«لم أقصد إخافته. لكنني تفاجأت عندما رأيت الجندي هنا، إذ إنني على موعد معه غداً في سمرقند»جان بودريار

منذ فترة بدأ البعض من سياسيي النظام واقتصادييه بالبحث عن طريقة للخروج من الأزمة الاقتصادية، خارج إطار، أو بالأحرى من طريق تجميل النموذج الاقتصادي القديم. لكن لسوء حظهم، في الآونة الأخيرة تسارعت الأحداث، بحيث إن أزمة أخرى، أو الأزمة المالية للدولة، لم تعد سرّاً يتداوله اللبنانيون فقط، أو هي مُقتصرة على مؤشّر يضع لبنان في قائمة الدول الأعلى ديناً، من دون أي تأثير يذكر في الاقتصاد أو سياسات الدولة، بل أصبحت أزمة تهدّد أسس النظام نفسه، ومصدراً للتقلّبات في أسواق اليوروبوندز، ومحطّ اهتمام وقلق المستثمرين العالميين ومؤسّسات التصنيف الدولية مثل موديز وفيتش كما الصحافة المالية العالمية وغيرها.
الترويكا، أي المصارف والمصرف المركزي والدولة، غير معتادة هذا الجوّ من العلنية والتمحيص، لأنها عاشت السنوات الـ25 الماضية في عزلة عن العالم المالي الحقيقي والأسواق المالية العالمية ومتطلّباتها وشروطها. فهي بَنَتْ مؤسّسة اقتصادية-سياسية، على الرغم من ادعائها العكس، لم تستمع البتة إلى «الأسواق»، لا في 1996 (عندما كان واضحاً أن عجوزات الخزينة ستصبح مزمنة) ولا في أي وقت مذّاك، بل أصرّت دائماً على اتباع القديم، مع كلفته العالية من دفع الفوائد العالية على الدَّين وعدم رفع الضرائب على الأرباح والريع، وصولاً إلى «الهندسات المالية». فهناك دائماً قطعة من الجسد تمنحه للمصارف وللرأسماليين الماليين وغيرهم لكي يستمرّوا في تمويل الدولة اللبنانية من خارج الأسواق.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

لكن مع الوقت، تزايد اهتمام المستثمرين العالميين بسندات الدين اللبنانية. في هذا الإطار، تستنتج دراسة لاقتصاديين من صندوق النقد الدولي في بداية 2008 بعنوان «لبنان: اجتياز العواصف المطلقة»، أنه بعد استطلاع آراء المستثمرين في بيروت ولندن، تبيّن أن مقدرة لبنان على تجاوز الأزمات اعتمدت على ثلاثة: ضمانة غير معلنة من المانحين، سجل لبنان في عدم التخلّف عن دفع ديونه، والخاصية الفريدة لسوق الدَّين اللبناني التي تسيطر عليها المصارف المحلّية والمستثمرون والمودعون «الملتزمون». وبالتالي، أصبحت السندات اللبنانية آمنة، وتبادلها يعتمد أساساً على وجود هذا الدعم الداخلي والخارجي. هذه الأسواق الخارجية اليوم تشكّل نحو 10% من الدَّين، وعلى الرغم من «أقليتها»، إلّا أنها تحوّلت من تصويت لمصلحة لبنان إلى عبء سيكولوجي عليه، بحيث إن تصاريح لوزير المالية، على الأغلب كانت موجّهة للاستهلاك المحلّي، أصبحت إحداها في مقدّمة تقرير غولدمان ساكس، وأخرى أدّت إلى اهتزاز الأسواق.
الأهم، أن «عالمية» الأزمة وضعت التحالف بين مكوّنات الترويكا على محكّ الاختبار، بحيث بدت بوادر التفكّك بين أجنحتها، خصوصاً بين الدولة الطائفية والرأسمال المالي. وعلى الرغم من أن الدولة، على المدى القصير، استسلمت أخيراً أمام رأس المال، لكن العبرة ستكمن في ما سيحصل بعد تشكيل الحكومة. السؤال الأساسي الذي سيطرح نفسه عندها: هل ستستطيع الأحزاب الحاكمة أن تنفذ آليات التقشّف وتفرض الضرائب الاستهلاكية وترفع الدعم عن الكهرباء وتلعب بأنظمة التقاعد وغيرها من متطلّبات اليمين الاقتصادي؟ الأرجح لا، وأمام هذا الخيار الصعب، أصبحت بعض الأوساط، من داخل النظام، تدرك أن الحلقة الجهنمية التي دخلت فيها الترويكا لا يمكن حلّها (كما أدركت سابقاً أنه لا يمكن حلّ الأزمة الاقتصادية) من داخل متغيّرات النظام القديم الذي أصبح في وضع لعبة catch 22، إذ مهما فعلت، فالنتيجة واحدة: نهاية اللعبة التي استمرّت لـ25 عاماً. وبالتالي هي تريد أن تستعمل تقرير ماكنزي الذي صدر تحت عنوان «رؤية لبنان الاقتصادية» في هذا السياق.

بعض الأمور حول هذا الأمر
أوّلاً، إن التحوّل إلى طريق مغاير للتنمية سيتطلّب تهميشاً كاملاً للاقتصاد الريعي الذي كان أساس تراجع النشاطات الإنتاجية. فهذا الاقتصاد ليس محايداً، بل بالإضافة إلى تركّز الدخل والثروة لديه، خلق البيئة التي منعت استعمال المواهب والقدرات العلمية الكامنة في نشاطات منتجة، وهو الذي يجعل المؤسّسات الرأسمالية الإنتاجية غير مهتمة بالتجديد التكنولوجي ولا بطلب العمالة الماهرة. وهذا الأمر له أسبابه الأساسية التي لا يمكن تغييرها بسهولة. ففي النظام الرأسمالي، إن استعمال النقد يحدّد العائد على النشاطات الاقتصادية المختلفة. في لبنان، وبسبب تسارع دولرة الدَّين العام منذ 1998، وندرة الدولار، وعدم مقدرة الدولة على صكّ العملة، واحتكار المصارف لمصادر الدولار، أصبحت العوائد على النشاطات الريعية المتصلة بالدَّين العام كما تلك المرتبطة بالأصول العقارية الثابتة أعلى من تلك على النشاطات المنتجة. ومن هنا لا يمكن بواسطة إجراءات شكلية عكس ذلك. فالاقتصاد في بنيته أصبح اليوم محكوماً بهذه السترة الحديدية للنقد.
ثانياً، إن دور الدولة أساسي في تفكيك النموذج الريعي كما في إنتاج العوائد الكامنة العالية على النشاطات الإنتاجية، وذلك عبر أخذ المبادرة بتنفيذ مشاريع البنية التحتية ذات المخاطر العالية التي لا يستطيع القطاع الخاص أن يقوم بها، ويجب ألا يقوم بها، كما عبر تحديد وجهة التطوّر التكنولوجي وإقامة القطاعات المحدّدة. إن المؤيّدين للشراكة بين القطاعين العام والخاص يعلمون أن هناك هوة كبيرة وعدم تناظر واسع بين الدولة والقطاع الخاص، فالدولة بعد سنين من الإهمال في بناء مؤسّساتها وعدم التوظيف النظامي بها، تحوّلت إلى هيكل دولة تعاني من الخواء في عديدها البشري الماهر كما تعاني من الندرة في رأسمالها الثابت. وهذا يضع علامة استفهام كبيرة على مقدرة الدولة على تنفيذ خطط اقتصادية حتى لو كانت مقتصرة على لائحة إجراءات على شاكلة ماكنزي. ولكن الأخطر في هذا الأمر، أن القطاع الخاص، على الرغم من كونه ليس أفضل بكثير، فهو كما ذكرت، تعرّض للتجويف من المهارات والرأسمال والتكنولوجيا نتيجة خضوعه للاقتصاد الريعي، إلّا أنه مليء مالياً، ما يجعل من هذه الشراكة عملياً ابتلاع القطاع العام من قبل القطاع الخاص. وعندها تكتمل الحلقة التي بدأت بالدَّين العام وتراكم الثروة في القطاع الخاص في مقابل إفقار القطاع العام.
وهنا على الدولة، بدلاً من هذه الشراكة المزعومة التي ستؤدّي إلى سيطرة أكبر لقطاع خاص، هو أصلاً احتكاري، على قطاعات جديدة، أن تقوم بتفكيك الاحتكارات التي تسيطر على أجزاء كبيرة من الاقتصاد اللبناني، ليس فقط من أجل خفض الأسعار، بل لكونه أحد المتطلّبات الأساسية من أجل قيام اقتصاد متقدّم. وهذا ما تبيّنه الدراسات أكثر وأكثر في الاقتصاديات المتقدّمة. في هذا الإطار، يقول جاسون فورمان، الرئيس السابق لمجلس مستشاري الاقتصاديين التابع للبيت الأبيض، إن تحديث السياسات التنافسية من أجل زيادة المنافسة في الاقتصاد الأميركي أساسي «إذا أردنا أن يكون لدينا استثمارات أكثر، وديناميكية أعلى، وإنتاجية أعلى».
ثالثاً، إن أي تحويل للاقتصاد إلى اقتصاد منتج يتطلّب سياسة صناعية راديكالية، وليس فقط مجموعة إجراءات تنفّذ في قطاعات مختلفة مبنية أكثرها على سياسات التحفيز وبيئة الأعمال وغيرها من الأمور التي برهنت تاريخياً فشلها. السياسة الصناعية يجب أن تُبنى أساساً على تحويل موارد من قطاع نريده أن يضمر أو ينتهي إلى قطاع نريده أن ينمو. وهذا الأمر لا يحصل أوتوماتيكياً ولا عبر بعض سياسات جانب العرض، بل بواسطة تحويل الموارد من قطاع إلى قطاع، إمّا مباشرة من قبل الدولة عبر الضرائب أو عبر قلب بنية الأسعار لمصلحة القطاع الجديد. وحتى إذا اعتمدنا سياسات التحفيز الضريبية لقطاع ما، أو سياسات الدعم، فإن هذه السياسات لديها كلفة على الخزينة، يجب أن تعوّض من مكان ما، وهي فعلياً نقل للموارد من قطاع إلى آخر. هنا لا بدّ من دراسة التجربة الصينية التي قال داني رودريك أخيراً إنها استعملت مجموعة من السياسات بحرّية كبيرة، وهي «القروض الرخيصة، الملكيّة العامّة، القوانين على المحتوى المحلّي، دعم الصادرات وشروط لنقل التكنولوجيا». فمن دون هذه الإجراءات، ستبقى محاولات بناء القطاعات الجديدة حبراً على ورق.
في عام 2004، كتب نورييل روبيني أن «لبنان دائماً في انتظار حصول أزمة»، أي كأنّ سيف ديموقليس معلّق فوق رأسه. منذ ذلك الوقت، استطاع لبنان أن يتجنّب أزمة نقدية، ولكنه يعيش الآن أزمة مالية واقتصادية أصبحت مفتوحة على الملأ. اليوم يحاول البعض تلمّس ملامح الخروج من هذا النظام القديم عبر خطّة، وإن كانت سطحية، تحاول أن تغيّر، ليس في النموذج، بل في مُخرجاته ونتائجه. الأزمة والمحاولة هما تحدّيان أكبر من جمهورية الطائف ورديفتها البورجوازية اللبنانية. فالأولى بحالة صعبة جدّاً، والأخيرة تريد فقط أن تعود إلى حيّزها المريح، أي أن تعود إلى ما كانت تقوم به دائماً، بدلاً من مواجهة هذا العالم الذي يبدو لها اليوم مقلوباً على رأسه. أمام هذا الوضع، إن مفاعيل السباق بين موديز نحو الأسفل وماكنزي نحو الأعلى، ستكون هي هي بغضّ النظر عن المنتصر بينهما، لأن الاقتصاد الذي بُني في السنوات الـ25 الماضية بحاجة، ليس إلى تصنيف أعلى أو إلى عملية تجميل، بل إلى ثورة في الفكر وفي السياسة تُنهي القديم وتبني على أنقاضه الاقتصاد الجديد.