بخطوات بسيطة يقوم الفرد بتسجيل حياته في صور ومشاركتها عبر منصّة إنستغرام مع معارفه، ويمكن له التوسّع نحو الجمهور الأكبر عبر اعتماد شتّى أنواع الوسومات المتوافرة على الشبكة أو اعتماد بعض الوسوم الخاصّة به. هكذا يبدأ مستخدمو إنستغرام بالعمل على توسيع دائرة المتابعين من خارج الأصدقاء المباشرين، ويبذل كلّ فرد فاعل على المنصّة جهداً لجذب المتابعين، لكن أيضاً لجذب نوعية محدّدة من المتابعين، وهم المتابعون الفعّالون أو الملتزمون بالتفاعل الإيجابي عبر التعليق وإبداء الإعجاب. مع الوقت، تشكّلت مجموعة من «الإنستغراميين/ات» الذين تمكّنوا من تكوين قاعدة متابعين بشكل فعّال ما مكّنهم/نّ من «تقريش» هذه المتابعات - monetization - (المقصود هنا التمكّن من تبديل هذه المتابعات بكمٍّ من النقد). وهذا المصطلح يعود للباحث في جامعة بيركلي د. مارتن كيني، الذي كان في طليعة من أشار إلى إمكانية «تقريش» النشاط الاجتماعي على شبكات التواصل الاجتماعي (فايسبوك، يوتيوب وإنستغرام). والتحدّي هنا هو في بناء علاقة الثقة ما بين المؤثّر الاجتماعي ومتابعيه، بما يضمن ولاء المتابعين في مقابل جودة وصدقية المادة التي يقدّمها المؤثّر الاجتماعي. والتقريش ليس للمُنتج أو السلعة التي يروِّج لها بل لعلاقة الثقة التي يساهم الناس في بنائها وتعظيمها من دون أي مقابل. ولا بدّ من الإشارة إلى أن القاعدة الأكبر من المتابعين على إنستغرام تساهم في بناء وتطوير مجّاني لقيمة تبادلية مزدوجة لمنصّة إنستغرام بالدرجة الأولى وللمؤثّرين الاجتماعيين بالدرجة الثانية، وفي كِلا الحالتين يأتي التقريش.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

برز في الأعوام الأخيرة منحى جديد في عالم التسويق المباشر. فبعد فورة التسويق المباشر عبر البرامج التلفزيونية في تسعينيات القرن الماضي، انتقلنا اليوم إلى فورة تسويقية جديدة تعرف بالـInfluencer marketing، التي تقوم بشكل مباشر على استهداف الأفراد ذوي التأثير على المستهلكين واعتمادهم كوسطاء تسويق. إلّا أن هذا الأمر ليس بجديد، فشركات التسويق اعتمدت منذ زمن طويل على التسويق المباشر عبر الأفراد. ففي مرحلة سابقة، كنّا نجد أنفسنا أسرى مندوبي المبيعات والتسويق لمختلف السلع من القواميس والموسوعات إلى مستحضرات التجميل وبوالص التأمين. إذاً ما الذي اختلف اليوم؟ ولماذا أصبحنا نسعى لمتابعة الإنفلوينسرز؟ المفارقة بسيطة وهي أن ما رفضناه بالأمس على شاكلة مندوبي المبيعات، يأتينا اليوم بحلّة جديدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بعدما تمّ تقديم وظيفته كجزءٍ من النخب المؤثّرة اجتماعياً. فالوسيط التسويقي لا يحمل حقيبة ولا يطرق أبوابنا ولا يتصل بنا، بل يظهر على صفحته مُفعماً بمظاهر الإيجابية والنشاط والابتسامة الدائمة، وتأتي عملية التسويق كمكمّل لهالة الإيجابية التي طبعت علاقتنا بالمؤثّر الاجتماعي.
إلّا أن العمل في هذا الميدان أصبح اليوم يحتاج للكثير من الاحترافية، فما بدأ مع هواة، أصبح اليوم يمثّل قطاعاً تصل قيمته السوقية إلى نحو مليار دولار عام 2018. ويتوقّع أن يتضاعف حجم السوق إلى نحو 2.38 مليار دولار عام 2019، وفقاً لبيانات شركة ستاتيستا. في حين تشير مجلّة فوربس إلى ارتفاع عدد الوظائف المُرتبطة بالتسويق عبر المؤثّرين الاجتماعيين من 77 ألف وظيفة متوافرة على منصّة LinkedIn في كانون الأول/ ديسمبر 2017 إلى نحو 176 ألف وظيفة في كانون الثاني/ يناير 2019. وإن لم يكونوا جميعاً من المتفرّغين كلّياً للعمل في هذا الميدان. وتشير البيانات المُتاحة لعام 2018، إلى وجود أكثر من مليون ونصف مليون من حسابات إنستغرام التي تحظى بقاعدة متابعين تتخطّى عتبة 15 ألف متابع، وتصل نسبة الحسابات التي يديرها مؤثّرون اجتماعيون إلى نحو 558 ألف حساب، تتشكّل بمعظمها (نحو 81%) من حسابات صغيرة (15 ألف إلى 100 ألف متابع).
عند سؤال المعلنين حول العوائد من الاستثمار في هذا النوع من التسويق المباشر، يتبيّن أن العائد على كلّ دولار واحد يُصرف في التسويق عبر المؤثّرين الاجتماعيين ينتج عنه نحو 7.65 دولار كمعدّل وسطي، في حين يستحصل أعلى 15% من المعلنين على عوائد تصل إلى نحو 20 دولاراً لكلّ دولار يُصرف على هذا النوع من التسويق. إلّا أن هذا لا يعني أن المعلنين لا يخسرون من هذا النوع من الاستثمار، إذ إن 25% من إجمالي المعلنين يعلنون عن خسائر في هذا المجال (influencermarketinghub.com).
أمام هذا التضخّم في عالم الإنفلوينسرز برزت بنية تحتية مؤسّساتية لتمكين هذه الشريحة وتأطير العلاقة بينها وبين المعلنين. هكذا ارتفعت أعداد المؤسّسات والمنصّات والوكالات التي تضمّ الإنفلوينسرز وتؤمّن الدعم، في مقابل الحصول على حصّة من هذه السوق الإعلانية المُتضخّمة من نحو 190 عام 2015 إلى 420 عام 2017.
كما المنصّة الأم - فايسبوك - انتقلت إنستغرام من كونها وسيلة لتشارك الصور الشخصية إلى واحدة من أبرز أدوات التسويق على المستوى العالمي، وساهمت إلى حدٍّ كبير، في بروز شكل جديد من أشكال العمل الذي يقوم بشكل رئيسي على بيع قوة إنتاج علاقة الثقة بين المؤثّر الاجتماعي ومتابعيه. فالإنفلوينسر اليوم أصبحت مهنة في طور التبلور والتحوّل المستمرّ، إلّا أنها وكغيرها من علاقات العمل المُستجدّة لا تقدّم ضمانات أو التزامات للعاملين بها. لا بل تكرّس منطق المسؤولية الفردية عن تأمين فرص العمل والتشغيل.

* باحث في علم اجتماع العمل والتكنولوجيا

* ملاحظة: في سياق إعداد هذا المقال، استفاد الكاتب من الأحاديث التي أجراها مع علي فخري الذي يدير حساباً يعرض اكتشافاته في مجال المأكولات التقليدية في عدد من البلدان، وسينتيا سليمان التي ساعدت على تكوين فهم لمجتمع الإنفلونيسرز اللبنانيين.