لا يتسم النظام الضريبي في لبنان بالعدالة ولا بالكفاءة ولا بالفعالية. فهو يكافئ الأثرياء والريع والكسل ويعاقب الفقراء والإنتاج والعمل. وفي الوقت نفسه، لا يوفر الموارد المالية الكافية لتمويل إنفاق الدولة الضروري وإسرافها والفساد المستشري فيها، ويتركها في حالة عجز ومديونية متعاظمة... هذه هي باختصار السمة الأساسية للمعضلة التي يواجهها المجتمع اللبناني اليوم، الذي يُطلب إليه قبول «التقشّف» والعيش بمستوى أقل وتسديد ضرائب أكثر على الاستهلاك والعمل، من دون المسّ بطبيعة النظام الضريبي، على الرغم من الإقرار الواسع بمساوئه.عموماً، تموّل الدولة إنفاقها من 3 مصادر رئيسة: الضرائب والإيرادات غير الضريبية والدَّين. وتُعَدّ الضرائب أكثر عدالة وكفاءة وفعالية مقارنةً بالدَّين. في حين أن الإيرادات غير الضريبية هي في الغالب ضرائب مُستترة بصورة تعرفات تجارية ورسوم معاملات إجبارية مفروضة على الأسر المقيمة في البلد. أمّا الدَّين، فمشكلته الأساسية أنه يصبّ في مصلحة من يملك المال لإقراض الدولة، وينعم بالأرباح ويُعفى من تسديد الضرائب أو يتهرّب من تسديدها.
في الحالة اللبنانية، تعاني المصادر الثلاثة الرئيسة لتمويل إنفاق الدولة من اختلالات بنيوية خطيرة ومُدمّرة. فهي أسهمت في زيادة تركيز الدخل والثروة لدى قلّة قليلة من الناس، وشجّعت النشاطات الريعية في الاقتصاد على حساب الإنتاج، وشجّعت على المزيد من الفساد، وعطّلت وظيفة الضرائب في إعادة التوزيع بين الفئات الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية... ورتبت في المقابل ثالث أعلى مديونية في العالم، تستنزف ثلث إنفاق الدولة ونصف إيراداتها، على حساب الاستثمار في البنية التحتية والخدمات الأساسية والحماية الاجتماعية.
لتبسيط المسألة وتوضيحها، سنأخذ بيانات المالية العامّة (12 شهراً) بين أيلول/ سبتمبر 2017 وأيلول/ سبتمبر 2018، ونجري احتساباً لكيفية تمويل كلّ 100 دولار أنفقته الدولة في هذه الفترة، ونبيّن من هي الفئات الاجتماعية التي تحمّلت عبء هذا التمويل ومدى قدرة كل فئة على تحمّل المزيد من التقشّف والمزيد من العبء.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وفق هذه البيانات، أنفقت الحكومة نحو 19.311 مليار دولار، من ضمنها نحو 5.770 مليارات دولار كمدفوعات فائدة على الدَّين العام، وجبت إيرادات مختلفة بقيمة 12.436 مليار دولار، وبلغ العجز الإجمالي نحو 6.876 مليارات دولار. وهذا يعني قبل أي شيء، أن من أصل كل 100 دولار تنفقه الحكومة، يُموَّل 35.60 دولاراً منه بالدَّين، فيما تموَّل 64.40 دولاراً بالضرائب والإيرادات الأخرى.
والآن، لنرَ من أين تجبي الحكومة مبلغ الـ64.40 دولاراً، وما الفئات الاجتماعية التي تسدّد هذا المبلغ.
تُفرض الضرائب عادةً على الدخل (الأرباح والريوع والأجور)، وعلى الثروة (رأس المال والودائع والعقارات)، وعلى استهلاك الأسر، فضلاً عن مصادر أخرى أقل أهمّية. وعلى الرغم من أن الضرائب على الثروة هي الأكثر عدالة وكفاءة، إلّا أن النظام الضريبي اللبناني يعفيها من أي عبء ضريبي ملموس، فيما تحظى الأرباح والريوع بمعدّلات ضريبية منخفضة جدّاً، ليتركّز العبء بشكل كبير على استهلاك الأسر ودخلها.
- الضرائب على الثروة: لا يُسدّد ملّاك الأراضي أي ضرائب مباشرة على ملكيّاتهم، ولا يفرض النظام الضريبي سوى ضرائب متواضعة على الأملاك المبنية (190 مليون دولار سنوياً) والإرث (88 مليون دولار)، ما يعني أن الضرائب على الثروة العقارية لا تساهم بتمويل سوى 1.43 دولاراً من كل 100 دولار تنفقه الحكومة. يضاف إلى هذه الضرائب رسم التسجيل العقاري (572 مليون دولار سنوياً)، وهو يساهم بتمويل 2.96 دولار من كل 100 دولار، علماً أن طبيعة هذا الرسم والمكلّفين دفعَه تجعله أقرب إلى الضريبة غير المباشرة على الأسر تتحمّله لشراء مسكنها أكثر ممّا هو ضريبة على الثروة.
- الضرائب على الودائع: لا يسدّد المودعون من أرباحهم الطائلة سوى 5.57 دولارات لتمويل كل 100 دولار تنفقه الحكومة، علماً أن كتلة الفوائد التي يتحمّلها المجتمع تتجاوز 13 مليار دولار سنوياً لخدمة هذه الودائع وتأمين الأرباح لأصحابها، ومن المفيد التذكير أن أقل من 1% من المودعين يستحوذون على أكثر من نصف الودائع.
- الضرائب على أرباح الشركات والمساهمين: لا تتجاوز قيمة الضرائب المُجباة من أرباح الشركات 898 مليون دولار، يضاف إليها نحو 291 مليون دولار كضريبة توزيع أرباح على المساهمين، أي ما مجموعه 1.189 مليار دولار، ما يعني أن هذا المصدر لا يساهم إلّا بنحو 6.15 دولارات من كل 100 دولار تنفقه الحكومة، علماً أن التقديرات تفيد بأن نصف الضرائب المستحقة على الأرباح لا تُسدَّد.
- الضرائب على الأسر والعمّال: يقع العبء الضريبي الرئيس على الأسر، سواء عبر الضرائب على الاستهلاك أو الأجور أو عبر أشباه الضرائب التي تسدّدها الأسر للحصول على الخدمات الأساسية (ولا سيّما الاتصالات) وإجراء المعاملات الإدارية الإجبارية (رسوم البيانات الشخصية وجوازات السفر والسير وغيرها). فمن أصل كل 100 دولار تنفقها الحكومة، تدفع الأسر والعمّال نحو 38.76 دولار، علماً أن جزءاً مهمّاً من مصادر التمويل الأخرى المُسجّلة كإيرادات غير ضريبية أو رسوم الطابع المالي يقع على عاتق الأسر أيضاً.