ستواجه الحكومة اللبنانيّة العتيدة، الّتي طال انتظارها تحديات لا تُحصى ولا تُعدّ ما إن تحوز الثقة، وليس أقلّها حالة الريبة التي تلفّ الاقتصاد الوطني. والأرجح أنّها ستعوّل على تعهّدات المساعدات الاستثماريّة الّتي أُطلِقت خلال مؤتمر "سيدر" في باريس. ويتوقّف ذلك طبعًا على استيفاء لبنان للشروط الّتي تفرضها البلدان المانحة، وهذا ليس بالأمر السهل. فإذا استوفيت هذه الشروط، تبقى الحظوظ في أن تؤثّر أموال «سيدر» إيجاباً بالاقتصاد اللبناني ضئيلة (بكلّ أسف). وقد قيل الكثير عن عدم استدامة النمط المالي في البلاد، وعن محاسن الصدف الّتي شاءت أن تُطلَق تعهّدات القروض في خضمّ موسم الانتخابات، وعن الحاجة إلى إطار للمساءلة والشفافية لضبط الفساد قبل استدانة مزيد من الأموال. ولكن، لم تلقَ مسألة المحتوى الموضوعي لمشاريع برنامج الاستثمارات الرأسماليّة الاهتمام نفسه. فهل ترقى هذه المشاريع إلى مستوى التنمية الاستراتيجيّة للبنى التحتيّة، في ضوء رؤية طويلة الأمد لإرساء الأسس لاستراتيجيّة نموّ شامل وفعّال ومستدام؟يُختصر الجواب المتوقّع عن هذا السؤال بـ"لا" مدوّية. صحيح أنّ تنمية البنية التحتيّة هي شرط مسبق للنموّ الاقتصادي وتحسين سبل العيش للشعب اللبناني. ولكن الوثائق الّتي رفعتها الحكومة اللبنانيّة دعماً للخطّة الرأسماليّة تشي بغياب أيّ استراتيجيّة تنمية متكاملة لترشيد اختيار المشاريع. يقترح سيدر قائمة حاجيات لمشاريع استثماريّة ضخمة، اختير كلّ منها فرديّاً على أساس «الجهوزيّة» المفترضة، إلّا أنّه لا يبيّن قدرتها على الانصهار معًا ضمن بنية تحتيّة متكاملة، وهو أمر ضروري لدعم مستوى المعيشة الأساسي، فضلاً عن النموّ الاقتصادي. لكنّ الأسوأ، أنّ إطار العمل المعتمد في الوثائق التحضيريّة لمؤتمر «سيدر» يبدو بعيداً كلّ البعد عن الواقع السياسي والاقتصادي في لبنان، غافلاً عن التجويف المنهجي للوكالات المسؤولة عن تقديم الخدمات في البلد، وعن الإمكانات الكامنة في النظم غير الرسميّة لتوريد الخدمات، ولا سيّما في قطاع النقل. وبعبارة أخرى، إذا افترضنا أن القروض باتت مؤكّدة (وهي مسألة جدليّة في أفضل الأحوال)، وأنّ استيفاء الشروط المسبقة للشفافيّة والمساءلة مضمون (وهو أمر مستحيل بصراحة)، يبقى الاقتراح «التقني» لـ«سيدر»، لجهة اختيار المشاريع، غير سويّ.

تلزيم المشاريع بدلاً من إنشاء بيئة متكاملة
تشكّل كلّ مدينة محيطاً بيئيّاً متكاملاً، تؤدي البنية التحتيّة فيها دور منظومة الدعم المترابطة والحيويّة للحياة العامّة والاقتصاديّة. ذلك أنّ البنى التحتيّة لإمدادات الصرف الصحّي، والكهرباء، والاتّصالات، كما المياه والطرقات، والنقل البحريّ والبرّي، جميعها تدعم حركة التنقّل، والتبادل التجاري، وسبل المعيشة. وبالتالي، من المستحيل قياس أثر الاستثمار في البنية التحتية على صلاحيّة المدن للسكن والتنمية الاقتصاديّة من دون تحليل شامل يغطّي قطاعات متعدّدة للرؤية المتكاملة الّتي يُفترض بهذه الاستثمارات تحقيقها.
أخفق مقترح «سيدر» في تقديم رؤية إنمائيّة ترشّد الاستثمار. ويبدو في المقابل أنّ الوثائق الداعمة تخلط بين تنمية البنية التحتيّة وتلزيم المشاريع، وهي تحصر البنية التحتيّة بقائمة من الصفقات الكبيرة، وتمزج بين مفهوم «التنمية الوطنيّة» وبناء الطرق السريعة، والسدود، ومحطّات تكرير مياه الصرف، ومعامل توليد الطاقة، وشبكات الألياف الضوئيّة، والمطارات والمرافئ. فلا يمكن تنميةَ البنية التحتيّة أن تقتصر ببساطة على قائمة من المشاريع الشديدة الاعتماد على رأس المال. فتوسيع الطرق السريعة لا يؤدّي بالضرورة إلى تحسين التنقّل، كذلك إنّ بناء السدود لا يؤول دائماً إلى زيادة توفير المياه، في حين أنّه ليس من المضمون أن تعزّز زيادة إنتاج الكهرباء الحصول على الطاقة أو تَوافرها. ويكمن الدليل الصارخ على ذلك في إدارة النفايات في لبنان: فتسعة من معامل معالجة النفايات الموزّعة في أنحاء البلاد مقفلة بشكل كامل أو جزئي، بينما تتراكم النفايات في المكبّات غير الشرعيّة، فتلوّث مياهنا الجوفيّة، أو تُحرَق فتفاقم مستوى تلوّث الهواء في البلد. أمّا الأمثولة هنا، فواضحة: ذلك أن مجرّد بناء معامل معالجة النفايات لم يكن كافياً لإدارتها على نحوٍ ملائم. وما من سبب يسوّغ الافتراض أنّ إمدادات المياه ستزداد بفعل زيادة عدد السدود، فما يلزم هو رؤية توليفيّة لكلّ من هذه القطاعات، رؤية تأخذ الأثر البيئي والاجتماعي بالاعتبار، إضافةً إلى الترجمة العتيدة لهذه الرؤية الشاملة إلى أساس لاختيار المشاريع.
وإذا افترضنا أنّ «الرؤية» تأتي لاحقاً، وأنّها ستُقدّم من خلال دراسة الرؤية الاقتصاديّة الّتي قدّمتها أخيراً شركة «ماكنزي أند كومباني» الاستشارية لقاء 1.4 مليون دولار إلى الحكومة اللبنانيّة، وأنّ مشاريع البنية التحتيّة ستدعم بلا شكّ هذه الرؤية، يبقى السؤال: هل من استراتيجيّة متّسقة على الصعيد الداخلي لاختيارها؟
صحيح أنّ وثيقة اختيار المشاريع تحمل توقيع أحد أبرز مكاتب التخطيط في المنطقة، إلّا أنّها تقترح أسلوباً غير مقنعٍ البتّة لتحديد العلامات، يصنّف قائمة من المشاريع في قطاعات الكهرباء والمياه والصرف الصحّي والنقل وفق «الاستحقاق» الفردي. وتعتمد هذه الآليّة مجموعتين من المعايير لكلّ من المشاريع:
- ترتيب المشروع (يقاس من 1-3) لتصنيف المشاريع وفق استكمال وثائق العطاءات، وبالتالي وفق جهوزيّتها للتنفيذ.
- أثر المشروع (يقاس من 1-3) لتصنيف المشاريع وفق «الأثر الاجتماعي الاقتصادي» وقدرتها على «الحدّ من مفاعيل أزمة النزوح السوري».
وتُحدّد أولويّة كلّ مشروع بشكل عام من خلال جمع القياسين أعلاه (2-6). ونظراً للأخطاء الفادحة الناشئة عن هذه الطريقة غير المترابطة، يبدو واضحًا أنّ معدّي الخطّة لم يولوا اعتباراً جديّاً لاختيار المشاريع. وتجدر ملاحظة ذلك بشكل خاص لأنّ المكاتب الّتي وقّعت على التقارير تتمتّع بالمؤهّلات اللازمة لتقديم عمل جيّد، وفق ما أشار أحد الزملاء المخضرمين بسخط. فلا يمكن أن نفترض جديّاً أنّ الأثر الاجتماعي الاقتصادي يمكن تصنيفه من 1 إلى 3، انطلاقاً من «حدس مهني»، أو أنّ الجهوزيّة تساوي المنافع الطويلة الأمد قيمةً، أو أنّه يمكن تجاهل الاعتبارات البيئيّة أو آثار إعادة التوزيع. لكنّ الأسوأ أنّه لا يتعيّن الافتراض أنّه يمكن ترتيب هذه المشاريع بحسب الأولويّات واختيارها من دون مراعاة مشاريع التنمية الموافق عليها ضمن القطاع نفسه.
لنضرب مثال النقل، وكيفيّة التقاطع بين التنفيذ المعتزم للأوتوستراد الدائري لمدينة بيروت مع القرض الّذي وافق عليه البنك الدولي أخيراً لمشروع النقل العام في بيروت الكبرى، والبالغة قيمته 295 مليون دولار. وينطلق المشروعان من رؤيتين متضاربتين للتنقل الحضري. ففي حين أنّ شبكة الطرقات السريعة الّتي يقترحها «سيدر» تُبقي على اعتماد بيروت على التنقّل بالسيّارات الخاصّة، يدعم مشروع النقل العام في بيروت الكبرى التوافق بين أبرز خبراء النقل في البلاد على توجيه التنقّل الحضري نحو نُظُم النقل العام، وهو خيار أكثر فاعليّة، وواقعيّة، واحتراماً للمسؤوليّة البيئيّة. كذلك، بيّنت التجارب الدوليّة أنّ السلطات الحضريّة لا يمكنها تحويل منظومة توزيع النقل النموذجيّة من النمط الخاص إلى المشترك، إلّا إذا ابتعد الاستثمار عن تسهيل التنقّل بالسيّارات الخاصّة. وينجم عن ذلك تضارب لبعضٍ من غايات مشاريع «سيدر» المقترحة مع الأهداف الّتي حدّدتها الوكالات العامّة المسؤولة عن هذه القطاعات.

الاعتبارات السياقيّة: إعادة النظر بالشراكات بين القطاعين العام والخاص
بالإضافة إلى عمليّة الاختيار السيّئة، يعتمد برنامج الاستثمارات الرأسماليّة إطار عمل لما يُسمّى الشراكات بين القطاعين العام والخاص. وهنا أيضاً، لا بدّ من أخذ اعتبارات مهمّة بالحسبان، مع التمييز بشكل خاص بين ما هو عام وما هو خاص.
يقتضي هذا البرنامج من لبنان التزام الخصخصة، وقد تناهى إلى علمنا أنّ البلدان المانحة قد حدّدت انخراط الشركاء من القطاع الخاص كشرط مسبق للإفراج عن الأموال. إلّا أنّ العلاقة الزبائنيّة العميقة والوطيدة الّتي تربط بين القطاعين العام والخاص في لبنان، واستحالة فصل المصالح السياسيّة عن المستثمرين من القطاع الخاص، مآلهما أنّ تنفيذ أيّ مشروع يتوقّف على قدرته على درّ الأرباح الخاصّة والسريعة، عوضاً عن قدرته على تعزيز التنمية الطويلة الأمد. إلى ذلك، يتطلّب عدد من نُظُم البنية التحتيّة الحيويّة، مثل تلك الخاصّة بالنقل العام – استثماراتٍ ودعماً من الحكومة حتّى تعمل بنحو سليم. ولا يمكن حصر قياس قيمتها الكميّة بفعاليّة فرادى الاستثمارات من حيث الكلفة، بل لا بدّ من دراستها في ضوء العوامل الخارجيّة الإيجابيّة الكبيرة الناشئة عنها، وهي تتضمّن المنافع البيئيّة والاجتماعيّة للمدن وسكّانها.
في المقابل، يبدو أنّ برنامج الاستثمارات الرأسماليّة يتجاهل حقيقة أنّ البنية التحتيّة اللبنانيّة تعتمد بكثافة على الشبكات غير الرسميّة لتوريد الخدمات، الّتي تتّصل بمصالح خاصّة وتوفّر سبل العيش لعدد لا يُحصى من الأشخاص. وقد بيّنت التجربة قيمة التعويل على هذه الشبكات، وتحسينها ودمجها في النظم الرسميّة لتوريد الخدمات متى أمكن. فما هو توقّع برنامج الاستثمارات الرأسماليّة بشأن أثره على هذه النظم؟ وكيف سيضمن الوظائف وسُبُل العيش للأشخاص الّذين سيفقدون عملهم بفعل الاستثمارات الجديدة، ولا سيّما أنّ الأشخاص الّذين يعملون في القطاعات الّتي توفّر هذه الخدمات يُعدّون من الفئات الاجتماعيّة الأكثر ضعفاً في لبنان؟
يرجّح لـ«سيدر» أن يفرض الأشكال نفسها من القيود على التوظيف في القطاع العام، وهي قد سبق أن شكّلت شروطاً لرزم مساعدات وقروض سابقة. ومع اشتداد عزيمة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أكثر من أيّ وقت مضى على فرض المسؤوليّة الماليّة، باتت قائمة الرواتب الضخمة في القطاع العام على كلّ شفة ولسان. وفي حين أنّه لا ضير من الافتراض أنّ تضخّم عدد الوظائف المتدنيّة المستوى في منظومة التعليم الرسمي والجيش يُعزى إلى الطريقة الّتي تستخدم فيها الطبقة السياسيّة في لبنان التوظيف في القطاع العام لإبقاء الشعب رهينةً، من خلال الوظائف المتدنية الأجر والمتواضعة، فقد جرى تجويف وكالات الخدمات الأساسيّة في البلد. فالتوظيف مُجمّد منذ عقود، أمّا الرواتب فمزرية وغير قادرة على اجتذاب الكفاءات اللازمة. وينطبق ذلك أساساً على المناصب الرفيعة في وكالات المياه والكهرباء والاتصالات، ما يحرمها إلى حدّ كبير التمتّع بمديرين وموظّفين أكفياء قادرين على إدارتها بفعّالية. ويكفي النظر إلى دراسات الحالات الّتي أعدّها البنك الدولي، لنفهم أنّ الوكالات الحكوميّة الناجحة والفعّالة تشكّل شرطاً مسبقاً لمشاركة جهات القطاع الخاص في قطاعات المياه أو الكهرباء أو الاتّصالات أو النقل.
يحتاج لبنان بلا شكّ للاستثمار في بنيته التحتيّة المتهاوية، ويمكن الافتراض منطقيّاً أنّ العبء الإضافي الناشئ عن استضافة أعداد كبيرة من النازحين يستدعي تدخّلاً أكبر ويتطلّب مزيداً من الدعم من المجتمع الدولي. غير أنّه لا بدّ من توجيه الاستثمارات الّتي نحتاجها نحو خفض الخسائر المنهجيّة وتشجيع الخيارات الّتي تتسم بالوعي وتضمن التجدد بيئيّاً. كذلك، يتعيّن توزيع الاستثمارات بحكمة على المشاريع الّتي يكون اختيارها على أساس رؤية اقتصاديّة وإيكولوجيّة متكاملة. لم يفت الأوان بعد لمراجعة الخطط. فإن أردنا أن نفرض على أولادنا عبء تسديد هذه القروض، فلنضمن على الأقلّ أنّ الأموال ستُستخدم لتحسين مستقبلهم.

*دكتورة في التخطيط العمراني في الجامعة الأميركية في بيروت

* بالتعاون مع المركز اللبناني للدراسات