إذا كان التضخّم وتخفيض سعر صرف الليرة لا يصبّ في مصلحة رأس المال والعمّال. وإذا كان التقشّف في الإنفاق العام يضرّ ولا ينفع، ويتسبّب بالمزيد من الآلام للفئات الاجتماعية التي تحتاج إلى خدمات الدولة ووظائفها وتحويلاتها. وإذا كانت خصخصة الأصول العامّة لا تكفي لتسديد الدَّين المتراكم، وتؤدّي إلى تخفيض الإيرادات العامّة، ولا تفيد إلّا أولئك الذين لديهم القدرة على شرائها واستثمارها، وهم أنفسهم الذين أقرضوا الدولة وجنوا الفوائد ولم يدفعوا الضرائب. وإذا كانت الشراكات مع القطاع الخاص ليست إلّا طريقة لإخفاء تراكم الدين الفعلي، وطريقة لنقل الكلفة من الموازنة العامّة إلى ميزانيات الأسر... إذا كانت كلّ هذه الوسائل سيكون لها وقع سيئ وسلبي، ويترتّب عليها أكلاف وخسائر أكثر مما تنطوي على حلول. فماذا يتبقى من وسائل لإجراء خفض كبير على قيمة الدَّين الحكومي القائم في لبنان؟ وهل يجب أن يجري هذا الخفض لأسباب محاسبية تهدف إلى تحقيق استدامة الدَّين نفسه؟ أم يجب أن يكون الأداة الرئيسة لتحويل الموارد اللازمة من أجل تمويل عملية تغيير النموذج الاقتصادي القائم؟ في الواقع، ومهما اجتهدت الماكينة الإعلامية في شيطنة طرح إعادة هيكلة الدَّين العام وتصويره كأحد الشرور المُطلقة، لا توجد طريقة أخرى للتخلّص من دَيْن كبير إلّا عبر شطبه أو شطب أجزاء منه، إلّا أن هذه العملية يمكن أن تأخذ أشكالاً مختلفة ومتنوّعة، ويمكن أن تكون مباشرة أو غير مباشرة، جبرية أو طوعية، وتتضمّن مزيجاً من وسائل عدّة ومختلفة، بما في ذلك الاقتطاع الضريبي الاستثنائي من الثروة أو رأس المال، فهذه الوسيلة، أي فرض الضريبة الاستثنائية لمرّة واحدة لاستخدام إيراداتها في شطب جزء من الدَّين العام، تعالج الكثير من المخاوف التي ترافق عادة طرح وسائل «قصّ الشعر» الأخرى، فهي تتفادى تعريض المصارف كمؤسّسات للضرر الكبير، وتوزّع الكلفة على المستفيدين النهائيين كأفراد، أي تقتطع من ثروات كبار المودعين والمستحوذين على أسهم الملكيّة والسندات، التي تراكمت في ربع القرن الأخير بفعل السياسة النقدية. ولذلك على هذه الضريبة أن تكون تصاعدية ولا تصيب صغار المودعين وصغار المساهمين، كأن تُعفى الودائع دون 200 ألف دولار على سبيل المثال.
طبعاً، يرتبط تحديد معدّل هذه الضريبة الاستثنائية بالأهداف التي تضعها الحكومة: إلى أي مستوى تريد تخفيض الدَّين؟ كما يرتبط بتركيبة الدَّين الحكومي.
أوّلاً، ينقسم دَيْن الحكومة بين دَيْن بالعملة المحلّية (58%) ودَيْن بالعملات الأجنبية (42%). إلّا أن 89% من مجمل هذا الدَّين هو محلّي، أي أن الدائنين هم مؤسّسات وأفراد مقيمون في لبنان، في حين أن 11% فقط من الدَّين يحمله غير المقيمين (3% قروض مُيسّرة من مؤسّسات ودول و8% صناديق وأفراد أجانب يستثمرون في سندات اليوروبوندز).
على عكس الشائع، تُعدُّ هذه التركيبة ملائمة لإجراء عملية إعادة الهيكلة، كونها لا تستدعي سوى ترتيبات محلّية بين عدد قليل جدّاً من الدائنين، وهي معزولة عن الشروط الخارجية، فلا حاجة إلى «نادي باريس» أو «نادي لندن»، ولا إلى برنامج مع صندوق النقد الدولي أو وصاية «ترويكا» كما في حال اليونان.
ثانياً، يحمل مصرف لبنان وحده، وهو بنك الدولة، أكثر من ثلث مجمل الدَّين المترتِّب على الحكومة، أي نحو 29 مليار دولار ويُرتِّب على الموازنة العامّة مدفوعات فائدة تصل إلى أكثر من 2.1 مليار دولار سنوياً، وبالتالي يمكن للحكومة أن تدخل في ترتيبات خاصّة مع البنك المركزي للتخلّص من هذا الجزء من الدَّين تدرّجياً، بموازاة تغيير السياسة النقدية التي تقوم على استخدام الدَّين العام والفوائد المرتفعة والهندسات المالية كأدوات لتثبيت سعر صرف الليرة وضخّ الأرباح في ميزانيات المصارف ودعم الفوائد على الودائع والتسليفات.
بالإضافة إلى مصرف لبنان، تحمل المؤسّسات العامّة (الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومؤسّسة ضمان الودائع تحديداً) نحو 7.5% من مجمل الدَّين الحكومي. وهذا يعني أن 41% أو أكثر من 35 مليار دولار من أصل الدَّين الحكومي القائم في نهاية عام 2018 مصدره دائنون من الدولة نفسها، ولا تحتاج عملية شطب هذا الجزء المهمّ من الدَّين أي ترتيبات خارج الدولة نفسها، ما عدا طبعاً ربط العملية بسياسات نقدية ومصرفية بديلة واتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية أموال المضمونين الموظّفة في سندات الخزينة.
ثالثاً، إن الدائن الأكبر الثاني للحكومة هو المصارف، التي تحمل نحو 40% من مجمل الدَّين العام الحكومي، أو نحو 34 مليار دولار.
إذاً، يوجد دائنان اثنان كبيران للحكومة (الدولة نفسها وكارتيل المصارف) يحملان وحدهما نحو 81% من مجمل الدَّين، وتتداخل حسابات هذين الدائنين وتتشابك وتترابط حتّى باتا بمنزلة الكارتيل الواحد. حالياً، تقرض المصارف مصرف لبنان نحو 116 مليار دولار وهو يقرضها نحو 34 مليار دولار، وهما معاً يقرضان الحكومة 63 مليار دولار. علماً أن القطاع العام يضع ودائع لدى مصرف لبنان والمصارف تقدّر بنحو 9 مليارات دولار.
رابعاً، إذا تمّ حسم ودائع القطاع العام والدين الحكومي الذي يحمله مصرف لبنان والمؤسّسات العامة والقروض المُيسّرة من الدول والمؤسّسات الأجنبية، فهذا يعني أن أكثر من 46 مليار دولار، أي أكثر من نصف الدَّين الحكومي القائم، قابلة لإعادة الهيكلة بسهولة بقرار أحادي والتخلّص من الفوائد عليها، ويبقى نحو 39 مليار دولار يمكن التفاوض على إعادة هيكلتها مع المصارف وشطب جزء منها عبر الاقتطاع الضريبي الاستثنائي، لتحميل المستفيدين النهائيين قسطهم من الكلفة.
لقد تراكم رأس المال المصرفي في لبنان بوتيرة غير مسبوقة، وارتفع في 25 سنة من أقل من 150 مليون دولار إلى أكثر من 20 مليار دولار. ويوجد في المصارف نحو 180 مليار دولار كودائع للزبائن. هذا التراكم تحقّق عبر دورة تنامي الدَّين العام تحديداً. فالمصارف توظّف الآن نحو 150 مليار دولار من موجوداتها في ديون الدولة (ديون الحكومة+ديون مصرف لبنان)، وهذه التوظيفات تدرّ لها فوائد من المال العام لا تقلّ عن 9 مليارات دولار سنوياً، كإيرادات مُتكرّرة من دون احتساب الإيرادات الاستثنائية الناتجة من الهندسات المالية. ففي عام 2016 فقط حقّقت المصارف ومودعوها أرباحاً استثنائية بقيمة 5.6 مليار دولار عبر هذه الهندسات.
هذه الحلقة المالية، التي يتحكّم بها كارتيل واحد، درّت على المصارف إيرادات من الفوائد بلغت أكثر من 85 مليار دولار في السنوات العشر الأخيرة (2008-2017)، وأعيد ضخّ نحو 57 مليار دولار منها كفوائد إلى المودعين. وقد يكون مفيداً التذكير أن أقل من 8% من حسابات المودعين فيها أكثر من 85% من الودائع، علماً أن 0.8% فقط من هذه الحسابات تستأثر وحدها بنحو 52% من الودائع، في حين أن 60% من مجمل الحسابات لا تحتوي إلّا على 0.6% من الودائع. ما يعني أن هذه الكتلة الضخمة من الفوائد المُتحقّقة بمعظمها من المال العام أعيد توزيعها على عدد قليل جدّاً من مالكي أسهم المصارف وكبار المودعين فيها.
الخلاصة، أن لا صحّة لأيّ كلام عن أن إعادة هيكلة الدَّين العام في لبنان غير مُمكنة وتؤدّي إلى انهيار القطاع المصرفي. توجد وسائل كثيرة لتخفيض الدَّين لا تثير مثل هذا الذعر المصرفي. إلّا أن المسألة لا تكمن في التقنيات وتوافرها بل في الخيارات وميزان القوى الذي يتحكّم بها.