تجسّد «أوبر» التطبيق الأكثر شهرة في العالم، الذي تمكّن من تغيير السوق العالمية للنقل عبر التاكسي في أقلّ من عشر سنوات، إذ بلغ عدد مستخدميه نحو 75 مليون راكب يستفيدون من خدمات 3 ملايين سائق شريك لـ«أوبر». في هذا المقال سنستعرض البُعد الرقابي للتطبيق، ثم ننتقل إلى تفصيل جهازه العصبي المكوّن من منظومة الخوارزميات المُشغّلة للشبكة وامتداداتها المادية (الهواتف الذكيّة)، وبعدها نناقش منظومة التقييم المُعتمدة (Rating) ودور الركّاب في عملية مراقبة السائقين وتأديبهم، وصولاً إلى تجربة سائقي «أوبر» في تطويع التكنولوجيا وإعادة استخدامها لصالحهم. تمكّنت التكنولوجيا المؤسِّسة لأسطورة «التطبيق الذي لا يُقهر» من تطويع قطاع النقل عبر التاكسي في أكثر من 600 مدينة في مختلف أصقاع العالم، بما يضمن تلبية الطلب مهما ارتفع، وإلى مستوى يصل إلى 99.99% من إجمالي الطلب العام في النطاق الجغرافي حيث يمكن استخدام التطبيق. ما يهمّنا تحديداً هو محاولة فهم القدرات التقنية التي تمكّن التطبيق من تحقيق رؤية كلّية لإجمالي الطلب والعرض في منطقة جغرافية معيّنة، وكيف تمكّنت الشركة من تحقيق التحكّم في طبيعة العلاقة ما بين السائقين والركّاب من جهة، وما بين السائقين والتطبيق من جهة أخرى، عبر استخدام تقنيات «تعلّم الآلات» والذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى تطوير تقنية التأطير الجغرافي الخاصّة بها واستخدام تقنيات الترصّد عن بعد (Telematics) والتعرّف إلى الوجوه، وذلك بهدف تحقيق أقصى المعايير المُتاحة لمراقبة سلوك السائقين والتحكّم فيهم طوال فترة ارتباطهم بالتطبيق.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

هنا يصبح مفهوم Panoptiscism (الذي طوّره الفيلسوف الفرنسي «فوكو» في كتابه المراقبة والمعاقبة، والذي يناقش بإسهاب تشكّل مفهوم السجن عبر التاريخ) من أبرز المرجعيات النظرية التي يمكن الاستناد إليها لفهم جوهر المراقبة والرصد الذي تمارسه «أوبر» تجاه مستخدميها بشكل عام والسائقين بشكل خاص. في البانوبتيكون Panopticon، يقع برج المراقبة في وسط بناء دائري، ويمتاز بخاصية تُمكّن من يديره من رؤية مجمل حركة النزلاء بشكل كلّي ودائم ومن دون الحاجة إلى الانتقال الجسدي، ولذلك يستخدم منظومة أجهزة الإضاءة التي تتيح الكشف المستمرّ على نزلاء السجن. وفي مناقشته لأهمّية هذا البرج ومركزيته، يُشير «فوكو» إلى أهمّية الضوء في منح المراقب رؤية كاملة غير منقطعة لمجمل السجن، وبالتالي يأسر المراقَبين (السجناء) حيث يعيدون تشكيل سلوكيّاتهم ويومياتهم بناءً على حالة اللاقوّة التي تأسرهم، والتي تجعلهم تحت المراقبة الكلّية من سجّانهم. اللافت في مفهوم فوكو هو أنه مع الوقت سيبقى السجناء أسرى هذه الحالة، حتى وإن بقي البرج خالياً من أي مراقب بشري، فهم يُشاهَدون ولا يُشاهِدون، وبالتالي، فإن أبرز نقاط قوّة برج المراقبة هي حالة اللاقوّة التي يفرضها على السجناء وإبقاؤهم في حالة مراقبة وترصد دائمة بغض النظر عن وجود حارس في البرج أو لا.
بالعودة إلى تطبيق أوبر، فلقد نجحت الشركة وعبر منظومتها للرصد والمراقبة في أسر مستخدميها في حالة من اللاقوّة، حيث يخضعون لمراقبتها الإلكترونية بشكل دائم، فيُشاهَدون دوماً من دون أن يُشاهدِوا. وانتقلت بمفهوم برج المراقبة من بُعده المعماري المحصور جغرافياً إلى إعادة إنتاجه كبرج مراقبة رقمي يمكنه مراقبة المستخدمين في أي بقعة من العالم عبر تلفوناتهم الذكية المنصوبة في وجههم أثناء القيادة.
متى وأين تقوم «أوبر» بجمع البيانات؟ انطلاقاً من التطبيق الإلكتروني المُحمّل على الأجهزة الخلوية الخاصّة بالمستخدمين، تقوم عين «أوبر» السحرية بالسيطرة الكاملة على مجموعة من المجسّات Sensors التي تُعتبر من مرتكزات عمل الأجهزة الخلوية واستعمالها لتوثيق أدقّ تفاصيل حركة صاحب الجهاز وأنماط سلوكه اليومي. هكذا يتمكّن التطبيق من معرفة مكان وجود السائق في أي لحظة، بالإضافة إلى طبيعة حركته الجسدية. إلّا أن السائقين والركّاب على حدّ سواء، ومن لحظة تحميل التطبيق على هواتفهم، يصبحون أعضاءً في شبكة «أوبر»، وبالتالي يقدّم السائقون جميع البيانات الشخصية (العمر، والنوع، والعنوان)، معلومات الحساب المصرفي المُرتبط بالتطبيق، رقم الهاتف بالإضافة إلى موافقتهم على تتبّع وتوثيق المسار الجغرافي لهاتفهم الذكي ما بقي مُحمّلاً بالتطبيق وليس بالضرورة عندما يكون ناشطاً (أي خلال ساعات العمل). وينسحب الأمر نفسه على الركّاب الذين سيقومون بمنح التطبيق حقّ الوصول التلقائي إلى جملة من المعلومات والبيانات الشخصية والمالية، بالإضافة إلى تعقّب وتوثيق مجمل تنقلاتهم. بمعنى آخر، منذ لحظة تحميل التطبيق حتى لحظة إزالته نهائياً يكون المُستخدم (سائق/ راكب) مُجبراً على الموافقة على منح «العين السحرية» لـ«أوبر»، والمُتمثّلة بمنظومة الخوارزميات المشغّلة للشبكة حقّ مراقبته (أينما كان وفي أي وقت كان) بشكل مستمرّ، كشرط أوّلي لقبوله ضمن شبكة مستخدمي «أوبر». للوهلة الأولى قد نعتبر أن هذا من بديهيات العلاقة التجارية ما بين المستخدمين ومورّدي الخدمات في زمن التطبيقات الإلكترونية، إلّا أن ما علينا الانتباه إليه هو أن التطبيق قام بنحو عشرة مليارات رحلة منذ انطلاقته، ويقوم حالياً بتأمين نحو 15 مليون رحلة يومياً، أي 173رحلة في الثانية الواحدة، وأن منظومة الترصّد والتعقّب الخاصّة به تقوم بجمع وتوثيق كلّ البيانات المُتعلّقة بهذه الرحلات وإعادة استخدامها لتأديب المستخدمين وتفادي أي احتمال للاعتراض، وذلك عبر ما أطلق عليه أحد مهندسي الشركة بالجهاز العصبي لـ«أوبر» والذي سنقوم في القسم الثاني من هذا المقال بتفصيله واستعراض أبرز ميكانيزمات عمله.

* باحث في علم اجتماع العمل والتكنولوجيا