفع سعر الفائدة، وكذلك كبديل عن أي إصلاح يحتاج إلى توافق سياسي واسع، ويمسّ المصالح الكامنة.
ومنذ عام 2009 حتى بداية هذا العام، وسّع مصرف لبنان تدخّلاته، وصار الاقتصاد يخضع كلّياً لاتجاهات السياسة النقدية وأدواتها. إلّا أن هذه التدخّلات ليست حيادية كموقفنا، ورتّبت خسائر كان يمكن تفاديها، كما رتبت ارباحا لغير مستحقيها.
في غضون السنوات العشر الماضية، كان مصرف لبنان ينتقل من سياسة ضخّ السيولة وتوسيعها إلى مصادرتها وحبسها. ومن دعم الفوائد على القروض والتسليفات إلى دعم الفوائد على الودائع. ومن تخفيض أسعار الفائدة إلى رفعها. ومن دعم ارتفاع الأسعار إلى ضبط ارتفاع التضخّم... لقد أسفرت هذه التقلّبات عن كبح النشاط الاقتصادي، اذ لم يسجّل نموّاً باكثر من 1.5% كمتوسّط سنوي منذ عام 2011، وزيادة المديونية العامّة والخاصّة إلى 400% من مجمل الدخل الوطني، واستنزاف نصف إيرادات الدولة الضريبية وغير الضريبية في خدمة هذه المديونية، وشفط نصف الدخل المُتاح للأسر التي جرى تشجيعها على الاقتراض لتملّك مساكنها وتمويل استهلاكها. وأسفر ذلك عن تضخيم الثروة العقارية والثروة المالية وتمكين عدد ضئيل من المقيمين في لبنان والمغتربين والمستثمرين الأجانب من الاستحواذ عليهما.
يبرّر حاكم مصرف لبنان هذه النتائج بطريقة مثيرة، يقول: «نحن نعترف أن الاقتصاد اللبناني مدولر، وهذا يعني أن الأولوية في سياستنا النقدية هي لاستقطاب الدولارات نحو لبنان، فإذا لم تكن هناك كمّيات وافرة من الدولارات في لبنان لن يكون هناك اقتصاد في لبنان». لذلك عمد مصرف لبنان في الأشهر الماضية من هذا العام إلى رفع سعر الفائدة الفعلي في السوق، وهو يضغط الآن من أجل رفع سعر الفائدة الاسمي على سندات الخزينة. كما عمد إلى «مصادرة» السيولة المُتاحة بالليرة والدولار للتخفيف من تحرّكاتها وضبط ضغوطها على سعر الصرف، وهو ما انعكس تراجعاً في التسليفات إلى القطاع الخاصّ وضموراً في الاستثمارات وجموداً في سوق العقارات وتراجعاً في قطاع البناء. ومثلت هذه النتائج نقيض الأهداف التي يعلنها مصرف لبنان!
لقد انقلبت الأهداف وبات علينا الآن أن نقتنع أنه "لا يجب أن نربط النموّ في الاقتصاد بمستوى الفوائد، أو أن نقول أنه يجب خفض مستوى الفوائد لكي ينمو الاقتصاد». ويشرح لنا سلامة أن «خفض سعر صرف الليرة سيسبّب زيادةً في التضخّم وفي معدّلات الفوائد والأجور، ويفضي إلى نتيجة واحدة هي فقدان الثقة والركود الاقتصادي»، ولذلك علينا أن «نحترم إرادة السوق، التي تطلب رفع سعر الفوائد».
تحقيق ما تطلبه السوق، هو جوهر اللعبة المتروكة للبنك المركزي. فالمهم، كما يقول سلامة، «أن يكون القطاع المصرفي في لبنان متيناً، وأن لا نسمح بأي إفلاس في هذا القطاع». ولكن ما الذي يفعله البنك المركزي في هذا السياق؟ انه يخلق النقد، يطبع مالاً كثيراً من لا شيء وبلا أي مقابل أو جهد أو عمل، ويمنحه إلى من يشاء. وعلينا أن نتذكّر دائماً أن مصرف لبنان خلق طوال السنوات الماضية آلاف مليارات الليرات لتمويل إنفاق الدولة وتسديد مدفوعات الفائدة واستقطاب المزيد من العملات الأجنبية... لقد بقيت مطبعة العملة شغّالة كلّ الوقت، وعلى رغم أنها لم تساهم بزيادة قرش واحد على الناتج المحلّي الإجمالي، باعتراف سلامة نفسه، إلّا أنها أدّت إلى زيادة المديونية العامّة والخاصّة أكثر من 36 مرّة، وزيادة الودائع أكثر من 24 مرّة، وزيادة رساميل المصارف 140 مرّة، وزيادة قيمة الثروة العقارية إلى أكثر من 1000 مليار دولار، أي أكثر من 20 مرّة قيمة الدخل المحلّي السنوي. حصل كلّ ذلك، ونحن مدعوون لمواصلة حصوله، وعلينا أن نصدّق إن «مصرف لبنان لا يستعمل الأموال العامّة إطلاقاً، ولا يحمّلها أية أعباء». تقدّم اللعبة كما لو أنه «سحر»، وأن هناك إمكانية ما لكي تُخلق كلّ هذه الأموال وتتراكم كلّ هذه الثروات من دون تدفيع الثمن لأحد.
الآن، تطّلع في حالك وحولك وحاول أن تقدّر كم هو الثمن الذي تدفعه بالفعل.
الوصفة المعروضة اليوم للتعامل مع الازمة تقول لنا مجددا: «إن تمويل عجز المالية العامّة بات أكثر كلفة، وإن الأموال الموجودة أو تلك التي تتحقّق من الاقتصاد اللبناني باتت تخرج من لبنان لتمويل فاتورة الاستيراد بكمّيات أكبر بكثير من الأموال التي تدخل إليه. لذلك علينا تصغير حجم القطاع العامّ، لأنه يمثّل عبئاً كبيراً على الاقتصاد». أليس هذا ما يحصل منذ تسعينيات القرن الماضي؟ لقد تجرّأ حاكم مصرف لبنان أخيراً إلى طرح زيادة ضريبة بقيمة 5 آلاف ليرة على كلّ صفيحة بنزين من أجل تمويل زيادة أسعار الفائدة على الدين وامتصاص المزيد من السيولة ونقل الكلفة من ميزانية البنك المركزي إلى ميزانية الحكومة.
يوجز سلافوي جيجيك في كتابه «سنة الأحلام الخطيرة» ما يحصل في كلّ مكان عندما توضع هذه «اللعبة» خارج السياسة، أو بعيداً من الصراع الاجتماعي. يقول: «لنستعيد البديهية التي يتبعها معظم السياسيين والخبراء، فهم يخبروننا مراراً وتكراراً أننا نعيش في أوقات حرجة من العجوزات والديون، وسيكون علينا جميعاً أن نتشارك العبء ونقبل بمستوى أقل للعيش. جميعاً، ولكن باستثناء الأغنياء (جدّاً). فكرة فرض ضرائب أكبر عليهم هو تابو مطلق. يخبروننا أننا لو فعلنا ذلك، فالأغنياء سيفقدون أي حافز للاستثمار، وسوف نعاني من النتائج. الطريقة الوحيدة لنخرج من تلك الأوقات العصبية هي أن يتحوّل الفقير إلى أكثر فقراً والغني إلى أكثر غنى. وإذا بدا أن الغني سيواجه خطر فقدان بعض من غناه، فعلى المجتمع أن يساعده». وفق جيجيك، إن الرؤية المهيمنة هي «في صراع مزعج مع حقيقة أن المسؤولية الكبرى تقع على البنوك، فمن أجل منع انهيارها، يكون على الدولة أن تتدخّل بكمّيات ضخمة من أموال دافعي الضرائب».
من أجل ماذا؟ مجدّداً أنظر في حالك وحولك، هل يستحقّ الأمر كلّ هذه التضحية؟ أليس هذا ما يفترض أن يحرّك السياسة ويقرّر جدول أعمالها؟