«الدنماركيون يحبّون مصرفهم المركزي»آناليس رايلز

في عيد الاستقلال، نشر مصرف لبنان إعلاناً جاء في نهايته أن «ليرتك ثابتة وما بتنهزّ». وبهذا أخذ المصرف المركزي سعر الصرف إلى أعلى مستوى رمزي له عبر ربطه بالاستقلال نفسه. فإلى الآن كان سعر الصرف الثابت مقياساً لنجاحات حكومات ما بعد الحرب ونجاح خطط إعادة الإعمار وبرهان على تفوّق منطق رأس المال الجديد، الذي أتى ليستبدل «فوضى الميليشيات»، ولكن رويداً رويداً أصبح رمزاً لثبات نظام الطائف كلّه وأصبح التخلّي عنه تخلّياً عن النظام برمّته.
لا بأس، فتاريخياً، قام بعض البلدان بربط تثبيت العملة أو استقرار الأسعار مع أمور وطنية جوهرية، بسبب تجارب مع التضخّم وانهيار العملة في مرحلة معيّنة من تاريخها. التجربة المثلى هي في ألمانيا. فبعد الحرب العالمية الأولى، في عهد جمهورية فايمار، تعرّضت ألمانيا لأسوأ حدث تضخّمي في التاريخ الحديث، حيث تسارعت الأسعار وتدهور سعر المارك إلى الدولار من 4.2 في 1914 إلى 4 تريليون في خريف 1923! وأدى ذلك التضخّم فوق المُفرط إلى تَغيّر كبير في العلاقات الاجتماعية وانهيار الطبقة المتوسطة، ما زاد من درجة الصراعات السياسية وتزعزع الاستقرار الاجتماعي، وأدّى، مع الكساد العظيم في 1929، إلى وصول النازيين إلى السلطة عام 1933. ولضمان عدم تكرار تلك الأزمة، بُنيَ البوندسبنك بعد الحرب على أسس مُحافظة، بحيث احتلّت أهداف استقرار الأسعار وقوّة المارك الأولوية. وفي آخر تجلّيات هذا الحذر، أو الرهاب من التضخّم، تأسّس المصرف المركزي الأوروبي على أسس البوندسبنك نفسها وكان مقرّه في فرانكفورت ليكون تحت الأعين الساهرة للألمان.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

المثال الآخر هي الدنمارك، فمنذ عام 1982 تمّ تثبيت الكرون تجاه المارك ثمّ تجاه اليورو، وتمّت المحافظة على هذا التثبيت حتى بعد اهتزازات أزمة 2008. لكن التثبيت يذهب في أصوله إلى أبعد من هذه الفترة. في خطابه في 4 تموز/ يوليو الماضي أعاد حاكم المصرف لارس روده التذكير ببدايات المصرف بعد الحروب النابوليونية، حين خسرت الدنمارك الحرب وزادت الديون وتمّ طبع العملة فزادت أسعار بعض المواد الغذائية بنسبة 300%، ولذلك تمّ تأسيس المصرف لوقف كلّ هذا. وفي 1982 كان القرار سياسياً حيث اتفق من كان يشكّل الحكومة آنذاك «بعدم استعمال خفض العملة كسياسة اقتصادية».
بالتالي، ومقارنة مع ألمانيا والدنمارك، يمكن أن نتفهّم محاولة المصرف المركزي اللبناني إقامة هذا الربط بين النظام وقيمة العملة وبين الاستقلال وقيمة العملة. لكن قبل الذهاب أكثر نحو مضمون هذا الربط وما يعنيه بالنسبة إلى لبنان، نحتاج إلى التأكيد على بعض الأمور:
أوّلاً، على رغم أن الحفاظ على قيمة العملة كانت أهمّ أهداف مصرف لبنان عند قيامه، إلّا أن المصرف لم يتبنَ التثبيت كوسيلة للحفاظ على قيمة العملة. وللمفارقة أن لبنان كان البلد الوحيد في العالم منذ عام 1950 الذي اتبع سعر صرف متحرّك أو عائم بشكل مستمر خلال مرحلة «بريتون وودز» بين عامي 1947 و1971، والتي نصّت على اعتماد أسعار الصرف الثابتة، (كندا أيضاً لم تلتزم ولكن فقط بين عامي 1950 و1962)! وبالتالي (ولبنان كان السبّاق في ذلك)، ليس هناك قانون ثابت حول التثبيت أو عدمه حتى في البلدان التي تضع قيمة العملة كهدف لسياساتها.
ثانياً، ثبات سعر الصرف ليس هو الهدف النهائي لأي اقتصاد، ولا هو مؤشّر على قوّته كما يعتقد كثيرون. حتى في الدنمارك، كان للتثبيت أثر سلبي على النموّ بين عامي 2008 و2012 بُعيد الأزمة المالية في أوروبا.
ثالثاً، ليس كلّ البلدان التي ثبتّت سعر الصرف حافظت عليه. كثير من البلدان انتهت إلى التخلّي عنه. وربّما الأهمّ، أنه ليس كلّ البلدان التي تخلّت عن التثبيت حصل ذلك إبّان أزمة أو انهيار، بل كان «خروجاً» نحو مرونة أكبر. ففي دراسة لـ 51 حالة كهذه، برهن الاقتصاديان باري إيكنجرين وآندرو روز على أن هذه البلدان استطاعت الخروج من التثبيت نحو أوضاع أخرى، حيث بقيت قيمة العملة على حالها أو حصلت زيادة في قيمتها.

لا للتقشّف... لا لتحميل الأجور كلفة «الإصلاح»
الأهمّ من كلّ هذا، لم يكن للتثبيت في الدنمارك كلفة اقتصادية إلّا عابرة، بل كانت هذه السياسة مُتماهية مع النموّ الاقتصادي وثبات حصّة الأجور ونموّ الصناعة التصديرية وتدنّي الفوائد بشكل عامّ وعدم نموّ الدين العامّ. أمّا في لبنان فمنذ عام 1993، تاريخ بدء التحوّل نحو الثبات في سعر الصرف الذي ابتدأ في 1997، وحتّى الآن تراجع الاقتصاد المُنتج، وتراجع التصدير، وتمّ تجميد الأجور لفترات طويلة، وزاد عدم المساواة، وأنشئ الاقتصاد الريعي المُعتمد على تصدير العمالة واستيراد الرأسمال، وارتفعت أسعار الأصول العقارية والسلع غير القابلة للتبادل، وكان الاستقرار النقدي دائماً على حدّ السكين، وارتفع الدين العامّ بسبب ارتفاع الفوائد الحقيقية، وما «المعركة» الأخيرة بين المصرف ووزارة المالية إلّا خير مثال على ذلك. إذاً الأمر ليس التثبيت في ذاته بل ما هي آثاره الاقتصادية. هكذا يجب أن يتمّ الحساب.
أمران مهمّان أيضاً للمقارنة. ترافق التثبيت في لبنان مع خفض الضرائب على الأرباح والثروة. أمّا في الدنمارك، فيرفض الدنماركيون خفض الضرائب المُرتفعة ويعتبرونها الثمن الذي يجب أن يدفعوه للشعور بالمساواة الاجتماعية كما بالسعادة! كما ترافق هذا التثبيت في لبنان أيضاً مع تقديس المصارف وضخّ الأرباح إليها من دون أي اعتبار لتأثير ذلك في النموّ أو على الدين العامّ أو على توزيع الدخل والثروة. لن أزيد هنا بل أريد أن استشهد من خطاب لارس روده حين قال: «بالنسبة إلى العديد من الناس، وأنا من ضمنهم، فإن الأزمة المالية جعلت الأمر واضحاً للغاية، إذ إننا أنشأنا نظاماً تجني فيه المصارف المكاسب في الأوقات الجيّدة، ولكن عندما تسوء الأمور يدفع المجتمع ودافعو الضرائب الفاتورة. بعبارة أخرى، في الأوقات الجيّدة لدينا الرأسمالية وفي الأوقات العصيبة لدينا الاشتراكية... لا ينبغي أن يدفع دافعو الضرائب ثمن روح المغامرة عند المصارف». هذا هو الفرق بين مصرف يحافظ على ثبات النقد ولكن يبقي على مسافة بينه وبين من المفترض أن يراقبهم، وبين مصرف مركزي يضع الاقتصاد في خدمة الرأسمال المالي.
اليوم أصبحنا على مفترق طرق، والمسألة المطروحة هي كيف نحافظ على الاستقرار النقدي؟ والسؤال الأهمّ من هي القوى الاجتماعية التي يجب أن تحمي الليرة؟ واقع اليوم أن الترويكا (الدولة والمصرف المركزي والمصارف) التي حمت الليرة منذ 1993 تتفكّك أواصر تحالفها، كما أن الظروف الموضوعية لم تعد تساعدها حتى إن لم تتفكّك. وهنا علينا الذهاب أبعد من هذه الترويكا وإشراك كلّ اللبنانيين في هذه الحماية. لكن ما يلوح في الأفق غير ذلك، فاليمين الاقتصادي بدأ يشيع الحاجة إلى التقشّف وتحميل الأجور في القطاعين العامّ والخاصّ الكلفة. وهذا يعني الاستمرار في سياسة تحميل المداخيل المُتأتية من العمل كلفة النموذج الاقتصادي الذي بُني بعد الحرب.

البديل والمساومة المطلوبة
أمام استمرار الأحزاب الحاكمة في تبنّيها طروحات اليمين الاقتصادي التي لن تجدي نفعاً لا اقتصادياً ولا اجتماعياً، بل ستؤدّي إلى مزيد من التدهور، على القوى المتقدّمة في المجتمع وعلى رأسها اليسار والقوى الجديدة المدنية وبعض الرأسماليين وممثّليهم الذين يريدون اقتصاداً عصرياً أن يحتضنوا مشروعاً تظهر ملامحه وتتابعه الزمني كالتالي:
في المرحلة الأولى يتمّ تغيير النظام الضريبي في شكل جذري، بديلاً عن مشاريع التقشّف ضدّ العمل، بحيث توضع الضرائب حيث الثروة والمداخيل العالية وحيث تراكمت الثروات في الـ25 سنة الماضية من أرباح وريع وفوائد. كما توضع الضريبة على الأرباح والمداخيل في الخارج. فالاقتصاد اللبناني أصبح ينقسم إلى قطاع «داخلي» وإلى قطاع «خارجي»، والأخير يتمتّع بمعدّلات مداخيل أعلى من المداخيل الداخلية. فهذا «الاقتصاد المزدوج» أصبح واقعاً. وكما لا يمكن تحليل الاقتصاد اللبناني من دون أخذ هذه البنية في الاعتبار، لا يمكن وضع السياسات أو إيجاد الحلول لمعضلاته من دونها.
في المرحلة الثانية يتمّ استعمال ضريبة القيمة المُضافة بتوسيع نطاق معدّلاتها ورفعها فيشكل تتمّ فيها زيادة مداخيل المالية العامّة، و«دوزنة» الاستهلاك وميزان المدفوعات مع حاجات التوازن في الاقتصاد ككلّ.
في المرحلة الثالثة، وبعد ضمان الاستقرار النقدي، تتمّ إقامة سياسة صناعية عبر تحويل الموارد من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المُنتج، وذلك كبداية لمرحلة الانتقال من النموذج القديم إلى اقتصاد أكثر عصرية وديناميكية لرفع مستوى المعيشة لدى اللبنانيين على المدى الطويل الأمد.
إن الهدف النهائي لأي إصلاح اقتصادي في لبنان لا يمكن فقط أن يكون استعادة الاستقرار إلى مالية الدولة أو إلى ضمان ثبات سعر الصرف. إذ إن عكس آثار سياسات ما بعد الحرب يجب أن يحصل عبر فكّ الارتباط بين المصالح الطائفية التوزيعية وبين المصالح المالية من جهة، وبين مالية الدولة و«سوق» سعر الصرف من جهة أخرى. كما يمرّ عبر تحويل المهارات الكامنة لدى القوى العاملة نحو اقتصاد ينهي سيطرة الأرستقراطية المالية؛ فاستمرار هذه السيطرة هو الذي يهدّد ليس فقط الاستقرار النقدي بل أيضاً الرفاه الاقتصادي للأجيال الشابّة والقادمة.