«خلال الدورات الاقتصادية... نخسر إنتاجاً كان يمكن أن يكون مفيداً للاقتصاد ومفيداً للمجتمع»جيمس توبين

من الواضح أن سياسة الحكومة في مجال الخطوات الاقتصادية والمالية المقبلة التي ستقوم بها، والتي قد تتماهى مع متطلبات مؤتمر «سيدر» والضغوط المفترضة المرافقة له، لا تزال تخضع لمدّ وجزر وضياع تام في تحديد ما الحاجة إليه أصلاً. لكن بغضّ النظر عمّا سترسو عليه بورصة «الإصلاحات» والقرارات «غير الشعبية»، إلا أن هذه الإجراءات مهما بلغت، ومهما روِّج لها، بطريقة سطحية، على أنها ستكون خشبة الخلاص للاقتصاد اللبناني، فإنها لن تكون كذلك. فالأزمة الاقتصادية أكبر بكثير من مجرّد خفض العجز المالي ببضعة نقاط مئوية نسبة إلى الناتج المحلّي وما سيتبعها من قروض بمليارات الدولارات على مدى عشر سنوات أو أكثر. فعلى الرغم من أن الاستثمارات في البنية التحتية قد يكون لها الوقع الإيجابي على الإنتاجية العامة في الاقتصاد، إذا ما أُنْفقت بشكل كفوء على البنية التحتية (وهنا على المانحين أن يفرضوا شروطاً قاسية على لبنان في هذا الإطار بدلاً من أن يكتفوا بشروطهم التقشّفية فقط)، إلا أنها ستكون محدودة نسبياً إذا ما قارنّا بمفاصل ما يمكن أن نسمّيه «الاقتصاد الركودي»، أو حتى أسوأ، «الانكماشي» (deflationary economy) في لبنان. في هذا الإطار، أمور عدّة كانت أساسية في إنتاج هذا الاقتصاد الذي بُني بعد عام 1992.
أولاً، ارتفاع معدّلات الفائدة الحقيقية باستمرار، وصولاً إلى كونها، من دون شك، أعلى ممّا يُسمّى «الفائدة المحايدة» التي تؤدّي إلى العمالة الكاملة مع تضخّم ثابت. وبالتالي، أدّت هذه الفوائد العالية إلى اقتصاد مستمرّ في الركود. بالإضافة إلى ذلك، لم تأخذ سياسة الفوائد بالاعتبار تأثيرها في تراكم الدَّيْن العام، ولم يُعِر المصرف المركزي أية أهمّية، أو وزن لهذا الأمر، حتى في خضم «الأزمة الحالية» ودقّتها وتصاعد الكلام عن خطورة عجوزات الخزينة وتراكم الدَّيْن. وما إلقاء اللائمة فقط، وتكراراً من قِبَل المصرف المركزي على «القطاع العام» وحجمه إلّا ذرّ للرماد في العيون، كما يقال، ومحاولة لتملّصه من كونه شريكاً في هذا النمو للدولة التحاصصية. وهنا أريد فقط أن أستشهد بكارمن رينهارت وجاكوب كيركغارد «في الوقت الحالي (2012)، بلغت مستويات الدَّيْن العام في العديد من الاقتصادات المتقدّمة أعلى مستوياتها... بعض هذه الحكومات تواجه احتمال إعادة هيكلة الدَّيْن... يبدو أن من المحتمل أن صانعي السياسات سيكونون لبعض الوقت مشغولين بخفض الديون، وإدارتها، وبشكل عام، في بذل الجهود للحفاظ على تكاليف خدمة الدَّيْن. وتضيف المستويات المرتفعة والمستمرة للبطالة في العديد من هذه الاقتصادات المتقدّمة حافزاً إضافياً للمصارف المركزية للإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة». وإذا كان جواب البعض على هذا: «نحن لسنا في دولة متقدّمة، ما يسمح بفوائد متدنية»، فالسؤال الذي يليه سيكون: لماذا سمحنا إذاً للقطاع المالي أن يتمدّد بهذا الشكل، خصوصاً أننا لم نعد مركزاً مالياً عالمياً أو حتى إقليمياً ينتج أرباحاً تضيف للناتج المحلّي من خدماته المتأتية من كونه هكذا مركز؟ يكمن الجواب في أن أرباح هذا «المركز المالي» كانت ناتجة أساساً من الدَّين العام أولاً. وثانياً، من الاستدانة الخاصة المحلّية بفوائد مرتفعة، ما جعلها تحويلاً للدخل والثروة من عميل «أ» إلى عميل «ب»، والأوّل هو الطبقات العاملة والمتوسّطة والطبقات الرأسمالية والريادية المُنتجة، والثاني هو الرأسمال المالي والريعي المركَّز بأيدي القلّة. وهذا التحويل كان أساسياً في إنتاج الاقتصاد الركودي، لأنه كما قالت المعلّقة إلن براون حول دور المصارف العامّة في التنمية: «على عكس المصارف العامّة التي تستعمل أرباحها للحاجات المحلّية، فإن أصحاب الثروات العالية يَخْزنون أموالهم، ويستثمرون في الأسواق المضاربة، ويخبئون أموالهم في الملاذات الضريبية أو يبعثونها إلى الخارج».

أنجل بوليغان ــ المكسيك

ثانياً، اعتماد الاقتصاد اللبناني على تدفّق رؤوس الأموال من الخارج. وقد كان تقرير البنك الدولي عام 2012 واضحاً في هذا الأمر، أي في تلازم النشاط الاقتصادي الداخلي مع هذا التدفّق، بالإضافة إلى توجّهه نحو الاستهلاك والاستثمار في القطاعات المُنتجة للسلع غير القابلة للتبادل مثل البناء بدلاً من الاستثمار في القطاعات المُنتجة للسلع التبادلية والتي يمكن مثلاً تصديرها. وهذا الأمر قد يكون مفيداً إذا استعملت التدفّقات إلى حدّ ما في الإطار الأخير. وبالتالي، كان يجب وضع الضوابط على هذه التدفّقات بدلاً من تركها على غاربها لتحدث حالات من الفورات التي تليها انكماشات كما يحدث حالياً بسبب تراجع هذه التدفّقات. التجربة التركية الأخيرة واضحة في هذا المجال، فعند اعتماد النمو الداخلي على التدفّقات الخارجية تصبح هذه الدورات مسيئة إلى الاقتصاد. وهنا، كانت السياسة تجاه هذه التدفّقات في لبنان، محكومة فقط بأهداف السياستين النقدية والمالية من أجل استمرار الاستدانة بالعملة الأجنبية من جهة، والحفاظ على سعر الصرف من جهة أخرى. وبالتالي نرى اليوم تأثير تراجع التدفّقات ومحاولات تجميد ما بقي منها لدى مصرف لبنان، لأنها أصبحت خشبة الخلاص الأخيرة لهذا النموذج. وأدّى هذا التنظيم أيضاً إلى انحلال دور المصارف تدريجاً من كونها أدوات الإقراض الضرورية في النظام الرأسمالي من أجل الاستثمار، إلى أدوات لإقراض «القطاع العام» المُبَدِّد للثروة ولإقراض المصرف المركزي المُجَمِّد للثروة.
ثالثاً، ضُعف الاقتصاد الحقيقي. لقد أدّى نمو الاقتصاد المالي إلى تهميش الاقتصاد المُنتج تدريجاً. ولهذا الأمر جوانب عدّة أدّى تداخلها إلى حالة الركود البنيوية التي نعاني منها اليوم. فهجرة العمالة إلى الخارج، وما تعنيه من هجرة المهارات والقدرات التي كان يمكن أن تدخل إلى النشاطات الإنتاجية المحلّية بأشكال مختلفة من جماعية وفردية، أدّت إلى خفض الإنتاجية والابتكار والديناميكية في الاقتصاد اللبناني، ما أدّى إلى خسارة كبرى لا تعوضه، بأي شكل من الأشكال، التدفّقات المالية الناتجة من هذه الهجرة. كذلك إن عدم مشاركة المرأة في سوق العمل، والتي لا تتجاوز 25 بالمئة، يجعل ممّا قاله توبين بشأن خسارة الإنتاج في الدورات الاقتصادية في أميركا ضئيلاً مقارنة بما نخسره سنوياً من تهميش المرأة في الاقتصاد. كذلك إن تدّني الأجور وارتفاع عدم المساواة في الدخل والثروة أدّيا إلى انخفاض القدرة الشرائية للأكثرية وهي، أي القدرة الشرائية العالية، أساسية في بناء الاقتصاد الديناميكي. وبالتالي، تحوّل الاقتصاد اللبناني، بعد فترة التسعينيات التي شهدت استهلاكها عالياً، بسبب ارتفاع الأجور الحقيقية، تدريجاً إلى اقتصاد ذي أجور متدنّية. ولم يكن لهذا الأمر تأثير في نشاطية الوحدات الإنتاجية فقط، بل أيضاً أضاف إلى الانحياز المالي للاقتصاد وجموده حالياً. إذ إن القدرة الشرائية المتدنّية للطبقات الوسطى والعاملة دفعت إلى نمو الدين الخاص لسدّ الفجوة بين المداخيل والاستهلاك لهذه الطبقات. لوهلة، كان هذا الأمر محفّزاً للنمو، ولكن اليوم وصلنا إلى الحدّ الأقصى في ظل اقتصاد لا ينتج الوظائف الجديدة، وفي ظل أجور تنمو ببطء. اليوم بدأت الأسر بإبطاء الاستهلاك ودفع الدَّيْن، لأن الكثير من المداخيل أصبحت الآن «محتجزة» في القروض السكنية والتعليمية وقروض السيّارات وغيرها من القروض الاستهلاكية.
رابعاً، غياب القاعدة المؤسّساتية للنمو والابتكار. من أكبر وأسوأ المفارقات التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني هي الفجوة بين الطاقة الكامنة للمهارات اللبنانية وبين الاقتصاد الذي لا ينتج الوظائف لهذه المهارات. إن استمرار هذه الفجوة هي الأكثر إيذاءً من كل ما سبق. والأرقام حول لبنان، التي صدرت في تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي للعام 2018، كانت واضحة جدّاً في هذا المجال. وهنا يكمن الفشل الكبير للنموذج الاقتصادي الذي بُني بعد الحرب، فبدلاً من إقامة شبكات في الاقتصاد تشكّل قاعدة لنظام ابتكار وطني، لا مفرّ من إقامته لسدّ هذه الفجوة، استمر الحديث الببغائي حول «المبادرة الفردية» و«الاقتصاد الحرّ». أما الواقع، فكان سيطرة المحاصصة المذهبية ودينها العام، وسيطرة الرأسمال المالي الخامل الناتج منها. فبينما العالم من الصين إلى الإمارات العربية المتّحدة (الأخيرة بدأت بالاستثمار في الحوسبة الكمّية)، يتّجه نحو الاستثمار في التكنولوجيات الرقمية، وفي التكنولوجيات الحديثة غير المُعتمدة على الكربون، وفي تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي، وغيرها من باقة التكنولوجيات الحديثة، نناقش اليوم في لبنان كيفية إنتاج الكهرباء الذي بدأ تعميمه بدءاً من نهاية القرن التاسع عشر.
كل هذا يعني أن الناتج الاقتصادي كان يمكن أن يكون أكثر بكثير عام 2018، وتكفي المقارنة مع العديد من الدول لاكتشاف مدى تقهقر لبنان اقتصادياً، خصوصاً كما ذكر تقرير «ماكنزي» بخصوص حصّة الفرد من هذا الناتج. والسبب في هذا التقهقر، هو التقلّبات الاقتصادية الحادّة منذ نهاية الحرب ودخول الاقتصاد حالة الركود المستمرّ الناتجة من هذه العوامل مجتمعة. إذاً، السؤال اليوم، يجب ألّا يكون أية إجراءات تقشّفية علينا اتباعها؟ لأن كل هذه الإجراءات ستصيب عموم الشعب الذي يعاني منذ سنوات من هذا الاقتصاد الانكماشي الذي يؤدّي إلى استمرار ضُعف مستوى معيشته. كذلك يعاني الاقتصاد من «انفكاك» القلّة الثرية المُسيطرة اقتصادياً وسياسياً عن هذا الاقتصاد الركودي، وبالتالي لا أفق لسياساتها الغافلة عمّا هو مطلوب فعلياً. بالتالي السؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم: كيف نلقي هذا الاقتصاد جانباً، ونبني اقتصاداً يتماهى مع قدرات أكثرية اللبنانيين وطموحاتهم؟