«إن ما يعطي المرأة مكاناً سامياً في المجتمع الإنساني ليس خاصية فضيلتها الأنثوية، بل قيمة عملها للمجتمع، وقيمة شخصيّتها كإنسان وعامل خلّاق، وكمواطن ومفكّر أو مقاتل»ألكسندرا كولونتاي


مما لا شكّ فيه، أن وضع المرأة في المنطقة العربية سيّئ، بل سيّئ جدّاً، على الرغم من كلّ الدعايات الفردية أو «قصص النجاح» التي تكثر وتخفّ من وقت إلى آخر. وفق البنك الدولي، تشكّل النساء 21% فقط من القوى العاملة، ويساهمن بنحو 18% فقط من الناتج المحلّي. بالإضافة إلى ذلك، لو أُغلِقَت الفجوة بين الجنسين في السنوات العشر الماضية، لتضاعف النموّ الاقتصادي وزاد الناتج التراكمي بمقدار تريليون دولار. لكن ما حصل، هو انتقال الفجوة من سوق العمل التقليدي إلى القطاعات الأخرى، ومن بينها القطاع التكنولوجي. الأمر الأوّل هو السيّئ، فالفرص الضائعة الناتجة من عدم مشاركة المرأة في الاقتصاد كبيرة جدّاً. لكن الأمر الثاني، أنْ لا أفق لتغيير هذا الأمر ضمن المتغيّرات الحالية للاقتصادات العربية، وهو السيّئ جدّاً.
هذا التأخّر في وضع المرأة، ما هو إلّا بُعد آخر من تخلّف المنطقة العربية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، إلّا أن بقاء المرأة خارج الاقتصاد، ليس لديه فقط تأثيرات كمّية على دخل الأسر والإمكانات الاقتصادية، بل يضعها أيضاً خارج إمكانية التحرّر. في هذا الإطار، علينا في المنطقة العربية أن نرى أن تحرّر المرأة لن يتمّ إلّا إذا شاركت المرأة في الاقتصاد، وهذه المشاركة يجب ألّا تُكَوِّن جزراً منعزلة فقط، أو تدرّجية، كما يحدث اليوم، بل عليها أن تكون مشاركة كثيفة (massive) تؤدّي إلى ثورة في المجتمع والحضارة العربية.
فالمُسلّمة الآتية واضحة: ما دامت حصّة الإناث في سوق العمل تراوح عند 20% فقط من القوى العاملة، فلن تتحرّر المرأة من النظام البطريركي القمعي، ولا من قمع المجتمع عموماً، مهما كانت قوّة وشكيمة الناشطات، اللواتي تمتدّ أعمالهن وبطولاتهن، اليوم، على مدى العالم العربي.

الرأسمالية المُنحطّة (degenerate)
تقول عالمة الأحياء والأنتروبولوجيا في معهد كينسي، هيلين فيشر، إن الرجال، اليوم، يبحثون عن النساء القويّات والفعّالات. وتضيف: «إننا نعود إلى طرق عيش مجتمعات الصيد والجمع - حيث المرأة مساوية للرجل اقتصادياً واجتماعياً». في هذا الإطار، لا شكّ، إن العلاقة بين تحرّر المرأة والتطوّر الاقتصادي قد تأخذ شكلاً لولبياً في بعض الأوقات. لكن تاريخ هذه العلاقة مُحْكَم، إذ إن الظروف المادية لوجود الإنسان هي المُحدّد الأساسي لها. بيّن فريديرك إنجلز في «أصل العائلة» أن العلاقة بين الرجل والمرأة تحوّلت إلى علاقة سيطرة لمصلحة الرجل، مع تطوّر تقسيم العمل ووقوع الملكية الخاصّة التي تنتج القيم في يده. وبالتالي، منذ ذلك الوقت، أصبح العمل المنزلي للمرأة، الذي كان سابقاً يجعلها متساوية، دونياً لعمل الرجل، في تقسيم العمل الجديد، وفقدت المرأة سيطرتها حتّى في المنزل. أمّا الضربة القاضية للمرأة، فأتت عندما تحوّل حقّ السلالة إلى الرجل بسبب الرغبة في توريث الثروة المُراكمة إلى الأبناء، وأصبحت العائلة، حيث السيطرة للرجل، أساس التنظيم المجتمعي، وهنا يقول إنجلز: «إن الانقلاب على حقّ المرأة كان الهزيمة التاريخية للجنس الأنثوي». من هنا، فهم لماذا المرأة في العالم العربي هي في هذا الوضع الدوني السيّئ، حيث تتعرّض لكلّ أشكال التفرقة والعنف والتهميش ونزع الأنسنة، لا يمكن فصله عن الأسس المادية لهذا القمع.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

في هذا الإطار، أيضاً، أستشهد بروايتين. الأولى من فرنسا، والثانية من مصر. في مقالة في أعمال «الجمعية الغربية للتاريخ الفرنسي» يعرض جيف هورن كيف أن تحطيم النقابات (guilds) في فرنسا، كان أساسياً في إطلاق التغييرات التكنولوجية التي بدأت مع الثورة الصناعية، وكيف كان هذا ضرورياً في فكر كلّ من كارل ماركس وآدم سميث. إلّا أن هورن يعرض أيضاً كيف أن بعض الأنثروبولوجيين رأوا، حديثاً، أن البنية المؤسّسية لهذه النقابات سمحت للنساء بالمشاركة في الاقتصاد في بعض الأمكنة والأوقات، معتبرين أن هذا النظام كان إيجابياً من هذه الناحية. بالطبع، الرأسمالية التي أتت بعد انتهاء الإقطاعية وأنظمة «النقابات»، أدّت في النهاية، وفي القرن العشرين تحديداً، إلى تحرّر المرأة بنحو لا يمكن مقارنته بـ«الإيجابيات» التي يحاول البعض إضفاءها على مجتمع ما قبل الرأسمالية.
الرواية الأخرى، أتت في مقالة في مجلّة «نيويوركر»، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، حول تجارب عاملة مصرية تعمل في شركة دلتا للنسيج، واجهت المعوّقات الاجتماعية في المجتمع المصري. الأهمّ من القصّة، كانت خلاصة الكاتبة، التي تُضفي الطابع الرومانسي على ما قبل «الرأسمالية» في مصر، حيث تقول: «إن مجيء العصر الحديث أنهى الكثير من هذه الحرّيات. وأدّى اقتصاد التصنيع، الذي كان يهدف إلى تصدير المُنتجات إلى أوروبا، إلى تدمير الصناعات المنزلية (cottage) التي اسْتَخدَمَت النساء بأعداد كبيرة، وبعدها سُمِح للرجال فقط بالعمل في المصانع التي تستخدم الطاقة البخارية... (كما أن) غزوات الاستعمار... دفعت المجتمع نحو اتجاه محافظ. ومورِست عادات التحجّب والعزلة على نطاق أوسع، كما أن صكّ قوانين الأسرة أنهى الحقوق التي كانت تتمتّع بها المرأة في وقت سابق. ومع الوقت، مُحِيت التقاليد الحيوية والمتنوّعة لمشاركة المرأة في الحياة العامّة، وافتُرض أن النساء كنّ دائماً يعشن تحت قيود شديدة». إذاً، إن التغيّر المادي في تطوّر القوى المُنتجة، من صناعات منزلية إلى التصنيع، أدّى إلى فقدان المرأة لحرّياتها. أمّا السبب في أن هذا الفقدان كان مؤقّتاً في فرنسا ومؤبّداً في مصر، فهو أن فرنسا تطوّرت منذ الثورة الفرنسية إلى القرن العشرين، ضمن رأسمالية تطوّرت مع نضالات الأحزاب الاشتراكية الجماهيرية والنقابات العمّالية، ما أتاح التحرّر، بينما الرأسمالية في مصر أُجهِضت وأصبحت رأسمالية انحطاطية. إذاً، الثورة في الاقتصاد العربي شرط مُسبق حديدي لتحرّر المرأة اليوم.

الاشتراكية وتحرير المرأة
إن الأحداث الأخيرة في الولايات المتّحدة ودرجة اتساع «كراهية المرأة»، على الرغم من عقود من النسوية والتحرّر، يعطينا الدليل على أن الإرهاصات الثقافية والسياسية للرأسمالية، خصوصاً عند الأزمات، حيث يستميت اليمين في الدفاع عن مصالح الرأسمال، يمكن أن تؤدّي إلى تراجع في درجات تحرّر المرأة تحت ضربات اليمين الفاشي والشعبوي. كما أن تحطّم العائلة في الرأسمالية، كما تنبّأ البيان الشيوعي، الذي يحصل الآن بنحو متواتر، لا يؤدّي بالضرورة إلى تحرّر المرأة بل إلى تراجع في وضع المرأة الاقتصادي والاجتماعي. بالإضافة إلى ذلك، هناك مؤشّرات اقتصادية عدّة، مثل استمرار الفجوة في الأجر بين الرجل والمرأة وصولاً إلى 50% على مدى الحياة، كما ذكرت مجلّة Nation أخيراً، تعطينا الدليل على أن تحرّر المرأة في الرأسمالية، هو في وضع هشّ. وبالتالي، إن تزامن فقدان المرأة لحرّيتها تاريخياً مع ظهور الملكيّة الخاصّة، لا يمكن أن ينتهي إلّا بانتهاء الملكية الخاصّة نفسها، لأن علاقات السيطرة الجنسية جزء من علاقات السيطرة على الفائض الاقتصادي ولا يمكن إنهاؤها بمعزل عن إنهاء علاقات السيطرة نفسها.
في هذا الإطار، كانت التجارب الاشتراكية المُحقّقة أساسية في تعميق تحرّر المرأة. فمنذ بدايات الثورة البلشفية في العشرينيات، صُكّت القوانين التي كانت سبّاقة تاريخياً، وبالإضافة إلى الاقتراع العام (universal suffrage) الذي أُقرّ أيام الحكومة الانتقالية، شُرّع الوصول المتساوي إلى التعليم والحقّ في الأجر المتساوي، وشُرِّع الإجهاض وقوننة وضع الأطفال داخل الزواج وخارجه، وجُعِل الزواج مدنياً وسُهِّلت إجراءات الطلاق، كما غيرها من الإجراءات التي قال عنها لينين «إننا لم نترك حجراً واحداً سليماً من تلك القوانين الكريهة التي وضعت المرأة في حالة من الدونية إزاء الرجل». كلّ هذا أوصل المرأة في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، على الرغم من كون هذه المجتمعات أكثر تأخّراً ومحافظة، من نظيراتها الغربية، إلى أن تكون مُتحرّرة أكثر. (أنظر)
كذلك فإننا نرى إرهاصات هذا التقدّم إلى يومنا هذا بعد عقود على انتهاء التجربة الاشتراكية. فوفق منظّمة اليونيسكو للإحصاءات، التي أوردتها مقالة حول وضع المرأة الاقتصادي في روسيا اليوم، إن 40% من الباحثين الروس هم نساء، وتشكّل النساء أكثر من ثلث القوى العاملة في الشركات التكنولوجية. وهذا الأمر، سبق أن حصل فعلياً بُعيد الثورة البلشفية حيث أدّت القوانين الجديدة والسياسة السوفياتية إلى ارتفاع معدّل الباحثات الإناث من 10% إلى 42% بين عامي 1917 و1938.
الخوف من تحرّر المرأة لا علاقة له بكل ما يُحكى عن تقاليد راسخة وما إلى هنالك من تبريرات، ولكن هو ناتج من الرعب من تزعزع سيطرة الرجل الاقتصادية في المجتمعات المتأخّرة والرازحة تحت رأسمالية انحطاطية، ورأيناه في أفغانستان، ونراه اليوم في المنطقة العربية. لذلك، إن التحرّر الكامل للمرأة لا يمكن إلّا أن يكون ثلاثي الأبعاد: التحرّر الاقتصادي والتحرّر الجنسي والتحرّر من العمل المنزلي، ولكي يحصل كل هذا، يجب تفكيك المجتمع القديم في المنطقة العربية، وبناء الرأسمالية نحو إنهائها في الوقت نفسه، والانتقال إلى الاشتراكية. عندها فقط، ولكن على مستوى أعلى بكثير من التطوّر الإنساني والحضاري والتكنولوجي، نستطيع أن نعود إلى العلاقات كما كانت عليه ما قبل الملكية الخاصّة، من علاقات حرّة بين الرجل والمرأة، خالية من كل علاقات السيطرة التي كانت ضرورة تاريخياً، وننتقل كما قال ماركس من «عالم الضرورة» إلى «عالم الحرّية».