في اللحظة الراهنة، يخبروننا أنّنا نمرّ بمرحلة خطيرة من العجوزات الكبيرة: عجز ماليّ وعجز تجاري وعجز في ميزان المدفوعات. ويطلبون منّا أن نبذل المزيد من التضحيات للخروج من هذا الوضع الحرج، وإلّا ستنهار الليرة وتتوقّف الدولة عن الدفع. يشروحون لنا أن سبب هذه العجوزات هو الإفراط في حجم الدولة وإنفاقها العام ودعم الكهرباء والأجور ومعاشات التقاعد... وطبعاً لا ينسون أن يضيفوا إلى الشرح، ذاك المتطفّل الخارجي الغريب، الذي يصادف اليوم أن اسمه «اللاجئون السوريون»، وكان له في السابق أسماء كثيرة. ويطرحون علينا في مواجهة كلّ ذلك برنامجاً للمزيد من التقشّف وخفض الأجور وزيادة الضرائب على الاستهلاك والمحافظة على سمعة الدولة في الالتزام التامّ بتسديد الدين وفوائده كأولوية تفوق كلّ الأولويات. برنامجهم المطروح هو باختصار محاولة أخرى لشراء المزيد من الوقت، والمسألة، كلّ المسألة، تتعلّق بمن الذي سيدفع ثمن هذا الوقت الإضافي؟ ما هو مطروح يقول بوضوح إن الذين دفعوا في السابق سيواصلون الدفع، والذين كسبوا سيكسبون أكثر. برنامج الحكومة والبديل عنه كان محور الطاولة المستديرة التي نظّمها «الحراك الشعبي للإنقاذ»، تحت عنوان «مخاطر الأزمة الاقتصادية وسبل مواجهتها»، وشارك فيها الاقتصاديون جورج قرم، وتوفيق كسبار، وكمال حمدان، وغسان ديبة وسامي عطاالله، وأدارها الزميل محمد زبيب.
تصحيح النظام الضريبي المجنون

جورج قرم
* اقتصادي، وزير المال اللبناني الأسبق

يتّسم النظام الضريبي في لبنان بتكيّفه مع حاجات الاقتصاد الريعي. فهو يكافئ أصحاب الريوع والرساميل ويعفيهم من أيّ ضغط ضريبي، وينقل 90% من هذا الضغط إلى الفئات الشعبية من خلال الضرائب المباشرة وغير المباشرة. فنحن نعيش في ظلّ نظام ضريبي مجنون يحمّل الناس العبء الأكبر من تأمين إيرادات الدولة ليموّل كبار الأثرياء.


من هنا، إن أي برنامج لمواجهة الأزمة يجب أن ينطلق من النظام الضريبي، ووضع تصوّر لنظام بديل مع مجموعة من الإصلاحات والإجراءات أبرزها:
• ضريبة موحّدة على الدخل: لم يعد يوجد في العالم أيّ دولة لديها نظام ضريبي يتضمّن ضرائب مختلفة على الدخل المتأتي من العقارات والفوائد والأجور وأرباح الشركات سوى لبنان. لذلك يُفترض إقرار نظام الضريبة الموحّدة على الدخل الذي يؤدّي إلى رفع الإيرادات المحصّلة من هذه الضريبة ويسهّل حياة المكلّف لناحية تقديمه تصريحاً واحداً عن دخله. قبل الحرب كانت ضريبة الدخل تصل إلى 43%، لكن مع دخولنا مرحلة العولمة والأيديولوجيا الليبرالية الموجّهة لخدمة مصالح كبار الرأسماليين، خُفّضت هذه الضريبة إلى 10%، من ثمّ نجحت بعد معارك مع المجلس النيابي برفعها إلى 20%، ومن المفترض أن ترتفع وتصل إلى 35% في الشطور العليا.
• الضريبة على القيمة المضافة: من المفترض إعادة النظر بالضريبة على القيمة المضافة، ورفعها فوراً إلى 18% على الكماليات وخفضها أو إلغاؤها عن الأساسيات المُستهلكة من الفئات الشعبية.
• إشغالات الأملاك البحرية: تعدّ إيجارات الأملاك البحرية مصدراً مهمّاً للإيرادات، لكن أسعارها لم تصحّح منذ عام 1992 بالتوازي مع ارتفاع أسعار العقارات، وهو ما يفترض إعادة النظر به.
• ضريبة على الأرباح في البورصة: في لبنان، وعلى عكس باقي بلدان العالم، لا تُفرض أي ضريبة على الأرباح الرأسمالية المحقّقة في بورصة بيروت وفي البورصات العالمية، وهو ما يجب العمل عليه في إطار أي تصحيح ضريبي.
• الضريبة على الشركات العقارية: من المعروف أن الشركات العقارية أنشِئت بغرض التهرّب الضريبي، عبر تحويل المتاجرة بالعقار نفسه إلى متاجرة بأسهم الشركات العقارية، وبالتالي التهرّب من دفع نسبة 6.5% من ثمن العقار المتاجر به كرسم لتسجيله. لذا من المفترض فرض هذه النسبة على عمليات المتاجرة العقارية عبر الأسهم، وهو ما حاولتُ إقراره حين كنت وزيراً مالياً إلّا أن مجلس الوزراء رفضه.
• البلديات: يخصّص القانون 10% من بعض إيرادات الدولة للبلديات، إلّا أن عدم تحويل هذه الإيرادات حيناً أو تحويلها واستعمالها كأداة ضغط سياسي على المجالس البلدية كنوع من العلاقة الإقطاعية، فضلاً عن عدم تطبيق اللامركزية الحقيقية، يفرض إعادة النظر بكيفية استخدام هذا المصدر من الإيرادات، بحيث يستمرّ تحويله إلى البلديات لكن مع زيادة مسؤولياتها في تقديم الخدمات الاجتماعية وخصوصاً المدارس الابتدائية ودور الحضانة. بالإضافة إلى تطبيق قوانين اللامركزية الصادرة منذ عهد فؤاد شهاب، وإنشاء مجالس القضاء والمحافظة لتعزير الوظائف التنموية في المناطق.
• إنشاء صندوق التقاعد المستقلّ لموظّفي الدولة: يبلغ رسم التقاعد 6% من مجمل الراتب. وفي حين باتت فاتورة التقاعد كبيرة جدّاً على الدولة اللبنانية، إلّا أن صندوق التقاعد المستقلّ لم يتأسّس على الرغم من صدور القانون المتعلّق به في عهد فؤاد شهاب. وبالتالي لا تزال هذه الرسوم المهمّة تدخل ضمن إيرادات الموازنة في مخالفة دستورية وقانونية ومؤسّساتية واضحة.


من باريس 1 إلى باريس 4: ماذا تغيّر؟

سامي عطالله
* اقتصادي، المدير التنفيذي للمركز اللبناني للدراسات

لماذا الدولة اللبنانية بعد مؤتمرات باريس 1 و2 و3، لا تزال بحاجة للذهاب مجدّداً إلى باريس 4، بحثاً عن مصادر تمويل وقروض لتجهيز البنية التحتية وتحسينها؟ الإجابة تفسّر تركيبة النموذج اللبناني، وتوضح سبل مواجهة أزماته المتكرّرة.
من الواضح أن البنية التحتية اللبنانية سيئة للغاية، من الكهرباء إلى الماء وصولاً إلى الطرقات. أمّا السبب فهو عدم إنفاق الحكومات المتعاقبة أموالاً كافية على مشاريع البنية التحتية، وهو إنفاق لم يتخطَّ 1.6% من مجمل الناتج المحلّي بالمقارنة مع 5% في البلدان الشبيهة بنا.


وهذا يعني أمراً من اثنين: أن الحكومة لا تملك الأموال الكافية للإنفاق على البنية التحتية أو أن الحكومات المتعاقبة والأحزاب السياسية الحاكمة تصرف الأموال على أمور أخرى. وهنا تبرز الحاجة إلى تأمين الأموال لتحسين البنية التحتية وإيصال الخدمات العامّة. وإذا تأمّنت هذه الأموال، التأكّد من إنفاقها بشكل فعّال وكفوء. لكن لماذا لا يوجد لدينا أموال كافية؟ حُكي الكثير عن كيفية إنفاق الإيرادات العامّة، على خدمة الدين العام والإنفاق الجاري للدولة. وهذا جزء من قصّة الإيرادات يكمّله جزء ثانٍ متعلّق بجباية الضرائب. في الواقع، تشكّل الجباية 13.6% من مجمل الناتج المحلّي، لكن إذا رفع هذا المعدّل إلى 16.4% كما هو الوضع في البلدان الشبيهة بلبنان إنمائياً، يمكننا تحصيل مليار وربع مليار دولار سنوياً، أي 12 مليار دولار خلال عشر سنوات، وهو ما يوازي قيمة قروض سيدر. من الواضح أن أحداً لا يريد تغيير العقد الاجتماعي القائم. إذ فضّلت الحكومة الاستدانة لتمويل مشاريع البنية التحتية بدلاً من جباية الأموال من الضرائب العادلة والثروات المتراكمة والاحتكارات الممنوع المسّ بها.
اليوم في ملف سيدر هناك محوران، واحد متعلّق بالمشاريع والثاني متعلّق بالإجراءات المرتبطة بها.
عملياً، يتضمّن سيدر نحو 281 مشروعاً مقسّماً على القطاعات والمناطق، تعود بمعظمها إلى ستينيات القرن الماضي، وبقيمة 11 مليار دولار. في حين سيتمّ تنفيذ بعض المشاريع بالشراكة مع القطاع الخاص بما سيرفع القيمة الإجمالية إلى 17 مليار دولار. على أن ينفّذ جزء من هذه المشاريع عبر مجلس الإنماء والإعمار وجزء آخر عبر وزارة الطاقة والمياه. تكمن المشكلة بمدى كفاءة الدولة في إدارة إنفاق نحو ملياري دولار سنوياً في حين أن معدّل إنفاقها السنوي على المشاريع الاستثمارية يتراوح بين 500 و800 مليون دولار، وذلك في ظلّ ضعف إدارة المناقصات، ووجود شكوك في مدى نزاهة وشفافية المؤسّسات والإدارات العامّة المفترض بها تنفيذ هذه المشاريع، خصوصاً أن الشركات التي تفوز بالمشاريع هي على علاقة وطيدة مع نافذين وسياسيين، فضلاً عن ضعف أجهزة الرقابة والمساءلة والمحاسبة.
أمّا في الشقّ المتعلّق بالإجراءات التي تعهّدت الحكومة بتنفيذها أمام المانحين، يتبيّن أن هناك 73 إجراءً. نحو 32% منها هي إجراءات مالية، و70% منها كانت موجودة ضمن باريس 3 ولم تنفّذ. و44% منها إجراءات قطاعية، كإنشاء هيئات ناظمة أو تحضير قانون للصندوق السيادي للنفط، وتعرفة الكهرباء... وهناك 3 إجراءات فقط متعلّقة بالقضاء الذي يعدّ سلطة أساسية لمحاربة الفساد، وكلّها متعلّقة بمكننة المحاكم. بالإضافة إلى وجود عدد كبير من الإجراءات الغامضة على سبيل تحسين الإدارة النقدية وتخفيض الإنفاق من دون توضيح الآليات. وهناك 36 إجراءً يتطلّب إقرار قوانين، ما يفترض على المجلس النيابي القيام بجهد تشريعي، فيما لم يقم بأي جلسة رقابية بين عامي 2009 و2017، وأقرّ خلال الفترة نفسها نحو 352 قانوناً، 9% منها فقط تتعلّق بهموم الناس، أمّا النسبة المتبقية فكانت إجراءات مالية وإدارية محوّلة من البنك الدولي وعبارة عن قروض ومنح صوّتوا عليها.
تشكّل هذه الأرقام والوقائع دليلاً على مدى جدّية النواب لمناقشة أمور من المفترض تناولها عند البحث عن سبل لمواجهة الأزمة وهي النظام الضريبي وتغيير العقد الاجتماعي، وتحصين الأجهزة الرقابية للقيام بدورها في مكافحة الفساد.


سمّ السياسة النقدية

توفيق كسبار
* اقتصادي، مستشار سابق في صندوق النقد الدولي

هناك خطاب سائد في لبنان، إعلامياً وبين الناس، عن وجود مشكلة تتمثّل بتنامي العجز السنوي الذي يؤدّي إلى تفاقم الدين الحكومي بما يشكّل خطراً كبيراً على الاقتصاد والمجتمع. وفي الوقت نفسه، يشيع الخطاب نفسه أن هناك فارساً على حصان أبيض، وهو مصرف لبنان، يقوم بجهود جبّارة ليخلّصنا من هذا الوضع. لكن، بالاستناد إلى الأرقام الرسمية المنشورة، يتبيّن أن الخطر الأكبر على الاقتصاد والاستقرار المالي والنقدي والجهاز المصرفي، يتأتّى من السياسة النقدية لمصرف لبنان.
وفقاً للتعريف المتداول، إن العناصر الأساسية المكوّنة للسياسة النقدية تتشكّل من سياسة الفوائد التي يتبعها المصرف المركزي، وكيفية استعمال الاحتياطي بالعملات الأجنبية لاستقرار النقد، وسياسته تجاه المصارف، أمّا أهدافها فهي تأمين الاستقرار النقدي (أي ثبات سعر صرف الليرة في الحالة اللبنانية) والاستقرار المصرفي وتطوّر الجهاز المصرفي.


انطلاقاً من هذا التعريف، يمكن تلخيص السياسة النقدية لمصرف لبنان منذ بداية التسعينيات (1993) وحتى اليوم، بقيامها أساساً بتجميع أكبر حجم من الدولارات لدى مصرف لبنان للدفاع عن سعر صرف الليرة. وهذا أمر بديهي في بلد اقتصاده صغير ومنفتح ويتّبع نظام سعر الصرف الثابت للعملة. لكن المشكلة تكمن في استعمال المصرف المركزي أدوات لم تساعد بتاتاً في تحقيق هذا الهدف، بل أدخلت الاقتصاد في وضع خطير جدّاً ومخاطره تتزايد باطراد، ويمكن تبيانها من خلال تفسير عواقب الهندسات المالية.
عملياً، بدأت الهندسات المالية التي يجريها مصرف لبنان منذ أكثر من 15 عاماً، عبر منح فوائد سخيّة بنسبة 4% و5% على الودائع القصيرة الأجل في مقابل أقل من 1% في الأسواق العالمية. إلّا أن هذه الهندسات وصلت إلى مستوى ضخم في منتصف 2016، عندما منح بضعة مصارف فقط وخلال بضعة أشهر، أرباحاً بقيمة 5.1 مليار دولار من دون أي مقابل في رساميلها بحسب ما أكّد صندوق النقد الدولي في تقريره عن لبنان عام 2016. ومنذ عام 2017، بات المصرف المركزي يعطي المصارف معدّلات فائدة مرتفعة جدّاً على العملات الأجنبية التي تضعها لديه، وطبعاً من دون الإعلان عن نسبة هذه الفوائد على عكس كلّ المصارف المركزية في العالم، ويمنحها أيضاً في مقابلها ديوناً بالليرة اللبنانية توازي مرّة وربع المرّة (1.25) قيمة الودائع بالعملات الأجنبية بفائدة 2% فقط، في حين تودع المصارف في الوقت نفسه ومباشرة المبالغ نفسها بالليرة لدى مصرف لبنان وبفائدة تتعدّى 8-9%. وهو ما يعني أرباحاً إضافية ضخمة. ووفقاً للأرقام المنشورة في 2018، منح مصرف لبنان المصارف قروضاً إضافية بالليرة اللبنانية خلال العام الماضي توازي نحو 21 مليار دولار إضافي، من دون إدخال أي ليرة من هذه المبالغ في المقابل إلى الاقتصاد.
ولإظهار المخاطر الفعلية التي أنتجتها الهندسات المالية يكفي النظر إلى ما تحقّق من أهدافها. يقول مصرف لبنان في كلّ تصريحاته المنشورة والعلنية أنه أجرى هذه الهندسات لتحقيق ثلاثة أهداف؛ أوّلاً، زيادة احتياطاته بالعملات الأجنبية التي يحتاج لها لتثبيت سعر الصرف. في حين تُظهر الأرقام أن بين منتصف 2016 ونهاية 2018 لم ترتفع قيمة هذا الاحتياطي لدى مصرف لبنان، بينما ارتفعت استدانته من المصارف بالعملات الأجنبية بقيمة 40 مليار دولار تقريباً. ثانياً، تحسين ميزان المدفوعات الذي يعبّر عن صافي الأموال الخارجة والداخلة إلى لبنان وخفض العجز فيه بعد تسجيله عجوزات متتالية للسنة السابعة على التوالي (ما عدا عام 2016)، وهو ما لم يشهده لبنان في تاريخه. وفي نهاية 2018 بلغ العجز السنوي نحو 4.8 مليار دولار، مع العلم أنه أكثر من ذلك، كون مصرف لبنان، منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، غيّر المنهجيّة المتّبعة عالمياً في احتساب ميزان المدفوعات عبر إدخال سندات اليوروبوندز ضمن موجوداته الخارجية. ثالثاً، زيادة إقراض المصارف للقطاع الخاص وخصوصاً بالليرة اللبنانية. لكن وللمرّة الأولى في تاريخ لبنان، انخفض الإقراض إلى القطاع الخاص بالمطلق بنحو 1.7 مليار دولار عام 2018، ومع زيادة تراكم الفوائد ترتفع قيمة هذا الانخفاض إلى نحو 7 مليارات دولار.
أمّا الأخطر من ذلك، أنه وضع الاقتصاد اللبناني في وضعية لم يشهدها يوماً، إذ باتت المصارف في موضع خطر للغاية ومرتبطة عضوياً بالوضع المالي للقطاع العام، كون ثلثي أصوله باتت قروضاً للقطاع العام، بالمقارنة مع نصف الأصول في 2007، ونحو 52% منها لدى مصرف لبنان. لقد منح المصرف المركزي المصارف - التي استفادت لفترة طويلة من أرباح عالية من دون مخاطر – هدايا مسمّة، لا لأصحاب المصارف، وإنّما للقطاع المصرفي والاقتصاد والناس. ولبنان بتركيبته وصغره وضعفه لا يستطيع تحمّل أي انهيار في قطاعه المصرفي. وهذه المخاطر مستمرّة منذ سنوات وتتفاقم، في حين لا نسمع من المسؤولين سوى الشعارات. وفيما البيت الذي نعيش فيه يحترق، هناك إجراءان محدّدان لمنع الانزلاق نحو الانهيار والخطر الداهم علينا، أوّلاً اجتماع الرؤساء الثلاثة والاتفاق على خفض العجز المالي السنوي إلى 4 مليارات دولار في موازنة 2019 مثلاً، وإلى 3.5 مليار بعد سنة ونحو 3 مليارات بعد سنتين. وثانياً، مساءلة مصرف لبنان ومحاسبته على سياسة الفوائد السخيّة التي يمنحها للمصارف منذ سنوات عدّة، وتوزيعه 5.1 مليار دولار مجّاناً لبضعة مصارف عام 2016.


السبيل العادل إلى خفض النفقات

كمال حمدان
* اقتصادي، مدير تنفيدي في مؤسّسة البحوث والاستشارات

تأثرت سياسات الإنفاق العام تاريخياً بتطوّر تركيبة السلطة السياسية وتوازناتها، والتي يمكن إيجازها بثلاث مراحل: قبل الحرب، لجأت البورجوازية اللبنانية، كي تمارس سيطرتها الطبقية، إلى توسيط ما سُمّي «الإقطاع السياسي» في مقابل إشراكه في المنافع والخيرات، وكان وزن المكوّن الريعي في البورجوازية محدوداً نسبياً آنذاك. خلال الحرب، تراجع دور «الإقطاع السياسي»، وتكيّفت البورجوازية مع قوى الأمر الواقع، التي أمعنت في تقطيع أوصال الدولة واغتنت من تحكّمها بمصادر تمويل الحرب. بعد انتهاء الحرب، نشأ زواج كاثوليكي بين البورجوازية وهؤلاء اللاعبين الجدد الذين أدخلهم اتفاق الطائف إلى الدولة، وسط تنامي المكوّن الريعي بفعل ظهور العجز والدين العام وتفاقمهما، وازدياد دور المموّل/ الراعي الخارجي، واتساع تأثيرات الهجرة الخارجية وصدمات أسعار النفط.


لقد ساهم تعاقب هذه الحقبات الثلاث في إعادة صياغة البنية الداخلية للبورجوازية وآليات التراكم الرأسمالي فيها، وانعكس بأشكال معقّدة على السياسات الاقتصادية عموماً، وعلى مسار تطوّر الإنفاق العام بالتحديد. وخلال الحقبة الأخيرة، تمخّضت تداعيات النمط الاقتصادي الريعي عن تحوّلات عميقة في بنية الإنفاق العام وأبرزها:
• ارتفاع غير مسيطر عليه في الإنفاق العام الجاري، بعد ترسّخ آليات المحاصصة والهدر والفساد في صفوف أطراف الحكم.
• احتلال عجز قطاع الكهرباء موقع الصدارة في الإنفاق العام، نظراً إلى اعتبارات مصلحية وزبائنية واحتكارية تتمثّل باستيراد الفيول والمشتقّات البترولية، وانتشار وتعميم استيراد واستهلاك المولّدات، فضلاً عن العراقيل المصطنعة التي اعترت أعمال التحقّق والفوترة والجباية، وترافقت مع هدر تقني وسياسي كبير.
• استسهال اللجوء إلى تمويل جزء متزايد من الإنفاق الجاري عبر الاقتراض، كرافعة لنموذج اقتصادي ريعي يشجّع على استقطاب التحويلات ورؤوس الأموال والودائع من الخارج لتمويل التوسّع في الاستهلاك العام والخاص. فبلغ نصيب الفرد من الدين الحكومي أكثر من 20 ألف دولار في نهاية 2018. في حين وصلت المديونية الإجمالية للدولة والقطاع الخاص والأسر إلى 200 مليار دولار، أي أكثر من 375% من مجمل الناتج المحلّي.
• ترسّخ النظرة الدونية للاستثمار العام الرأسمالي منذ أواخر التسعينيات، حيث بلغ نحو 1% من الناتج المحلّي وأقل من 8% من إجمالي النفقات العامّة خلال أكثر من ربع قرن، ما أدّى إلى انهيار المرفق العام بالتزامن مع ارتفاع عدد المقيمين نحو مرتين خلال العقود الأربعة المنصرمة.
• التراجع التدرّجي لدور الدولة الأساسي كمنتج مباشر للخدمة العامة، واتجاهها نحو الاكتفاء بالتمويل الجزئي لهذه الخدمة التي تحوّل إنتاجها فعلياً إلى القطاع الخاص، وسط خلل فظيع في أعمال الضبط والرقابة من جانب الدولة
ما العمل؟ إن معالجة هذه المشكلات يتطلّب إجراء تعديلات جذريّة ومتزامنة في بنية الإيرادات الضريبية وبنية النفقات العامة في آن معاً. وبالإضافة إلى ما عرضه الدكتور جورج قرم، أشير إلى مسألتين مكمّلتين: أوّلاً، ضرورة فرض ضريبة تصاعدية على فوائد الودائع المصرفية، في بلد يستحوذ فيه 1% من مجمل الحسابات المصرفية على 52% من مجمل الودائع، مع ما يتطلّبه ذلك من تعديلات على قانون السرّية المصرفية بغية تجميع حسابات الشخص الواحد المتعدّدة في حساب واحد، الأمر الذي يوفّر للدولة دخلاً إضافياً لا يقلّ عن مليار دولار؛ ثانياً، ضرورة التفاوض الجادّ والمسؤول مع المصارف حول اقتطاع استثنائي لنسبة وازنة من أرباحها لفترة تتراوح بين 3 و5 سنوات، بما يعزّز فرص تجنّب الانهيار المالي والاقتصادي (فرضيات «قصّ الشعر»)، ويخدم فعلياً ليس فقط استقرار البلد، بل كذلك مصلحة المصارف في المدى المتوسّط والبعيد.
أمّا في مجال إعادة هيكلة النفقات العامّة، فإن رزمة إجراءات يجب أن توضع موضع التنفيذ، وأبرزها:
• الشروع فوراً في حلّ مشكلة قطاع الكهرباء عبر جدول زمني صارم يشمل تأهيل وتشييد المصانع، وتأمين الاستقلالية الإدارية والمالية لمؤسّسة الكهرباء واستكمال جهازها البشري (50% وظائف شاغرة)، والالتزام بمعالجة الهدر التقني وغير التقني، وتحسين الجباية ووقف التعدّيات على الشبكة، واعتماد تعرفة تصاعدية دعماً للفئات المحتاجة وبالتزامن مع ازدياد ساعات التغذية.
• إلغاء تعويضات الرؤساء والنواب السابقين، وتقليص مخصّصات وتعويضات النواب والوزراء الحاليين، بما في ذلك التقديمات التي يستفيدون منها. وإعادة النظر في أجور موظّفي الفئتين الأولى والثانية في المصالح المستقّلة والمؤسّسات العامة ومصرف لبنان وكبار الضباط، خصوصاً أن رواتب وتعويضات هذه الفئة من العاملين باتت تتراوح بين 20 و75 ضعف الحدّ الأدنى للأجور، في مقابل سقف أعلى لا يتجاوز 9 أضعاف في بلدان الاتحاد الأوروبي. وكذلك ضبط (بل إلغاء) الزيادات السنوية التي تجريها بعض المصالح المستقلّة والمؤسّسات العامة على أجور العاملين فيها، وما يرافقها من تعويضات استثنائية وامتيازات، فضلاً عن حصر تطبيق التدبير رقم 3 الخاص بالقوات المسلّحة في أضيق نطاق.
• إغلاق وتصفية صندوقي الجنوب والمهجّرين وإعادة هيلكة الهيئة العليا للإغاثة وتحديد مهامها بشكل دقيق، ووضع كشف وتقييم مفصّلين لأوضاع المؤسّسات العامة المرتبطة برئاسة مجلس الوزراء، تمهيداً لاختصارها أو دمجها أو إلغائها تبعاً لمقتضيات تحقيق الفعالية الاقتصادية والحدّ من الهدر.
• حصر كلّ أنواع التوظيف في الإدارات والمؤسّسات العامة والمجالس على اختلافها بمجلس الخدمة المدنية.
• إعادة النظر في منح تعليم أبناء الموظّفين في القطاع العام (نحو 350 مليون دولار عام 2018) التي تحكمها معايير متفاوتة وفق الإدارات والأسلاك، وإلغاء التعليم الخاصّ المجاني الذي يضمّ نحو 100 ألف تلميذ لصالح دمجهم في التعليم الرسمي.
إن هذه الرزمة من الإجراءات – المطلوب تزامنها على جانبي الإيرادات الضريبية والنفقات العامة – من شأنها أن تخلق وفورات مالية للدولة تمكّنها ليس فقط من الضبط المتدرّج للعجز المالي، بل كذلك من استعادة وظائفها الأساسية خصوصاً في المجال الاجتماعي، بما يشمل توفير التغطية الصحّية الشاملة للبنانيين المقيمين وتحسين نوعية التعليم الرسمي وإنشاء نظام عادل للتقاعد في القطاع الخاص.


الاقتصاد الجديد المفترض بناؤه

غسان ديبة
* اقتصادي، رئيس قسم العلوم الاقتصادية في الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU)

تُسرد أساطير عدّة عن الاقتصاد اللبناني، معظمها يتحدّت عن مآثر القطاع الخاص وكفاءته بالمقارنة مع الدولة، لتبرير الخصخصة. فهل صحيح أن القطاع الخاص كفوء وفعّال؟
الإجابة الصريحة تأتي من المنتدى الاقتصادي العالمي وتقريره الأخير حول تنافسية القطاعات الاقتصادية في مختلف بلدان العالم، والذي يبيّن أن لبنان احتلّ الموقع الأخير بين البلدان العربية والمرتبة 105 في العالم. وبالنظر إلى المؤشّرات التي أثّرت على ترتيب لبنان، يظهر أنه يحتلّ المرتبة 109 في كفاءة سوق العمل، و105 في الاستعمال الكفوء للمواهب، و128 في مشاركة الإناث في النشاط الاقتصادي. كما احتلّ المرتبة 108 في توفر أحدث التكنولوجيات، والمرتبة 122 في الاستثمار المباشر ونقل التكنولوجيا.
وفي التقرير نفسه الذي يتحدّث عن تراجع تنافسية الاقتصاد اللبناني وكفاءته، يظهر أن لبنان يحتلّ المرتبة الرابعة لناحية التخصّص بالعلوم والمرتبة 15 بتخريج العلماء والمهندسين. أمّا التفسير لهذه الحلقة المفقودة فهو القطاع الخاص الذي يبدّد هذه المواهب، وهذا الاقتصاد الذي لا ينتج الوظائف ولا يتماهى مع درجة التقدّم العلمي والتكنولوجيا.


يضاف إلى مراتب لبنان المتدنية في مؤشّرات التنافسية العالمية، تقرير للبنك الدولي حول الحوكمة الطائفية وتقرير مايلز، اللذان يشيران إلى أن لبنان يبدّد قدراته الإنتاجية ويخلق اقتصاداً متدني الإنتاجية وأن حوكمته الطائفية تبدّد المواهب فيه. هذه التقارير والمؤشّرات الصادرة عن المؤسّسات الدولية تدحض كلّ الأساطير حول كفاءة القطاع الخاص ونجاحه في لبنان، وأكثر من ذلك، تبيّن الدور السامّ لبنية الاقتصاد الرأسمالي الذي أنتج كلّ هذه الظواهر بشكل أساسي.
اليوم يتمّ الحديث في ماكنزي، وفي الكثير من الخطط التي سبقتها، عن الحاجة إلى تحويل الاقتصاد اللبناني من ريعي إلى إنتاجي، ولكن من دون التطرّق إلى الآليات المُفترض اتباعها لتحقيق هذا الانتقال.
إن التحوّل إلى اقتصاد مغاير غير ريعي لا يتحقّق إلّا بتهميش الاقتصاد الريعي نفسه، الذي يشكّل الأساس في تراجع القطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة واقتصاد المعرفة.
في الواقع، وعلى مدار سنوات طويلة، بُني الاقتصاد اللبناني على سيطرة النقد، وهو ما خلق عدم تناظر بين الدولة والقطاع الخاص على مستوى الملاءة المالية نتيجة مسار طويل من تراكم رأس المال المالي، ممتدّ منذ تسعينيات القرن الماض، وآتٍ من تراجع القدرة المالية للدولة وخلق أزماتها المتتالية. من هنا، لم يعد بإمكان الاقتصاد الحالي التحوّل أتوماتيكياً من ريعي إلى إنتاجي من دون تدخّل الدولة لتفكيك هذا النموذج وخلق العائدات المرتفعة على القطاعات الإنتاجية، وتفكيك الاحتكارات الموجودة في القطاع الخاص بدلاً من نقلها إلى القطاع العام عبر مشاريع الشراكة والخصخصة.
عملياً، يتطلّب تحويل الاقتصاد من ريعي إلى إنتاجي، سياسات صناعية راديكالية، وهذا ما حصل في بلدان كثيرة دخلت في عمليات التصنيع السريعة مثل كوريا الجنوبية وروسيا. إلّا أن ذلك لا يعتمد فقط على تحفيز القطاعات الإنتاجية من خلال الضرائب المنخفضة والدعم الحكومي، بل يقتضي أيضاً تحويل الموارد من قطاع نريده أن يضمر (يشكّل القطاع المصرفي نحو 325% من مجمل الناتج المحلّي) إلى قطاع نريده أن ينمو (تشكّل الزراعة 3% من الناتج المحلّي والصناعة 9% من الناتج). أي بمعنى آخر، استغلال القطاع الريعي، عبر النظام الضريبي، لزيادة موارد الدولة. أو نقل موارد هذا القطاع إلى القطاع العام والإنتاجي ووضع سياسات وأسعار تعطي أولوية للقطاع الإنتاجي.
وهنا يجب الانتهاء من الوهم المالي والتخلّي عن فكرة «المركز المالي للبنان»، خصوصاً أنه دور انتهى بعد الحرب، وتحوّل إلى مجرّد دوّامة مالية، لم تقم سوى بالمحافظة على النظام القائم (الترابط بين المصارف والدولة) وتعميق الأزمة الاقتصادية والأزمة المالية للدولة.
كما علينا أن نرى العواقب السياسية للاقتصاد الذي بُني بعد الحرب. يقول داني رودريغ، الاقتصادي في جامعة هارفرد: «إن العواقب السياسية الناتجة عن انحسار التصنيع قد تكون غير واضحة للوهلة الأولى، إلّا أن أهمّيتها كبيرة. فالأحزاب السياسية الجماهيرية كانت نتاجاً جانبياً للتصنيع، والسياسة ستبدو مختلفة عندما ينظّم الإنتاج الحضري في شكل كبير حول الطابع غير النظامي عبر انتشار المؤسّسات الصغيرة والخدمات الثانوية. في هذا الوضع يصبح من الصعب للمجموعات غير النخبوية أن تحدّد مصالحها المشتركة، فيما يواجه التنظيم السياسي عقبات أكبر، وتهيمن الهويات الشخصية والعرقية على السياسة بدلاً من التضامن الطبقي».
هذا تماماً ما يحصل في لبنان. إن نظام الطائف، وعلى الرغم من كونه أكثر عدالة من نظام ما قبل الحرب، إلّا أنه أسوأ اقتصادياً، بدليل تراجع حصّة الأجور من الناتج المحلّي من 50% إلى 28%، في مقابل تركّز رأس المال المالي وتضخّم القطاع المصرفي إلى نحو 325% من الناتج المحلّي. وتراجع كفاءة الدولة وضعفها نتيجة المحاصصة المذهبية والطائفية وتقلّص دورها في تقديم الخدمات العامة. هذا النظام غير مستقرّ، على الرغم من كلّ الدعايات المغايرة. فكلّما ازدادت قوّة رأس المال كلّما ازداد اهتراء الدولة. وهذا تماماً ما يحصل اليوم. لقد بدأ تفكّك الترويكا (المصارف ومصرف لبنان والدولة)، وهذا يفسّر اللجوء إلى سيدر كخطوة يائسة لا أكثر، للإنقاذ المالي وإنقاذ نموذج المحاصصة الطائفية وسيطرة رأس المال المالي، وهي خطوة شبيهة بالخطط الإنقاذية التي سبقتها، وطبعاً هي لا تمّت بصلة إلى أي خطّة لإعادة بناء الاقتصاد اللبناني أو تطويره وتحسين بنيته التحتية.