تزعم الحكومة اللبنانية تحقيق تقدّم في مجال تطبيق برنامج سيدر الإصلاحي، غير أنها في الوقت نفسه تقوم بتقويضه. خلال الأسبوع الماضي، ناقش مجلس الوزراء إعفاء 14 شركة ومؤسّسة من دفع غرامات على ضرائب مستحقّة. وفي حين أن وزير الإعلام جمال الجرّاح بذل جهداً كبيراً في نقاشه للقول إن هذه الشركات سيتمّ إعفاؤها من دفع الغرامات، إلّا أنه تهرّب من تفسير ثلاث مسائل: أولاً، لماذا لم تدفع هذه الشركات ضرائبها في الوقت المحدّد؟ ثانياً، لماذا يجب إعفاؤها من دفع الغرامات التي تراكمت على مرّ سنوات عديدة؟ وثالثاً، لماذا تتلقّى هذه الشركات فقط، التي تجمع البعض منها علاقات بالنخب السياسية، معاملة تفضيلية في حين لا تتلقاه شركات أخرى؟إن هذه الإعفاءات من الغرامات المفروضة على الضرائب المتأخّرة ستشكّل فعلياً إعفاءً من الضرائب، لأنها تقلّل من حوافز هذه الشركات للالتزام بالقانون في المستقبل. ويشكل ذلك أيضاً رسالة للشركات الأكبر حجماً والأكثر تحقيقاً للأرباح في البلاد، مفادها أن التهرّب من الضرائب جائز. وكذلك ستؤدّي إعفاءات تشويهية وانتقائية مماثلة إلى مزيد من التقويض في ثقة الأعمال التجارية والطبقة العاملة اللبنانية في شرعية مؤسّسات الدولة، وإلى تعزيز التصوّر المتشارك على نطاق واسع بأن النخب السياسية ستواصل استغلالها للسلطة من أجل الحفاظ على مكانتها المتميّزة.
أمّا الأكثر أهمّية، هو أن هذه الإعفاءات الضريبية تنتهك روحية البيان الوزاري وبرنامج «سيدر» للإصلاح. ففي كل من هاتين الوثيقتين، التزمت الحكومة بتعزيز قاعدة الإيرادات وتقليص الثغرات التي تسمح بالتهرّب الضريبي. بالتالي، ستحرم الإعفاءات الخزينة من الإيرادات التي هي في أمسّ الحاجة إليها لاحتواء العجز في الموازنة. هذا النوع من الانتهاكات بالتحديد، أي رفض دفع حصّة عادلة من الضرائب من خلال معدّل ضرائب أدنى أو إعفاءات ضريبية أو تهرّب من دفع الضرائب، هو ما أجبر لبنان على التماس مساعدات دولية للاستثمار في بنيته التحتية العامة.
فلننظر في الوقائع؛ ذهب لبنان إلى باريس لجمع الأموال من أجل إعادة تأهيل البنية التحتية المتداعية فيه. وهو ما تؤكّده دراسة حديثة أجراها المركز اللبناني للدراسات، تظهر أن نوعية البنية التحتية سيئة بالفعل، لكن ليس بسبب وجود النازحين السوريين وفق ما يزعم بعض السياسيين.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

وبدلاً من ذلك، نقوم بتحديد سببين أساسيين: أولاً، فشل لبنان في إنفاق ما يكفي على البنية التحتية لسنوات عديدة. في الواقع، يبلغ مستوى النفقات الرأسمالية إلى مجموع الناتج المحلّي الإجمالي أقل من 2%، وهو أدنى بكثير من المعدل المسجّل في البلدان النظيرة (6%)، وبالكاد يكفي للحفاظ على البنية التحتية الموجودة. ثانياً، تجري إدارة الأموال التي تمَّ تخصيصها للإنفاق الرأسمالي بشكل سيّئ.
لقد فشلت الحكومات المتعاقبة في معالجة أوجه القصور وتوسيع قاعدة الإيرادات. نتيجة لذلك، تقيّدت الخزينة بشدّة بأولويات إنفاق أخرى، لا سيّما دفع الفوائد على سندات الخزينة، ورواتب موظّفي الدولة، وتحويلات على غرار التحويلات لمؤسسة كهرباء لبنان. وتشكّل بنود هذه النفقات الثلاثة وحدها نحو 80% من موازنة الدولة، ولا يمكن تقليصها أكثر، وبالتالي، لا يترك هذا سوى حيّز مالي ضيّق لتوسيع النفقات الرأسمالية على المدى القصير.
ولا تشكّل أنماط الإنفاق غير المجدية سوى وجهاً واحداً من العملة، إذ يتبيّن أن جباية الإيرادات تمثّل إشكالية أكبر حتى، ما يجعل جباية لبنان للضرائب منخفضة نسبياً بالنسبة إلى حجم اقتصاده.
وعند المقارنة ببلدان نظيرة تقع ضمن هامش الدخل المتوسط، نجد أنّ نسبة الإيرادات الضريبية إلى الناتج المحلّي الإجمالي في لبنان بلغت 13.6% عام 2015، ما جعل تصنيفه أدنى بكثير من المعدّل العالمي للدول ذات الدخل المتوسط (16.4%).
ويعود أحد أسباب هذه المستويات المنخفضة من الضرائب إلى أن الحكومات اللبنانية اختارت تفادي فرض الضرائب الملائمة على الشرائح الأكثر ثراءً في المجتمع. في الواقع، تعوّل الخزينة بشكل كبير على الضرائب غير المباشرة والضرائب التنازلية لتمويل أجهزة الدولة، وهو ما يضع فعلياً عبئاً ضريبياً غير متناسب على الشرائح الأكثر فقراً في المجتمع. وتشكّل هذه الضرائب التنازلية، بما فيها الضرائب على السلع والخدمات (أي الضريبة على القيمة المضافة)، والإيرادات غير الضريبية (أي رسوم المكوس) ثلثي إيرادات الدولة. وعلى العكس من ذلك، شكّلت الضرائب المفروضة على الشرائح الأكثر غنى في المجتمع، مثل ضرائب الدخل، والأرباح، وأرباح الأسهم، المتأتية من كل من الأفراد والشركات نحو 17% فقط من إجمالي الإيرادات خلال العقد المنصرم.
لا يفرض النظام الضريبي الحالي أعباءً أكبر على الفقراء منه على الأغنياء فحسب، بل ازدادت أوجه عدم المساواة في النظام الضريبي اللبناني أيضاً مع الوقت، ما أسهم في زيادة ملحوظة في الدخل وفي انعدام المساواة على مستوى الثروات خلال العقدين المنصرمين. وقد أظهرنا في دراسة حديثة، إن بنود الإيرادات الضريبية التي شكّلت عبئاً على الطبقتين الوسطى والعاملة في المجتمع بين عامي 2008 و2016، نمت بوتيرة أسرع من البنود الضريبية التي تطال المداخيل الأعلى. مثلاً، ارتفعت الإيرادات الضريبية من الرواتب والأجور، أو السلع مثل التبغ والكحول، بنسبة 12.8% و10.8% على التوالي، في حين أن الإيرادات الضريبية من أرباح الشركات ازدادت بنسبة 8.5%، والأرباح الرأسمالية والأسهم بنسبة 7.7%، والضريبة على الأملاك بنسبة 6.2%. يضاف إلى ذلك، رسم الإنتقال الذي يشكّل أداة قوية للحدّ من عدم المساواة على مستوى الثروات وتمويل الخدمات العامّة، غائب بشكل ملحوظ عن مزيج الإيرادات العامّة، إذ لا يساهم سوى بنحو 5% منها. في الواقع، لقد كان معدّل نموّها بالقيمة الحقيقية سلبياً منذ عام 2011.
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ. ففي حين أن الضريبة الاسمية المنخفضة على المداخيل العالية نسبة إلى ثروة الاقتصاد تعدّ إشكالية بحدّ ذاتها، كذلك النظام الضريبي الحالي هو عرضة لتهرّب ضريبي على نطاق واسع. ويوفّر تقريران صدرا مؤخراً تقديراً لمقدار التهرّب الضريبي في لبنان، الذي ارتفع مجموعه من 1.13 مليار دولار عام 2015 (2.28% من الناتج المحلّي الإجمالي) إلى 5 مليارات دولار (10% من الناتج المحلّي الإجمالي).
وتأتي ثغرة مماثلة على مستوى التهرّب الضريبي مساوية تقريباً للعجز في الموازنة العامة. ولدى المقارنة مع بلدان أخرى تقع ضمن الشريحة العليا للبلدان ذات الدخل المتوسط، نجد أن نتيجة لبنان تأتي مجدّداً أسوأ بكثير من المعدّل العالمي الذي يبلغ 0.7% من الناتج المحلّي الإجمالي. ويجد التقريران الآنف ذكرهما أن التهرّب من ضريبة الدخل على أرباح الشركات، وعلى الرواتب والأجور، هو المسبّب الأساسي خلف ضياع إيرادات الضرائب. في الواقع، تبلغ نسبة تهرّب الشركات من دفع الضرائب في لبنان إلى مجموع الإيرادات من ضرائب الشركات 54%. بعبارة أخرى، تشكّل الإمكانات غير المستغلّة لفرض الضرائب على أرباح الشركات أكثر من نصف الضرائب المدفوعة فعلياً.
وفي حين يواجه لبنان أوقاتاً من الضيق الحادّ على مستوى الاقتصاد والموازنة، تُعدّ الإعفاءات الضريبية المقترحة على شركات مختارة مضرّة بالاقتصاد، والخزينة، وموثوقية الدولة، وفي نهاية المطاف بالشعب اللبناني. بالتالي يجب ألا تتم الموافقة عليها. وسيكون من شأن رفضها توجيه رسالة قوية للبنانيين، وكذلك لمجتمع المانحين، بأن هذه الحكومة باتت أخيراً جدّية في جهودها الهادفة إلى الامتثال لروحية خطط الإصلاح التي التزمت بها.

سامي عطا الله
* المدير التنفيذي للمركز اللبناني للدراسات

منير مَهْملات
* زميل بدرجة دكتوراه لدى المركز اللبناني للدراسات