«الوظيفة الحقيقية للاقتصاديين هي تطوير بدائل للسياسات القائمة لتبقى على قيد الحياة ومتاحة، ويصبح المستحيل سياسياً لا مفرّ منه سياسياً»ميلتون فريدمان

في 23 كانون الثاني/ يناير الماضي، رفع «الفريق الاقتصادي» في جمعية مصارف لبنان مذكّرة إلى مجلس الإدارة، تحت عنوان «قراءة في الوضع المالي الحالي والاتجاهات الاقتصادية»، حثّ فيها على تبنّي سياسات «الهبوط الآمن» أو الـsoft landing، التي يجري تعريفها في الأدبيات الشائعة بأنها سياسات مالية ونقدية، تتجنّب الانكماش القوي عبر «تدخّل الدولة».
أعدّ هذه المذكّرة، التي لم تحمل أي توقيع، أعضاء من لجنة الدراسات في الجمعية، التي تضمّ عدداً من «الخبراء الاقتصاديين» العاملين لدى المصارف التجارية، بمشاركة الأمين العام للجمعية مكرم صادر، الذي نشر بدوره مقالاً في النشرة الشهرية الأخيرة الصادرة عن الجمعية، تحت عنوان مثير: «انتهى زمن العلاج بالمُسكِّنات، فكيف يكون إذاً!»، وتناول فيه ما ورد في المذكّرة عن «مكافحة الهدر» و«برنامج سيدر»، وقدّمه بديلاً للطروحات «الاعتباطية والشعبوية»، وفق وصفه، الداعية إلى «أي شكل من أشكال إلغاء الدَّيْن العام قسراً».
على الرغم من أن مسألة إلغاء الدَّيْن أو «قصّ الشعر» لم تتناولها المذكّرة كما تناولها مقال صادر، إلّا أنها حذّرت من أن «استدامة الدَّيْن العام على المدى الطويل قد تُطرح جدّياً»، ورأت أن «إدارة المخاطر في المدى القريب لا تزال قابلة للاحتواء»، لكن بشرط «العمل على تخفيض الإنفاق من قِبل القطاع العام ومن قِبل القطاع الخاص على حدّ سواء»، أي الدَّفع نحو سياسات حكومية تضبط عجز المالية العامّة، وتحدّ من استهلاك الأسر للسلع المُستوردة، وتوجِّه الدعم نحو تصدير السلع والخدمات.
قد تبدو هذه «الوصفة» جيّدة أو بديهية، أو قد يعتبرها البعض ضرورية ومُلحّة في مواجهة أزمة التمويل التي يرزح تحتها النموذج الاقتصادي اللبناني، ولكنّها في النهاية ليست إلّا وصفة «التقشّف» المُعتادة والرائجة في كلّ مكان، والتي تدور حولها صراعات وتنفجر بسببها حركات احتجاج وتقوم حكومات وتسقط. فمهما غُلِّفَت هذه «الوصفة» بالأوصاف المُنمَّقة أو العبارات التحريضية ضدّ الفساد والهدر وسوء الإدارة والإسراف وانعدام المسؤولية، فإن غرضها الفعلي الدائم تحميل القطاع العام وِزر إنقاذ القطاع الخاص، ولا سيّما المصارف، ولو على حساب القدرة الشرائية لما يُسمّى «الطبقات الوسطى»، التي يبذل السياسيون جهوداً لاستمالتها وشراء ولاءاتها.
وفق التعبير الذي استخدمه ميلتون فريدمان، أحد آباء النيوليبرالية، إن مهمّة الخبراء الاقتصاديين هي جعل هذا المستحيل سياسياً، تخفيض القدرة الشرائية، أمراً لا مفرّ منه. وهذا تماماً ما تجسّده المذكّرة عبر «إيجاد البدائل للسياسات القائمة لتبقى على قيد الحياة ومتاحة»، من دون الاضطرار إلى إلغاء أي جزء من الدَّيْن العام أو فوائده ومن دون الاضطرار إلى زيادة الضرائب، ولا سيّما على الدخل والثروة. لذلك، تنصح المصرفيين، بوصفهم القوّة السياسية للمصالح المالية المطلوب حمايتها والمحافظة عليها، صياغة بدائل أكثر قبولاً في إطار «وصفة التقشّف» المطروحة، وبما يستجيب لما يُروَّج تحت عنوان «التزامات سيدر»، ولا سيّما لجهة خفض العجز المالي بنسبة 1% من الناتج المحلّي الإجمالي سنوياً وعلى مدى 5 سنوات، وفي الوقت نفسه زيادة الإنفاق العام على الاستثمارات في البنية التحتية والخدمات الأساسية من 1.3% من الناتج المحلّي إلى 3.5%، وذلك بهدف «تحفيز النموّ الاقتصادي، وخلق فائض أوّلي في الموازنة العامّة وزيادته تدرّجياً ليصل إلى 5% عام 2022»، مع ما يتطلّبه ذلك من ضبط للعجز المالي عند مستوى 9% من الناتج المحلّي وضبط الدَّيْن العام عند مستوى 150% من هذا الناتج. وهذه الأهداف التي تضعها المذكّرة تُعدّ متواضعة جدّاً، ولا تغيّر كثيراً من ضغوط العجز والدَّيْن اللذين سيبقيان مرتفعين جدّاً، ولكنها أهداف تضمن «استقرار» النظام المصرفي، أوّلاً وأخيراً. فوفقاً للمذكّرة، إن استمرار الوضع الحالي سيؤدّي إلى «ضغوط» على المصارف من أجل «تأمين نموّ في الودائع بالعملات الأجنبية، قد يكون بحدود 7% سنوياً» (أي ما بين 8 مليارات و9 مليارات دولار سنوياً)، وهذا سيؤدّي بدوره إلى «ارتفاع في بنية الفوائد المحلّية وركود في النشاط الاقتصادي»، وبالتالي زيادة المخاطر المصرفية.
وصفة التقشّف المطروحة تحت عنوان التزامات «سيدر»، تتضمّن تخفيض الإنفاق العام، ولا سيّما إلغاء دعم الكهرباء تدرّجياً وتقليص منافع نظام التقاعد في القطاع العام وتجميد التوظيف والأجور (البعض طرح تخفيض الأجور أيضاً)، وزيادة الإيرادات عبر رفع الضريبة على القيمة المُضافة وفرض المزيد من الرسوم الجمركية وإعادة الضرائب على البنزين، وتلزيم البنية التحتية والخدمات الأساسية إلى القطاع الخاص وجذب الاستثمار الأجنبي والقروض الخارجية المؤسّساتية المُيسّرة لتمويل المشاريع بالشراكة مع القطاع الخاص. تتبنّى المذكّرة هذه الوصفة مع تعديل تقترحه عليها لكسب التأييد لها، وهو تعديل يستبدل بعض الإجراءات المشكوك في قدرة السياسيين أو رغبتهم في السير بها، بإجراءات تقوم على تفعيل جباية الإيرادات العامّة من دون أي تعديل لمعدّلات الضرائب.
تُحدّد المذكّرة مصادر الهدر في المالية العامّة على النحو الآتي:
1.7 مليار دولار من مكافحة الهدر الفني وغير الفني والتعدّيات على شبكة الكهرباء، 1.1 مليار دولار من مكافحة التهرّب من تسديد ضريبة الدخل على أرباح الشركات والمؤسّسات الفردية والمهن الحرّة والأجور، 200 مليون دولار من مكافحة التهرّب من دفع رسوم التسجيل العقاري ورسم الانتقال (الإرث) وضريبة الأملاك المبنية، 500 مليون دولار من مكافحة التهرّب من الضرائب والرسوم على السلع وفرض بعض الرسوم الجمركية، 200 مليون دولار يمكن تحصيلها في حال إعادة النظر بالإعفاءات الضريبية المعمول بها، 300 مليون دولار من زيادة إيرادات الاتصالات.
تقول المذكّرة إن تحصيل ربع هذا «الهدر» سنوياً (أي مليار دولار)، وبنحو تدرّجي على مدى 4 سنوات، من شأنه أن يحوّل العجز الأولي في الموازنة العامّة إلى فائض أولي، وينتج منه تقليص العجز في الحساب الجاري الخارجي، ولا سيّما إذا اقترنت هذه الإجراءات بضبط الاستهلاك وترشيده وزيادة عائدات السياحة وتحفيز التصدير. طبعاً، لا تنسى المذكّرة التركيز على أن الضرائب التي تُسدِّدها المصارف ومودعيها باتت مرتفعة جدّاً (بل تخصّص لهذه المسألة قسماً واسعاً)، وتُقدّر وزنها بنحو 30% من دخل القطاع المصرفي! والمقصود من هذا التركيز القول إن «سلامة» النظام المصرفي تقضي بعدم زيادة الضرائب عليه بل تخفيضها، والبحث عن الإيرادات في القطاعات الأخرى، ولا سيّما الأسر والمؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة (الكهرباء والضرائب على الأجور والرسوم والضرائب على السلع والاتصالات). كذلك إن تخفيف الضغوط التمويلية الناتجة من العجز الكبير في الميزان التجاري يقضي برفع الأسعار للحدّ من الاستهلاك.
ليست المشكلة في مقاربة ما يُسمّى «الهدر»، فمكافحة التهرّب الضريبي وتحصيل حقوق الدولة لا بدّ أن تكون عنصراً من عناصر أي «إصلاح» مالي واقتصادي، ولكن المشكلة تكمن في الأهداف التي تقف خلف هذه المقاربة، لأن ما تطرحه المذكّرة ليس بديلاً لنموذج اقتصادي أصبح في حكم الميت، وهو ما تعترف به مواربة، بل محاولة لكسب المزيد من الوقت بما يسمح بإرساء وضع تستطيع فيه المصارف ومودعيها النفاد بريشهم «قبل أن تصبح استدامة الدَّيْن العام مطروحة جدّياً»، ويصبح «اللجوء إلى أي شكل من أشكال إلغاء الدَّيْن العام قسراً» هو السبيل الوحيد المُتاح.
لقد كان لافتاً ألا تتطرّق مذكّرة «خبراء المصارف» إلى السياسة النقدية والهندسات المالية الجارية إطلاقاً، على رغم أنها رفعت كلفة استقطاب الودائع بالعملات الأجنبية والمحافظة عليها في الجهاز المصرفي، ورفعت أيضاً سعر الفائدة وشجّعت المصارف على زيادة توظيفاتها لدى مصرف لبنان، وراكمت مصادر الخطر على المصارف نفسها. وهذا ليس النقص الوحيد في المقاربة المطروحة، ولكنه دليل إضافي على مآرب المذكّرة الفعلية: لا تقربوا المصارف ونحن على استعداد لنرشدكم إلى البديل.