مرّ وقت طويل على بدء عام جديد بالصورة نفسها التي سينطلق بها عام 2019؛ إذ تعيش الحكومة الأميركية في حالة من الفوضى. وسيبدأ رئيس الولايات المتّحدة النصف الثاني من فترته الرئاسية المُمتدّة على أربع سنوات، بفقدانه الغالبية في مجلس النواب في الكونغرس لمصلحة الديموقراطيين، بعد الهزيمة الكبرى التي مُنِي بها في انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. فهو ينطلق بسنته الجديدة مع رئيس هيئة أركان بالوكالة، ووكيل دفاع بالوكالة، ومدّعٍ عام بالوكالة، ومسؤول لوكالة حماية البيئة بالوكالة، ومن دون وجود سكرتير داخلي ولا سفير لدى الأمم المتّحدة. في حين أن كلٌّ من مدير حملته الانتخابية السابق، ونائب مدير الحملة، ومستشاره للأمن القومي، ومحاميه الشخصي اعترفوا بأنه مذنب بسلسلة جرائم جنائية.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

كما سيتمّ تفعيل التحقيقات التي يقودها المدّعي الخاص مولر حول العلاقة بين حملة ترامب الرئاسية والمخابرات الروسية. وفي الوقت نفسه، أغلق ربع الدوائر الحكومية بسبب معركة الميزانية بين ترامب والكونغرس. وفضلاً عن ذلك، باتت البيئة الجيوسياسية سامّة، بعد أن اختارت إدارة ترامب شنّ حرب تجارية مع الصين، وهي حرب مهدّدة بالاشتداد، خصوصاً مع انتهاء «الهدنة» الحالية في آذار/ مارس المقبل، والتي تمّ التوصّل إليها بعد اتفاق البلدين على تجميد فرض تعريفات تجارية جديدة.
في المقابل، وفي الوقت نفسه من العام الماضي، كان ترامب يتباهى بازدهار الاقتصاد الأميركي وتسجيله مستويات قياسية في سوق الأسهم. في ذلك الوقت، قلت إن «ما يحدث هو، على ما يبدو، مجرّد انتعاش دوري قصير الأجل تأثراً بانتعاش منتصف عام 2016، الذي تلا الركود العالمي منذ نهاية 2014. وإذا كانت دورة كيتشين (دورة الانتعاش قصيرة الأجل) قد بدأت في منتصف عام 2016، فيجب أن تبلغ ذروتها في 2018، قبل أن تهبط مجدّداً بعد ذلك». أمّا في نيسان/ أبريل 2018، فقد أشرت إلى أن الطفرة القصيرة لعام 2017، بعد الركود المصغّر في عامي 2015 و2016، انتهت. وأن النموّ العالمي بلغ ذروته. وهذا ما تمّ التثبّت منه. إذ ينتهى عام 2018 مع بدء تباطؤ نموّ الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي في كلّ مكان في العالم تقريباً.
في نهاية عام 2018، عانت أسواق الأسهم من أكبر هبوط لها منذ الانهيار المالي العالمي في عام 2008. ونتيجة لذلك، أصيب وزير الخزانة الأميركي الحالي منوشين بالذعر، ودعا المصارف الأميركية الستة الأكبر إلى عقد اجتماع عشية عيد الميلاد للتأكّد من ثباتها. وهو ما يجعل الأمور أسوأ.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

كما ذكرت سابقاً، ووفقاً لماركس، إن ما يدفع بأسعار سوق الأسهم هو الفرق بين أسعار الفائدة ومعدّل الربح الإجمالي. وبالتالي، ما حافظ على استمرارية ارتفاع أسعار سوق الأوراق المالية منذ عام 2009، هو المستوى المنخفض لأسعار الفائدة طويلة الأجل التي عمدت المصارف المركزية في جميع أنحاء العالم على تصديرها، فضلاً عن أسعار الفائدة قصيرة الأجل القريبة من الصفر، والتخفيض الكمّي المُعتمد (أي شراء الأصول المالية عبر القروض الائتمانية). هذا الواقع، جعل الفجوة بين عائدات الاستثمار في سوق الأوراق المالية وتكلفة الاقتراض عالية.
لكن في عام 2018، أدرك المستثمرون في رأس المال الوهمي (الأسهم والسندات) أن هذا الوضع آخذ في التغيّر. فأسعار الفائدة ترتفع باضطراد (يقودها بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتّحدة). وكانت هناك مؤشّرات على أن انتعاش معدّل العائد على رأس المال في الاقتصادات الرئيسية بلغ ذروته، وقد بدأ بالتراجع. لقد بلغ النموّ في الولايات المتّحدة ذروته في الربع الثاني من عام 2018 بمعدّل سنوي بنسبة 4%، ومن المتوقّع أن يسجّل النموّ في الربع الرابع من العام، نسبة أقرب إلى 2.5%. فيما يتوقّع مؤشر النشاط التجاري في ريتشموند، وهو أحدث مؤشّر للنموّ في الولايات المتّحدة، تسجيل انخفاض حادّ في النموّ في أوائل عام 2019، وربّما الدخول في ركود.
أمّا في أوروبا، فقد تلاشت آمال التوسّع الاقتصادي، بحيث تباطأت الاقتصادات الأوروبية الرائدة كفرنسا وألمانيا. وتراجعت الدول الأضعف مثل إيطاليا وقاربت اقتصاداتها الركود. وأيضاً، يتراجع نموّ الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي في المملكة المتّحدة بسرعة كبيرة، بعدما توقفت الشركات عن الاستثمار بسبب عدم وضوح معالم ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. حالياً، ينمو اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 1.6% فقط بالمقارنة مع ضعفي هذا المعدّل في الوقت نفسه من العام الماضي.
لا تتوقّف التوقّعات بتسجيل الكساد الأطول منذ عام 2008، عند حدود الاقتصادات الرأسمالية المتقدّمة الرئيسية في العالم فحسب، ففي آسيا أيضاً، سُجّل تباطؤ في النصف الثاني من عام 2018؛ لقد كان الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي لليابان ثابتاً في الربع الثالث من عام 2018. وأيضاً، تباطأ الاقتصاد الصيني الذي يعدّ الاقتصاد الأكبر في العالم. وكذلك، شهد الاقتصاد الكوري تباطؤاً.
في الواقع، كلّ التوقعات الرسمية (الصادرة عن صندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والبنك الدولي) تشير إلى تسجيل معدّلات نموّ أقل في عام 2019 مقارنة مع عام 2018.
حالياً، يعرّف الانكماش في الاقتصاد تقنياً بأنه تقلّصات ربع سنوية متتالية في نموّ الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي. وهناك إجماع على عدم حصول أمر مماثل في عام 2019. لكن هل الخبراء في الاقتصادات الرئيسية على خطأ؟ وهل سينخفض نموّ الاقتصادات الرئيسية وتدخل في ركود خلال العام المقبل؟
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

يجادل كثيرون بأن التوقّعات عموماً، بما فيها التوقّعات الاقتصادية، لا تستحقّ قيمة الورق الذي تكتب عليه. لكنني لا أوافقهم الرأي. وهنا أود التمييز بين التوقّعات في التحليل العلمي والتوقّعات أو التنبؤات في المطلق. ولكنني لن أدخل في هذا الجدال حالياً. وبدلاً من ذلك سأقدّم توقّعاتي لعام 2019.
ماذا بالنسبة لعام 2019؟ وهل ما قلته بداية يشكّل العوامل الرئيسية لعام 2018؟ لقد قلت أن «هناك عاملين يضعان علامات استفهام حول تحقيق نموّ أسرع في معظم الاقتصادات الرأسمالية في عام 2018، وهما يرفعان احتمالات حدوث العكس. العامل الأول هو الربحية والأرباح، والعامل الثاني هو الدين، لا سيّما ديون القطاع الخاصّ (الشركات والأسر) الذي استمرّ في الارتفاع وصولاً إلى تسجيل أرقام قياسية جديدة».
هذا الواقع لا يزال ساري المفعول بالنسبة لعام 2019. إذ ارتفع الدين العالمي خلال عام 2018، والأهمّ من ذلك، بدأت كلفة خدمة هذا الدين في الارتفاع أيضاً مع استمرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في سياسة رفع سعر الفائدة، وقد شهدنا الارتفاع الأخير مباشرة قبل نهاية العام.
عملياً، يحدّد سعر الاحتياطي الفيدرالي الحدّ الأدنى لمعدّلات الفائدة في الولايات المتّحدة، وكذلك السعر القياسي للمعدّلات الدولية، نظراً إلى الدور المُهيمن للدولار في الاحتياطيات الدولية وتدفّقات رأس المال. بحيث أنهت مصارف مركزية أخرى عمليّاتها لضخّ الأموال الرخيصة - التخفيف الكمّي - وتحوّلت الآن إلى التقييد الكمّي. وهكذا فإن «الظروف المالية» (تكلفة الدين، وحالة أسواق الأوراق المالية، وقيمة الدولار مقابل العملات الأخرى) قد تمّ تقييدها.
بعد أن أنهت جانيت يلين فترة ولايتها كرئيسة للاحتياطي الفيدرالي أعلنت أنه «لن تكون هناك أزمات مالية أخرى في حياتنا»، بسبب الإجراءات الجديدة المُطبّقة لضمان عدم انهيار المصارف مرّة أخرى. لكنها في الشهر الماضي، قامت بمراجعة جديدة وغيّرت رأيها، على ما يبدو، إذ قالت أن هناك «ثغرات هائلة في النظام المالي» التي ترأسته، وهي تخشى الآن من «إمكانية حصول أزمة مالية أخرى». ذلك لأن التنظيم المالي «غير مُكتمل»، وهي غير متأكّدة من قيام بنك الاحتياطي الفيدرالي والحكومة بأي شيء حيال الأمر «بالطريقة المناسبة المفترضة بهما». وفي ورقة أخيرة، لفتت الخبيرة في تاريخ الأزمات المالية كارمن راينهارت، إلى الارتفاع الحادّ في ديون الشركات قد بلغ مستويات قياسية في عام 2018. وخلصت راينهارت إلى أن «شبكات العدوى المالية مجهّزة إذا تحوّلت الأمور إلى الأسوأ».
إذاً، لقد تمّ تحديد المشهد لأزمة ائتمان جديدة في عام 2019 في حال توقّفت الأرباح عن النموّ وازدادت كلفة خدمة الديون المُتراكمة على الشركات. أمّا إذا استمرّ بنك الاحتياطي الفيدرالي في سياسته برفع أسعار الفائدة، تماماً كما حدث عام 1937، خلال فترة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، فإنه يهدّد بإحداث تباطؤ حادّ، ليس فقط في سعر رأس المال الوهمي ولكن أيضاً في الاقتصاد «الحقيقي» المزعوم. وهذه المخاوف دفعت ترامب إلى النظر في إقالة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي في السنة الجديدة.
لقد حذّر كلٌّ من بنك التسويات الدولية (BIS) ووكالة الأبحاث الدولية للمصارف المركزية، من أن ما يطلق عليه «الدورة المالية» يعني ضمناً حدوث أزمة ائتمان جديدة. «يمكن لازدهار الدورة المالية أن ينتهي بأزمات. وحتّى لو لم يحصل ذلك، فإنه يميل حتماً إلى إضعاف النموّ. بمجرّد أن تبلغ الدورات المالية ذروتها، فإن الاقتصاد الحقيقي يبدأ بالمعاناة عادة. هذه هي الصورة الأكثر وضوحاً للأزمات المالية، والتي تتبع ارتفاع القروض وأسعار الأصول، أي طفرات الدورة المالية. فهي تميل إلى الدخول في فترات ركود عميقة، حيث يؤدّي انخفاض أسعار الأصول وارتفاع أعباء الديون وإصلاح الميزانية إلى انخفاض النموّ». والأهمّ من ذلك أن «معدّل خدمة الدين يكون فعّالاً في هذا الجانب».
حالياً، كلّ مؤشّرات الائتمان الدالّة على الركود تومض، إن لم نقل أنها أشعلت الضوء الأحمر. والمؤشّر الأكثر تداولاً هو ما يسمّى بمنحنى العائد المقلوب، أي عندما ينخفض سعر الفائدة على سند حكومي طويل الأجل إلى أقلّ من سعر الاحتياطي الفيدرالي. وعندما يحدث ذلك، فهو يشير دائماً إلى أن الركود حاصلٌ لا محال في غضون سنة. لماذا؟ لأن المستثمرين يعتقدون أن الركود آتٍ، فيقومون بشراء «الأصول الآمنة» مثل السندات الحكومية، في حين أن بنك الاحتياطي الفيدرالي يعتقد أن الاقتصاد على ما يرام ويبقي معدّلات مرتفعة. ولكن في النهاية السوق هي من تقرّر.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وكما يقول أحد المحلّلين: «يجب التفكير بمنحنى العائد المقلوب كمؤشّر للحمى. عندما يصاب الجسم بالحمى، لا تكون هي سبب المرض. بل مجرّد مؤشّر على أن هناك خطباً ما في الجسم. فهو ربّما يعاني من الإنفلونزا، أو التهاب الزائدة، أو بعض الأمراض الأخرى. تشير الحمى إلى أن الجسم مريض من دون أن تحدّد ما هو المرض. وعادة، كلّما كانت الحرارة أعلى، كلما كانت الحالة أكثر خطورة. والأمر نفسه ينطبق مع منحنى العائد المقلوب. كلّما كان هذا المنحنى متعاكساً وكلّما طالت فترة تعاكسه، كلما ازداد اليقين بأن هناك خطباً اقتصادياً قد يظهر كركود في وقت ما في المستقبل». لقد انحنى عائد السندات الأميركية ولكن لم يتمّ عكسه بعد. ما يعني أن هذا المؤشّر لم يتحوّل حتى الآن إلى اللون الأحمر.
وهناك مؤشّر مهمّ آخر للركود المقبل يمكن ملاحظته، ليس في أسواق الائتمان، ولكن في الاقتصاد العالمي. إنه سعر النحاس والمعادن الصناعية الأخرى. تعتبر المعادن من المدخلات الأساسيّة في الإنتاج الصناعي في جميع أنحاء العالم. لذلك إذا انخفضت أسعارها، فذلك مؤشّر إلى أن الشركات تقلّل الاستثمار في الإنتاج وبالتالي تستخدم مكوّنات معدنية أقلّ. في عام 2018، انخفض سعر النحاس من 320 إلى 270 بعد شهر تموز/ يوليو. منذ ذلك الوقت استقرّت الأسعار فوق الـ200، ثمّ هبطت إلى مستويات الركود المصغّر في أوائل عام 2016. ما يعني، أنه على رغم بلوغ الاقتصاد العالمي ذروته في الصيف الماضي، إلّا أن فترة الركود لم تأتِ بعد.
ومن المؤشّرات الأخرى على تباطؤ الاقتصاد العالمي بعد الازدهار المصغّر الذي حقّقه في عام 2017، هو الانخفاض الحادّ في أسعار النفط. لقد انخفض سعر البرميل من 75 دولاراً في تشرين الأوّل/ أكتوبر إلى 45 دولاراً حالياً. وهو ما سيضرب أرباح شركات الطاقة والتوازنات التجارية لمنتجي النفط.
ويبقى العامل الأهمّ لتحليل صحّة الاقتصاد الرأسمالي هو ربحية القطاع الرأسمالي وحركة الأرباح على مستوى العالم. فهذا المؤشّر هو الذي يقرّر ما إذا كان الاستثمار والإنتاج سيستمرّان. لقد قدّمت سابقاً أدلة دامغة على الترابط الكبير بين الأرباح والاستثمار (وللمزيد من الاطلاع يمكن مراجعة كتاب: World in Crisis).
أنهى قطاع الشركات الأميركية عام 2018 بتحقيق مستويات قياسية من الأرباح/ والإيرادات، إذ ارتفعت بنسبة 20%، وهو المعدّل الأعلى منذ عام 2010 بعدما استعاد الاقتصاد الأميركي انتعاشه بعد فترة الركود العظيم. إلّا أن قفرة الأرباح التي سجّلت كانت لمرة واحدة فقط، ومدفوعة بالتخفيضات الضريبية الضخمة على أرباح الشركات والإعفاءات الضريبية على إعادة احتياطيات النقد الأجنبي من الخارج والتي تحتفظ بها الشركات الأميركية الكبرى. نتيجة لذلك، عزّزت الشركات الأميركية عائداتها كما استفادت من الانخفاض الحادّ في تكاليف المدخلات، وتحديداً الانخفاض في أسعار النفط خلال عام 2018.
على الصعيد العالمي، كانت الأرباح لا تزال تنمو في منتصف عام 2018، مع تباطئها في كلٍّ من ألمانيا والصين واليابان، في حين لم تشهد أي تسارع في الولايات المتّحدة. وطالما أن نموّ الأرباح في الولايات المتّحدة سُجّل لمرّة واحدة فقط، كما ذكرنا أعلاه، فمن المرجح أن ينخفض نموّ الأرباح العالمية بحدّة في عام 2019.
إن تباطؤ نموّ الأرباح وارتفاع تكلفة ديون الشركات، جنباً إلى جنب، مع كلّ العوامل السياسية والاقتصادية المترتبة عن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتّحدة، تشير إلى احتمال حدوث ركود عالمي في عام 2019، هو أشدّ من أي وقت مضى منذ نهاية الركود العظيم في عام 2009.
Michael Roberts Blog
ترجمة فيفيان عقيقي