اعتمدت الحكومة سياسات تقشفية اعتباراً من النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وجمّدت الاستثمارات العامّة في إنتاج الكهرباء وتوزيعها، واستعاضت عن تطوير مؤسّسة كهرباء لبنان وملء ملاكاتها بسلسلة واسعة من عقود الشراكة مع القطاع الخاص، شملت كلّ شيء تقريباً، بما في ذلك ما يسمّى عقود «توفير العمالة» (أو ما يُعرف بالمياومين)، كعقد الشراكة الحالي مع شركة «ترايكوم»، وصولاً إلى عقد الـBOT الأخير لإنشاء معمل دير عمار-2، مروراً بعقود البواخر ومقدّمي خدمات التوزيع وتشغيل وصيانة المعامل... وتتّجه الحكومة اليوم، تحت عنوان برنامج «سيدر»، إلى حصر الاستثمارات في الكهرباء بالقطاع الخاصّ وعقود الشراكة معه. في الواقع، توفّر أوضاع الكهرباء البائسة الدليل الأكثر وضوحاً على فشل الشراكات مع القطاع الخاص، فالتجربة على مدى ربع القرن الماضي أسفرت عن زيادة الأوضاع سوءاً ورفعت الكلفة كثيراً وليس العكس. الجدير بالذكر أن «امتيازات الكهرباء» هي الشكل الأقدم لعقود الشراكة مع القطاع الخاص المعروفة في لبنان، إذ يعود تاريخها إلى بدايات القرن العشرين، في ظل الانتداب الفرنسي، واستمرّ آخرها (امتياز زحلة) حتّى العام الماضي. إلّا أن نهاية «الامتيازات القديمة» كان بداية لامتيازات جديدة ستتحكّم بواحدة من أهمّ «السلع العامّة» من الآن وصاعداً.


امتياز زحلة
مُنح عام 1923 لإنتاج الكهرباء من مياه البردوني وتوزيعها في زحلة، واستردّته الدولة العام الماضي بعد انتهاء مدّته الأصلية والمُمدّدة، ولكن صدر القانون 107 الذي منح الشركة (مُستثمرة الامتياز) عقد شراكة لمواصلة إدارة وتشغيل كهرباء زحلة و«مولّداتها الخاصّة» بدلاً من مؤسّسة كهرباء لبنان، وبموجب هذا العقد تمّت قوننة التمييز بين المناطق، إذ التزمت الدولة بتأمين الكهرباء على مدار ساعات اليوم في زحلة وجوارها فقط دون بقية المناطق، وفرضت على المشتركين في هذه المنطقة أسعاراً أعلى من التي يُسدِّدها باقي المشتركين في المناطق الأخرى لمؤسّسة كهرباء لبنان. تجدر الإشارة إلى أن وثيقة صادرة عن مؤسّسة كهرباء لبنان عام 2015 ذكرت أن «امتياز زحلة» قبل استرداده كان يبيع الكهرباء إلى المشتركين بنسبة تزيد ما بين 160% و380% عن الأسعار الرسمية.

البواخر
تمّ توقيع عقد مع شركة Karadeniz التركية عام 2012 لاستقدام باخرتين (معامل عائمة) ترسوان بالقرب من المعامل القائمة في الجية والذوق، وذلك بحجّة تأمين بديل عن الطاقة المُنتجة منهما تمهيداً للبدء بعملية إعادة تأهيلهما، كانت مدّة العقد 3 سنوات وقيمته 390 مليون دولار، إلّا أن معملي الذوق والجية، اللذين أقيما في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لم يؤهّلا حتى اليوم، وتحوّل وجود الباخرتين المؤقّت إلى أمر واقع مستمرّ حتّى اليوم، وتجري محاولات حثيثة لاستقدام المزيد من البواخر، بذريعة النقص الفادح في إنتاج مؤسّسة كهرباء لبنان.

هوا عكار
عام 2018، أبرمت الدولة عقد شراكة مع شركة «هوا عكار» لإنتاج نحو 129 ميغاواط من طاقة الرياح، لمدّة 30 عاماً، بسعر 10.75 سنت لكلّ كيلواط، وهو أعلى بكثير من المعدّل الوسطي لسعر الكيلواط المُنتج من الرياح في بلدان مشابهة وظروف مشابهة. تُدرس ملفات عقود إنتاج الطاقة المُتجدّدة ويجري تلزيمها خارج إدارة المناقصات، عبر المركز اللبناني للطاقة، وهو جمعية خاصّة لا تخضع لأيّ رقابة وتقبع منذ سنوات في وزارة الطاقة.

مقدّمو الخدمات
وقّعت وزارة الطاقة عقود شراكة مع شركات: BUS وNEUC وKVA، لتقوم بمهمّات التوزيع وصيانة الشبكة وتركيب العدّادات، لمدّة 3 سنوات، (مُدّدت لاحقاً خلافاً لدفتر الشروط إلى 4 سنوات)، وبلغت قيمة هذه العقود نحو 780 مليون دولار بعد أن كانت الكلفة مُقدّرة بنحو 300 مليون دولار. وتمّ توقيع عقد شراكة آخر مع شركة NEEDS الاستشارية (التي وضعت دفتر شروط المشروع) للإشراف على التنفيذ، بلغت قيمته 9.7 مليون دولار، قبل ان تعلن انسحابها بحجّة أن المشروع لم يحقّق الأهداف المرجوّة منه! وهو ما أورده أيضاً كتاب صادر عن التفتيش المركزي يحمل الرقم 174/ ص4/ 2016 يشير إلى أن «مجمل أعمال شركات مقدّمي الخدمات يمكن تلخيصها بأنها لم تأتِ بالنتائج المرجوة منها، ومن غير المتوقّع أن تأتي بكامل النتائج في المُهل المُحدّدة». على الرغم من ذلك، تمّ في جلسة مجلس الوزراء في 12/10/2017 تجديد عقدي BUS وKVA مع احتفاظهما بكامل المناطق المسؤولتَين عنها (الشمال وجبل لبنان الشمالي لـBUS، والبقاع وبيروت لـKVA)، فيما اقتُطعت منطقة الجنوب من حصّة NEUC وأبقيت معها منطقة جبل لبنان الجنوبي، ومُنحت منطقة الجنوب إلى شركة «مراد» بموجب عقد رضائي بقيمة 132 مليون دولار.

الذوق والجية
عام 2014 تمّ تلزيم عقد إنشاء المولّدات العكسية في الذوق والجية لشركة BWSC الدانماركية، بقيمة 340 مليون دولار، جرى تمويلها بقرض من مصرف HSBC وصندوق EKF الألماني للاستثمارات بفائدة 4.3%. تمّ إنجاز المشروع عام 2016 إلّا أن المحرّكات لم تبدأ بالعمل إلّا عام 2017، بسبب خلافات داخل الحكومة على خلفية إبرام عقد شراكة لإدارة وتشغيل هذه المحرّكات مع شركة OEG/ARKAY Limited/ME Power.

معملا دير عمار والزهراني
منذ تلزيم بناء معملي دير عمار والزهراني عام 1995، اتخذت الحكومة خياراً بنقل تشغيل وصيانة المعامل الجديدة إلى القطاع الخاص. أوّل عقد شراكة كان مع ائتلاف Ansaldo-Seimens لبناء المعملين المذكورَين، الذي أصرّ على أن له الأحقّية في الحصول على عقد تشغيلهما، فرضخت الحكومة وأبرمت معه عقد شراكة جُدّد مرات عدّة وبكلفة 660 ألف دولار شهرياً. عام 2001، تمّ التوصل إلى تسوية بين الدولة وAnsaldo قضى بالتنازل عن مطالبة الشركة بأيّ مبالغ نتيجة مخالفاتها شروط العقد. وأُبرم عقد شراكة جديد مع شركة ENEL بقيمة 330 ألف دولار شهرياً لتشغيل المعملين من دون صيانتهما. لاحقاً تبيّن أن الشركة ترتبط بشركة PSM التي يديرها نجل وكيل Ansaldo في لبنان. عام 2004، مع انتهاء مدّة العقد أجريت مناقصة لتشغيل وصيانة المعملين، فازت بها شركة «تعميرات» الإيرانية التي سرعان ما انسحبت منها، ما أدّى إلى إبرام عقد مع PSM مجدّداً. عام 2005، لزّمت هذه العمليات إلى شركة KEPCO الكورية لمدّة خمس سنوات، وشابت هذه المرحلة خلافات بين الشركة ومؤسّسة كهرباء لبنان على تأمين قطع الغيار. عام 2011، استُبدلت KEPCO بشركة YTL الماليزية بموجب عقد لمدّة خمس سنوات بقيمة 256 مليون دولار، (ثلاثة أضعاف القيمة التي دُفعت للشركة الكورية)، وعلى الرغم من ذلك لم تؤمّن قطع الغيار بشكل دائم. مع انتهاء عقد الشركة عام 2016، تمّ تلزيم هذه الخدمات إلى شركة PrimeSouth الأميركية لمدّة خمس سنوات بقيمة 339 مليون دولار، علماً أن الشركة التي نافستها (HP1) قدّمت عرضاً بقيمة 347 مليون دولار وعرضت تخفيضه إلى 315 مليون.