يروي كتاب «حرب الخزانة» الصادر عام 2013، قصّة الحرب المالية الأميركية وأدواتها وصنّاعها ومهندسيها في وزارة الخزانة وكيف طوّروها. ويشرح كيف تكوّنت القوّة المالية للولايات المتّحدة، وماذا حقّقت، وما يجب القيام به للحفاظ عليها في المستقبل. أما الكاتب، فهو خوان زاراتي، أوّل مساعد لوزير الخزانة لشؤون تمويل الإرهاب والجرائم المالية بين عامي 2001 و2005، ثمّ نائب مساعد الرئيس الأميركي ونائب مستشار الأمن القومي لمحاربة الإرهاب ما بين عامي 2005 و2009.
الحرب الخفية ووزارة الخزانة
شنّت الولايات المتّحدة خلال العقد الأخير نوعاً جديداً من الحرب المالية غير المسبوقة في قدرتها على التأثير والاختراق، وهذه «الحرب الخفية» التي غالباً ما أسيء فهمها أو تقديرها أصبحت في صلب مذهب الأمن القومي الأميركي. وألحقت ضرراً شديداً بالنظم المالية والتجارية لأعدائها (مثل القاعدة وكوريا الشمالية وإيران)، وقيّدت تدفّق الأموال وسبّبت ألماً حقيقياً لهم. ويعرّف زاراتي هذه الحرب بأنها «استخدام الأدوات المالية والضغط وقوى السوق للتأثير في القطاع المصرفي ومصالح القطاع الخاصّ والشركاء الأجانب بهدف عزل اللاعبين المارقين عن النظم المالية والتجارية العالمية وإزالة مصادر تمويلهم». ويتّضح من التعريف أن هذه الحرب تتجاوز العقوبات التقليدية والحظر التجاري.
بدأت أميركا بتطوير تقنيات هذه الحرب بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 ضدّ القاعدة بالتحديد، ثمّ طوّرتها لتوظّفها ضدّ دول وكيانات مالية. وبمرور الوقت، أصبحت من أدوات الأمن القومي المُتاحة للتوظيف في القضايا الأمنية العالمية الصعبة. وقد تنبّه الأميركيون إلى أن «المال هو ما يغذّي عمليّات المارقين حول العالم، لكنه في الوقت نفسه يخلق لهم عيوباً»، فهو بمثابة «كعب أخيل» أعداء واشنطن، يقول الكاتب. وبناءً على ذلك، بدأت مجموعة صغيرة داخل وزارة الخزانة مقاربة ساحة المعركة العالمية من خلال عدسات الدولار واليورو والريال، ورؤية المال على أنه «رصيدنا الأعظم وعيب خصومنا الأعظم».

قبل 11 أيلول/ سبتمبر 2001 كانت الوزارة مجرّد مستهلك للمعلومات الاستخباراتية الواردة من مجتمع الاستخبارات. ولكن بعد الهجمات صيغَت «ورقة بيضاء» تضمّنت ثلاثة مرتكزات لتنشيط وظيفة وزارة الخزانة: إنشاء مكتب مقتدر للسياسات لمراقبة تنفيذ العقوبات ووضع معايير لنظام مالي مشروع وتنظيم الحرب المالية ومشاركة المعلومات بين الأجهزة المختلفة، وذراع لمكافحة الجرائم المالية (عام 2003 أُنشئ المكتب التنفيذي لجرائم الإرهاب المالي)، ودور استخباري جديد. بالمحصلة، تحوّلت الخزانة من مستهلك سلبي للمعلومات الاستخبارية إلى مُنتج لها، وأصبحت الاستخبارات المالية متمّمة لمصادر الاستخبارت الأخرى لتفكيك الشبكات. وتستفيد الخزانة من خبراتها وصلاتها الواسعة مع المؤسّسات المالية الخاصّة والحكومية حول العالم لجمع المعلومات.
وكانت بداية هذه الحرب مباشرة بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 حيث أطلقت واشنطن حملة مضادة لتمويل الإرهاب وكانت عناوينها الأساسية: توسعة النظام العالمي لمكافحة تبييض الأموال، وتطوير أدوات مالية واستخباراتية، وتطوير استراتيجيات ترتكز على فهم جديد حول محورية النظام المالي العالمي والقطاع الخاصّ في التهديدات العابرة للحدود. وكان المصدر الأساس لقوّة أميركا في إطلاق هذه الحرب المالية سيطرة واشنطن على أسواق الصيرفة من خلال الدولار باعتباره العملة الرئيسية في العالم.
وبالتوازي مع الضغوط على النظام المالي الرسمي، بدأت وزارة الخزانة تتعامل مع حركة المال عبر شركات الحوالة. وهذا ما دفع بعد 11 أيلول/ سبتمبر إلى فرض تنظيم عمل شركات الحوالة حول العالم، من خلال الخطوات الآتية: تشديد الرقابة وفحص دخول الأموال وخروجها عالمياً، وإقرار ضوابط جديدة حول العالم، وتدريب وكالات فرض القانون والجمارك على تطبيقها، والبحث عن نقاط الاختناق، أي «البوّابات الأساسية لعبور المال» إلى شبكات القاعدة مثل دبي وكراتشي أو من لندن إلى إسلام أباد.
وسعى الأميركيون مع الأوروبيين لحيازة معلومات برنامج SWIFT، بعد أن ساهمت معلوماته في القبض على العديد من الإرهابيين. ثمّ صمّم الأميركيون من المعلومات المتوافرة من SWIFT برنامج Treasury Terrorist Financing Tracking الذي أتاح القبض على أبرز مطلوبي القاعدة خلال عملية في تايلندا عام 2003. في شهادة لستيوارت ليفي أمام اللجنة الفرعية للمعلومات المالية في الكونغرس، أفاد بأنه «خلال سنتين من مراجعة التقارير الواردة من سويفت كلّ صباح، لم يخلُ نهار من معلومات تقودنا إلى أمر مرتبط بالإرهاب». وبعد جولات تفاوض أوروبية أميركية عدّة، وُقِّعَت اتفاقية 2010 التي حدّدت نوعية المعلومات التي يمكن الولايات المتّحدة أن تحصل عليها مع ضمانات بأن يكون استخدام المعلومات قانونياً ولا يؤثّر في الخصوصية أو يكون فيه تعسّف.
كذلك تركّز جهد أساسي لوزارة الخزانة على السعودية لضبط التمويل والتبرّعات والأموال الشرعية والشبكات التي تموّل القاعدة، وبعضها قائم منذ حقبة «الأفغان العرب». وبحلول 2004 أغلق السعوديون مؤسّسة «الحرمين» بشكل كامل. في تلك المرحلة ساد انطباع لدى مسؤولي الخزانة بأن التعاون الخليجي لم يكن كاملاً وبقي متوتراً، وارتدّ إحباطاً في واشنطن عبّر عنه المستشار العام للخزانة في شهادته أمام مجلس الشيوخ بأن السعودية هي «البؤرة الزلزالية لتمويل الإرهاب»، ليتبيّن لاحقاً، كما يشير الكاتب، أن هذا الانطباع لم يكن دقيقاً، حيث ظهر أن أجهزة الاستخبارات الأميركية كانت تحجب عن وزارة الخزانة المعلومات التي كان يسلّمها السعوديون.

البنوك السيئة
إن حصرية وزارة الخزانة في «إدارة نزاهة النظام المالي المحلّي والدولي أدّت إلى حصولها على صلاحيات خاصّة من داخل النظام القانوني الأميركي لتنظيم النفاذ إلى النظام المالي ومعاقبته وتحديده»، كما يقول زاراتي. وهذه الصلاحيات تشمل حقّ الطلب من البنوك والمؤسّسات المالية تجميد الأصول وإغلاق الحسابات ومنع التحويلات وطلب تقارير معلومات عن أنواع من الزبائن والمعاملات والحسابات البنكية المراسلة. والخزانة هي المحاور الأساسي مع وزارات الماليةوالبنوك المركزية والمشرّعين الماليين وصندوق النقد والبنك الدوليين ومصارف التنمية الإقليمية. بالمحصلة، أصبح «باستطاعة كلمة وزارة الخزانة تحريك الأسواق».
ركّزت الحرب المالية على سلوك المؤسّسات المالية (مصارف – شركات تأمين) التي هي «أربطة النظام العالمي» وليس العقوبات التقليدية، فمركز الجاذبية هو القطاع الخاصّ. في بداية 2003 بدأت الخزانة العمل بمشروع جديد عنوانه «مبادرة البنك السيئ»، الذي أعاد تشكيل دور الخزانة في الأمن القومي الأميركي، حيث «ستصبح البنوك السيئة هدفنا». هذه المصارف تتيح نفاذ المجرمين إلى الخدمات المصرفية وكذلك الأنشطة المالية غير المشروعة للاختفاء عن نظر المشرّعين ووكالات تطبيق القانون والخدمات الاستخبارية. وبذلك أصبحت «المخاطرة بالسمعة» جزءاً من حسابات المصارف في سلوكها، وهو ما حدا المصارف إلى وضع موارد هائلة لضمان خلوّها من حسابات وعمليات مرتبطة بالإرهاب.
منح القسم 113 من BATRIOT ACT الخزانة صلاحية اعتبار المؤسّسات المالية محفوفة بالمخاطر من منظار مكافحة غسل الأموال، أي تهديد لنزاهة النظام المالي، وهذا تعريف واسع لا يحتاج إلى أدلّة جرمية. هذا إلى جانب فرض شروط على حسابات المصارف الأجنبية في أميركا، فالقسم 113 أتاح تصنيف مؤسّسات وأنواع من الحسابات والمعاملات على أنها «primary money Laundering concerns» وهذه الصلاحية تتيح للخزانة فرض إجراءات مضادّة وإلزام المصارف ببعض الخطوات. وهكذا أصبحت الخزانة جاهزة للذهاب إلى الحرب. ويقول زاراتي إن المصرف أو الزبون حين يصبح مشتبهاً فيه، بكلمة من وزارة الخزانة تصبح «سمعته سيّئة مشعّة تلطّخ أي جهة يتعامل معها».
ويعرض زاراتي بالتفصيل دور وزارة الخزانة في تتبّع أموال النظام العراقي بعد سقوط صدام حسين، ومن ثمّ إطلاق حرب مالية على كلّ من إيران وكوريا الشمالية.

منحى التعلّم والحروب المالية المقبلة
يختم زاراتي كتابه معبّراً عن القلق من قدرة التعلّم لدى المستهدفين من الحرب المالية الأميركية. ومن شواهده ما يسمّيه «تحوّل حزب الله إلى تبييض أموال أميركا الجنوبية من خلال الاتجار بالسيّارات المستعملة من الولايات المتّحدة إلى غرب أفريقيا». بدوره، كان تنظيم القاعدة يتكيّف، حيث أصبح أكثر اعتماداً على التمويل المحلّي وعلى الأنشطة الإجرامية.
يكشف الكاتب أن الروس عرضوا عام 2008 على الصينيين في أعقاب الأزمة المالية أن تبيع الدولتان حصصهما في شركات أميركية عملاقة تقدّم تمويلات لشراء المنازل. رفض الصينيون، لكن لو حصل الأمر، لضرب خطط التعافي الأميركية. هذا العرض كان مؤشراً على أن أعداء أميركا يبدون إرادة أكبر لاستخدام الأسلحة المالية لضرب الولايات المتّحدة. إن «صراعات هذا العصر ستخاض على الأغلب في الأسواق وليس عبر الأدوات العسكرية فقط، وفي غرف مجالس الإدارة وليس فقط في الميادين الحربية». والجيوبولتيك الآن هي لعبة، وأفضل أدواتها الأسلحة المالية والتجارية، بحيث أصبح يمكن الدول الكبرى والصغرى وكذلك شبكات وأفراد متمكّنين استغلال التشابك الاقتصادي لزيادة قوّتهم العالمية على حساب منافسيهم الجيوبولتيكيين.
ويرى زاراتي أن الحروب المالية السايبيرية مقبلة، حيث يمثّل الدمج بينها وبين الحرب المالية الجبهة الجديدة لحروب تشترك فيها الدولة ووكلاؤها من المنظّمات. وهناك مؤشّرات على اشتداد الحروب السايبرية برعاية الدولة كما في الهجوم السايبيري على المنشآت الإيرانية الذي «يُعتقد أنه طوّر بالتعاون بين أميركا وإسرائيل». ويشير الكاتب إلى استهدافات لأنظمة الداتا من خلال فيروسات لسرقة معلومات المصارف، ومنها فيروس «GAUSS» الذي استهدف بهدوء، ولفترة طويلة، أكبر المصارف في الشرق الأوسط، ومنها المصارف اللبنانية. هذا النوع من الهجمات يعمل على المدى البعيد وبدرجة منخفضة ومستمرّة، بدل الصراع السريع والمعارك ذات الجاذبية العالية مع نتائج حاسمة، أي بما يشبه أساليب حرب العصابات وإنّما بأطر مالية. ويمكن استخدام السايبر للتلاعب بالأسواق والتوقّعات بشأنها وزيادة تقلّباتها لإلحاق أضرار بها.

تحدّيات القوّة المالية الأميركية
فضلاً عن التفوّق الاقتصادي الأميركي الذي يتعرّض للتهديد، هناك ثلاثة اتجاهات أساسية تتحدّى استخدام أميركا لقوّتها المالية:
1 - استخدام العملات والتكنولوجيات الجديدة خارج النظام المالي الرأسمالي عبر الإنترنت، حيث تقلّ الشفافية والمحاسبة. يستخدم هؤلاء اللاعبون الأدوات الرقمية (كالعملات الرقمية) للتهرّب من جهود مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. وهذه الإمكانية ستتزايد كلّما نمت شعبية هذه العملة واستقرّت أسعار صرفها.
2 - تكتل اللاعبين المارقين حول هدف مشترك لمحاصرة الضغط المالي الأميركي وإضعافه، واستخدام السلاح المالي بأنفسهم. لقد تجهّز اللاعبون غير الحكوميين استعداداً للعصر المقبل من الحروب المالية والاقتصادية. فالقاعدة حاولت استهداف خطوط الطاقة ونقاط «الاختناق المروري» الواقعية والافتراضية والموانئ حول العالم بهدف هزّ الاقتصاد العالمي والأميركي وإطالة أمد فترات التوعّك الاقتصادي. لذلك، تركّز هذه المجموعات على التحكّم ببعض مجالات الأعمال وممارسة نفوذ في أسواق معيّنة أو دول، عبر إضعاف الأطر السياسية من خلال الفساد والنفوذ العميق.
3 - استهداف الدولار الأميركي وتفوّقه كعملة مقبولة لتخزين القيمة والتجارة من قِبل المنافسين والناقمين. فقد تراجعت حصّة الاحتياطات العالمية من الدولار من 72% عام 2000 إلى 62% عام 2012، حيث يحاول العالم فكّ ارتباطه عن الاقتصاد الأميركي، فيما الصين تزيد من استخدام عملتها بدل الدولار في التبادلات الثنائية.

الخلاصة
يخلص زاراتي إلى أنه يصبح واضحاً بنحو متزايد أن أميركا تخسر هامش تنافسيتها في حقبة الأمن الاقتصادي، وأن مجال الحرب المالية لن يبقى طويلاً حكراً على القوّة الأميركية، فهناك مجموعة واسعة من الدول والمنظّمات والقوى غير الحكومية يمكن أن تمارس القوّة والنفوذ الاقتصادي في القرن الواحد والعشرين. لذا، يجب مواجهة التحدّيات والتقاط الفرص وتقليل نقاط الضعف النظامية من ضمن جهد منسّق. إن الحروب المالية آتية، وحان الوقت لإعادة تصميم نموذج للأمن القومي الاقتصادي. ويختم محذّراً: «إن فشِلنا في ذلك، فإن أميركا تخاطر بأن تُترك مكشوفة ومتأخّرة عن المنافسين في السباق نحو المستقبل».

* أستاذ جامعي