«أعتقد أن نظامنا الضريبي يجب أن يكون أكثر تصاعدية، بحيث يدفع الأثرياء حصّة أكبر (...) لقد دفعت حتّى الآن عشرة مليارات دولار ضرائبَ، وكان يجب أن أدفع أكثر»بيل غيتس

الأمور أصبحت واضحة، على الأقل في الولايات المتّحدة، وهي أن التجربة الاجتماعية التي طُبقت في الثلاثين سنة الماضية يجب أن تنتهي، وإحدى طرائق إنهائها زيادة الضرائب على الدخل والثروة التي يتصاعد تركّزها. في مقالة نُشرت الأسبوع الماضي في «واشنطن بوست»، اعتُبِر أن عدم المساواة يزداد بسرعة أكثر من استطاعة المعطيات اللحاق به. في هذا الإطار، تتزايد الدعوات والتأييد من الشعب الأميركي لزيادة الضرائب التصاعدية على الدخل، كما وضع الضريبة على الثروة. فمشروع المرشّحة للرئاسة الأميركية إليزابيت وارن، الذي يقترح وضع ضريبة 2% سنوياً على ثروة الأفراد التي تفوق 50 مليون دولار، و3% على الثروة التي تفوق مليار دولار، بات يحظى بتأييد 61% من الأميركيين. في هذا المشروع، إن أي أميركي يملك ثروة صافية بقيمة مئة مليون دولار مثلاً، سيدفع سنوياً مليون دولار ضريبة على هذه الثروة، بالإضافة إلى الضرائب على الدخل المُحقّق. كذلك، دعت وارن وغيرها إلى إعادة النظر في ضريبة الإرث في الولايات المتّحدة، وذلك بعد أن رفع قانون ترامب عام 2017 القيمة المُعفاة من الـestate من 11 مليون دولار إلى 22 مليوناً، ما جعل فقط واحداً من ألف أسرة أميركية يخضع لهذه الضريبة.

أنجل بوليغان المكسيك

طبعاً، تأتي هذه الدعوات في الولايات المتّحدة لأن تركّز الثروة في الثلاثين سنة الماضية ازداد بنحو لم يعد بالإمكان التغاضي عنه، حيث أصبح 1% يسيطرون على 40% من الثروة، كذلك فإن الرأسمالية الأميركية تتحوّل إلى رأسمالية باترمونية، حيث 40% من الثروة موروثة. بالتالي إن وضع ضرائب على الثروة والإرث أساسي، ليس فقط في زيادة واردات الدولة، بل من أجل كبح جماح تسارع عدم المساواة.
والجدير بالذكر، أن عدم المساواة أصبح جزءاً من الاقتصاد السياسي الأميركي، حيث إن المدافعين عن الوضع الحالي لا يدافعون عن «نظام ليبرالي» أو «اقتصاد حرّ»، بل يدافعون عن مصالح طبقة أقلّية تهمّش الأكثرية اقتصادياً، وتهدّد الطبقة الوسطى الأميركية بنهاية من دون رجعة، بعد أن كانت هذه الطبقة تستطيع أن تمتلك بيتاً من دون دَيْن، وأن تدّخر، وأن ترسل أولادها إلى الجامعات... وهذا ما أصبح للكثيرين أمراً من الماضي.
كذلك إن تركّز الثروة له مفاعيل سياسية خطيرة من ناحية فكّ الارتباط المُستحدث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بين الرأسمالية والديموقراطية. في هذا الإطار، إن الدعوة إلى ضرائب أعلى هي أساسية من أجل منع تحوّل التركّز في الثروة إلى سلطة سياسية للأثرياء، كان قد حذّر منها جوزيف ستيغلتز في كتابه حول «كلفة المساواة». لذلك نرى أن البعض شنّ هجوماً عنيفاً على ألكسندريا كورتيز، والآن يشنّ حرباً على السناتورة وارن، إذ تُتَّهَم الأخيرة بأن طروحاتها ليست إلّا استعادة لسياسات ستالين بـ«تصفية الكولاكيين كطبقة»، وفق مقالة نشرت أخيراً في مجلّة «ناشونال ريفيو» اليمينية.

لماذا ضريبة الثروة في لبنان؟
إذا كان وضع الضريبة على الثروة أمراً مُلِحّاً برأي أكثرية الأميركيين، فماذا عن لبنان؟ الأمر في لبنان أكثر إلحاحاً لأسباب عدّة، وأوّلها في المدى القصير، الأزمة المالية للدولة اللبنانية. فإذا سلّمنا جدلاً مع مؤتمر «سيدر» بأن لبنان بحاجة إلى خفض 1% من عجز الخزينة سنوياً، لمدّة خمس سنوات، وإذا أخذنا الحالة المُهترِئة للاستثمار العام والإنفاق الاجتماعي، نرى أن الدولة بحاجة إلى موارد كبيرة في السنوات الخمس المُقبلة، في حين أن الاقتطاع الضريبي الحالي البالغ نحو 15% من الناتج المحلّي لن يكفي. كذلك فإن التقشّف والاستدانة الإضافية ورفع الضرائب على الاستهلاك، أمور جُرّبت كلّها في السابق (في موضوع التقشّف مثلاً، حقّق الحساب الأوّلي فوائض لسنوات عدّة منذ 2007 حتّى الآن)، ويجب ألّا تكون السبيل لحلّ الأزمة المالية للدولة.
ثانياً، ترَكُّز الثروة في لبنان عالٍ، إذ يبلغ معامل جيني 88.9 (0 يعني مساواة كاملة و100 تعني عدم مساواة كاملة)، وتبلغ نسبة البالغين الذين لديهم ثروة أكثر من مليون دولار 0.3% فقط، وفق تقرير الثروة العالمي لعام 2018 الصادر عن «كريدي سويس». أمّا الأهمّ، فهو تحوّل ترَكُّز الثروة وارتفاع حصّة الرأسمال من الناتج المحلّي إلى عملية تراكمية في الاقتصاد اللبناني منذ عام 1993، حيث العوائد على الرأسمال كانت أعلى من النموّ الاقتصادي بنحو مستمرّ، وهي مرشّحة للاستمرار، وبالتالي إن عملية التراكم والترَكُّز ستستمرّ بحيث يتّجه المجتمع، أكثر فأكثر، إلى الاستقطاب الحادّ وإلى ظهور سلالات ثرية، معظم ثروتها ودخلها متفلّت من الضرائب أو يخضع لضرائب متدنّية جدّاً. وبسبب هذه العلاقة بين العوائد والنموّ، يصبح من الصعب إيجاد علاقة بين الثروة والابتكار والمهارات والجدارة والعلم في لبنان، بعد أن بات الاستحواذ على الثروة مُترابطاً مع الإرث والاحتكار والريع والريع السياسي والفساد المُنظّم والعلاقة بين القطاع الخاص والشبكات السياسية.
ثالثاً، السلطة السياسية منذ الطائف حتى الآن، كانت في معظمها، سلطة مُسيطر عليها من قبل الرأسمال وأصحاب الثروات العالية، كذلك إن سياسات الحكومات منذ 1992 عكست هذه السيطرة، وما الحكومة الأخيرة إلّا مثال على ذلك، ويبدو أنها أيضاً الشكل المُتطرّف لهذه السيطرة.

الضريبة على الثروة الآن
حالياً في لبنان، تقتصر الضريبة على الثروة على بعض الضرائب العقارية وعلى ضريبة الإرث (أو الانتقال)، بينما لا ضرائب مباشرة تذكر على مكامن الثروة الأخرى. وإحدى أهمّ سلبيات هذه الضرائب أنها تراجعية بشكل كبير، تطاول الثري والمتوسّط والفقير من دون أي تفرقة في غالبية الأحيان. فإذا أخذنا مثلاً ضريبة التسجيل العقاري (باعتبارها ضريبة مرّة واحدة على الثروة) فإنها تبلغ 6% من دون أيّ إعفاءات (ما عدا للمقترضين من المؤسّسة العامّة للإسكان). والمهمّ أيضاً أن هذه الضرائب لا تأخذ بالاعتبار أن المُكلَّف قد يكون مديناً، أي إن ثروته الصافية أقل من قيمة العقار أو حتى قد تكون سلبية (مثلاً، الذي اشترى منزلاً بواسطة قرض يوازي تقريباً سعر المنزل يدفع 6% أيضاً مثله مثل الثري الذي يشتري منزلاً بعشرة ملايين دولار نقداً). كذلك إن ضريبة الانتقال (تسمّى رسماً للتعمية على كونها ضريبة) هي تصاعدية شكليّاً فقط؛ فمثلاً يدفع المنتمي إلى الطبقة المتوسّطة ضريبة تبلغ 10% على الإرث المُقدّر بـ100 مليون ليرة، بينما تُدفع ضريبة 12% ابتداءً من 200 مليون وما فوق، أي إن أيّ وريث مليونيري يدفع 12% على ثروته البالغة مثلاً 200 مليون دولار، وكذلك المنتمي إلى الطبقة المتوسّطة على ثروته البالغة 200 مليون ليرة لبنانية! وبالتالي الضريبة على الثروة اليوم سيّئة من ناحيتين: فهي لا تطال إلّا النَّزر اليسير من الثروة، وثانياً، إنها تصيب أصحاب الثروات المتدنّية (وحتى السلبية) أكثر ممّا تصيب أصحاب الثروات العالية!

نحو ضريبة فعلية على الثروة والإرث
إذا افترضنا أن الثروة تبلغ 7 مرّات الناتج المحلّي في لبنان، مثل البلدان الرأسمالية عشية القرن العشرين، وفق توماس بيكيتي، فإن تقدير الثروة يكون نحو 375 مليار دولار. ووفق تقرير «كريدي سويس»، إن الثروة الإجمالية في لبنان تبلغ نحو 140 مليار دولار، وإذا أخذنا في الاعتبار ثروات اللبنانيين في الخارج وأنواع الثروة التي يمكن وضع الضرائب عليها، كالودائع في المصارف للبنانيين، والثروة العقارية، وملكية السندات والأصول الأخرى، والأسهم في بورصة بيروت، والحسابات والملكيّات الخارجية للبنانيين (من ضمنها تلك الموضوعة في المخابئ الضريبية)، يمكننا القول، وبحساب مُحافظ، إن ثروة اللبنانيين التي يمكن أن تخضع للضريبة تتجاوز 200 مليار دولار أميركي.
يمكننا في هذا الإطار وضع ضريبة 2% على الثروة الصافية فوق المليون دولار، ما يطاول أساساً نحو 12 ألفاً وخمسمئة شخص (0.3% من البالغين وفق تقرير الثروة العالمي). كذلك إن الضريبة على الإرث يجب أن تُعَدل وتُوضع ضريبة مُسطّحة تبلغ 45% (نعم خمسة وأربعين في المئة)، مع إعفاء حتى 1 مليون دولار، ما يعني إعفاء الأكثرية الساحقة من اللبنانيين من هذه الضريبة وتخليصهم من عبئها المالي والإداري، ووضع الضريبة فعلياً على الذين تزيد ثرواتهم الموروثة عن مليون دولار، ما يؤمن مداخيل للدولة ويُخفّف من تَكَوّن السلالات الثرية عبر التوريث.
في اجتماعات دافوس الأخيرة، قال المؤرّخ الهولندي روتجر برجمان، صاحب كتاب «اليوتوبيا للواقعيين»، في أحد النقاشات عن سبل حلّ معضلة عدم المساواة: «الضرائب، الضرائب ثمّ الضرائب، كل شي آخر هو هراء». أمّا نحن في لبنان، فحاولنا أن نبني جنّة ضريبية انتهت بكونها جنّة لأصحاب الدخل العالي وللأثرياء وطبقة الـ1% فقط، ولم يزد في المقابل الاستثمار، ولم تُبنَ رأسمالية متطوّرة، بل انتهينا إلى رأسمالية ريعية متخلّفة تمثّلها أرستقراطية مالية. والأسوأ من كلّ ذلك، أن لا أحد من المنتمين إلى هذه الأرستقراطية يمتلك الحدّ الأدنى من المسؤولية الاجتماعية كي يقول ما قاله بيل غيتس.