إذا نظرنا إلى المستقبل، وتساءلنا عمّا إذا كانت الثروة النفطية الموعودة مرشّحة لتصبح نقطة انطلاق للعديد من الإنجازات التي يتمنّاها اللبنانيون، أو «لعنة» تقضي على ما بقي لهم من آمال، فالجواب هو أن التجربة العملية التي عشناها حتى اليوم، وخصوصاً في مجالي ترسيم الحدود البحرية وفي الدخل البترولي الأوّل الذي عرفه لبنان ولم يرَ أي مواطن دولاراً واحداً منه، تجربة من الصعب اعتبارها مشجّعة. كذلك لا بد من جرعة كبيرة من الجهل أو السذاجة للقول إن التدابير التشريعية والتنظيمية وغيرها ستحول دون هدر هذه الثروة وتفشّي الفساد إلى درجة لا تقلّ عمّا نشاهده اليوم في نيجيريا أو أنغولا أو فنزويلا أو غيرها من بلدان العالم الأكثر تخلّفاً وفساداً.يوجز هذا المقال أبرز الخطوات التي تحقّقت حتى اليوم تحت اسم «السياسة البترولية»، وفق تسلسلها الزمني، وتداعيات هذه السياسة على اقتصاد بلدنا وعلى مستقبلنا ومستقبل أولادنا.

1- تبعات كارثية لترسيم الحدود البحرية
الخطوة العملية الأولى، التي حقّقها لبنان على طريق استكشاف البترول والغاز في المناطق البحرية، كانت توقيع اتفاقية ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة مع قبرص في العام 2007. خطوة أولى كانت للأسف أول خطأ جسيم يعود إلى موافقة الوفد اللبناني آنذاك على خط بحري فاصل بين البلدين ينطلق من رأس الناقورة إلى نقطة «1» في عرض البحر، بدت وكأنها النقطة الثلاثية لتقاطع الحدود البحرية بين لبنان وقبرص والكيان الصهيوني. وقد حاولت الحكومة اللبنانية فيما بعد تدارك هذا الخطأ وأبلغت الأمم المتحدة بذلك، استناداً إلى عدد من الخرائط والأدلة التي تثبت أن النقطة الثلاثية التي يجب اعتمادها هي النقطة «23»، التي تقع على بعد 17.2 كيلومتراً إلى الجنوب الغربي من النقطة «1». إلا أن إسرائيل سارعت إلى استغلال هذه الثغرة عندما أعلنت في تموز 2011 ترسيم حدودها مع قبرص، مشيرة إلى أن النقطة «1» هي النقطة الثلاثية التي تعتبرها صحيحة، ما يعني سلخ مثلث بحري تبلغ مساحته 854 كيلومتراً مربعاً (يغطّي على الأرجح مكامن عدّة من البترول والغاز) من المنطقة الاقتصادية الخالصة العائدة إلى لبنان. والعجيب أنه لم تجرِ حتى اليوم أية مساءلة حول أسباب ما حصل وهوية المسؤولين عن خطأ أدّى إلى نزاع حدودي ينطوي على خطر هدر قسم من الثروة البترولية والغازية الموعودة، علاوة على خطر نشوب حرب جديدة مع العدو الإسرائيلي. نزاع لا يرى اليوم أحد نهاية قريبة له بعد المقابلة الصاخبة التي جرت في آخر نيسان/ أبريل الماضي في واشنطن بين الوفد اللبناني ومساعد وزير الخارجبة الأميركية.

2- لغز اختفاء 200 مليون دولار حصيلة بيع نتائج المسوحات الزلزالية والجيوفيزيائية
أهمّ هذه المسوحات الثنائية والثلاثية الأبعاد قامت بها بين عامي 2008 و2012 شركتا GPS وSpectrum، وغطّت القسم الأكبر من المنطقة الاقتصادية الخالصة، تلاها في العام 2014 مسح قامت به شركة NEOS Geosolutions، وغطّى 6 آلاف كيلومتر مربّع موزّعة بين ألفي كلم2 من المناطق البحرية الملاصقة للساحل، و4 آلاف كلم2 من المناطق البرية. والغريب أن كل هذه المسوحات من دون استثناء جاءت نتيجة لعقود وُقِّعَت سرّاً، خلافاً للقوانين المرعية، وبالتراضي، ومن دون استدراج عروض. ما يعني استحالة معرفة أسباب اختيار الشركات المذكورة دون غيرها، وعدم إمكانية مقارنة الشروط التي اتُّفق عليها مع الشروط التي كان بالإمكان الحصول عليها من شركات عالمية عدّة معروفة بكفاءتها في هذا المجال.
إن المعلومات المتوافرة، بشكل غير رسمي طبعاً، تشير إلى أن مجموع ما دفعته الشركات البترولية المعنية لشراء معطيات نتائج (Data) المسوحات المذكورة ناهز 200 مليون دولار في نهاية 2018. أمّا التكاليف فتقدّر بنحو 25 مليون دولار في حدّ أقصى، موزّعة بين 17 مليون دولار للمسوحات البحرية، و8 ملايين دولار في حدّ أقصى للمسح الأخير بري/بحري في العام 2014، ما يترك أرباحاً كبيرة تقدَّر بنحو 175 مليون دولار، لم تصدر حتّى الآن أي معلومة أو أي إشارة إلى كيفية توزيعها بين وزارة الطاقة، من جهة، والشركات التي قامت بالمسوحات المذكورة والوسطاء والسماسرة الذين دخلوا علناً أحياناً في هذه «الصفقات»، من جهة ثانية. وعندما سُئِل وزير الطاقة ما قبل الأخير عن حصّة لبنان، أجاب غاضباً في مقابلة مع مجلّة Executive: «لماذا هذا السؤال؟ وهل يحقّ لي أن أسألك عن رصيد حسابك المصرفي؟». وكأن الموضوع يتعلّق بعملية تهريب مخدّرات! هذا وبانتظار جواب أكثر وضوحاً، تجدر الإشارة إلى أن الرقم الوحيد الذي تتناقله بعض الصحف كحصّة لبنان من المسوحات المذكورة هو 32 مليون دولار. ومهما كان الرقم الحقيقي، يبقى أن الأسئلة الحقيقية والأهم هي: كيف جرى التوصل إلى هذا المبلغ الذي يوصف بالرسمي؟ ولماذا هذه السرّية؟ وإذا كان هذا أسلوب التعاطي مع الدخل البترولي الأوّل في لبنان الذي يقاس بعشرات ملايين الدولارات، فكيف ستكون الحال عندما يبدأ الإنتاج الموعود وتبلغ قيمته المليارات؟

3- تزوير القانون البترولي عبر تعطيل دور الدولة في الأنشطة البترولية
بعدما أكّد القانون البترولي حقوق ملكية الدولة الحصرية للثروة البترولية والغازية، ومشاركتها الفعلية والمباشرة في الأنشطة البترولية في إطار نظام تقاسم الإنتاج، جاء المرسوم التطبيقي43/2017 ليلغي بكل بساطة هذه الأحكام، وذلك عبر بضع كلمات تنصّ في المادة 5 على أنه «لن يكون للدولة مشاركة في دورة التراخيص الأولى». ما يعني تلقائياً استبدال نظام تقاسم الإنتاج الذي نصّ عليه القانون بنظام الامتيازات القديمة، وإفقاد الدولة كامل حقوق الملكية على كل ما يُكتشَف من البترول والغاز، لمصلحة الشركات صاحبة الامتياز، وحرمان الدولة إمكانية القيام بدورها المحوري في توجيه هذه الصناعة وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية... إلخ. هذا الانتهاك لقانون وضعه مجلس النواب يوحي بأن بعض موظّفي وزارة الطاقة قد اعتبروا أن السلطة التشريعية مجرّد فولكلور.

4- دمج كل المراحل من الاستطلاع إلى الإنتاج في اتفاقية واحدة
خلافاً للقانون، وعلى عكس الأعراف السائدة في سائر أنحاء العالم، لا يأتي المرسوم التطبيقي43/2017 على ذكر رخصة استطلاع مستقلّة وأولية تسبق مرحلة الاستكشاف والإنتاج، بل يدمج كل هذه المراحل بعضها مع بعض في اتفاقية واحدة توقَّع مع المتعهّد الأجنبي تحت عنوان «إتفاقية استكشاف وإنتاج»، ولمدة تقارب الأربعين عاماً.

5- تقسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة إلى 10 رقع فقط
يبلغ متوسّط مساحة كل رقعة من الرقع العشر، التي تشكّل المنطقة الاقتصادية الخالصة، نحو 1.900 كلم2، أي خمس مرّات أكبر من الرقع الإسرائيلية البالغة 69 رقعة ولا تتجاوز مساحة كل منها 400 كلم2. كذلك الأمر في النروج حيث لا تتجاوز مساحة الرقعة الواحدة 500 كلم2 (وأقل من ذلك في المياه البريطانية). مع العلم أن الجرف القاري النروجي يغطّي مساحة 2.140.000 كلم2، أي أكثر من مئة مرّة كامل المنطقة الخالصة اللبنانية.

6- دخل بترولي مُرتقب من الأدنى في العالم
كل مكوّنات الدخل البترولي المرتقب هي، من دون استثناء، تقلّ عن مثيلاتها في شتّى أنحاء العالم، انطلاقاً من إتاوة هزيلة لا تتجاوز 4% من قيمة إنتاج الغاز، في مقابل مؤشّر عالمي متعارف عليه منذ أكثر من قرن لا يقلّ عن 12.5%، أي ثُمن قيمة الإنتاج. إلى ضريبة على الأرباح تبلغ 20% في مقابل متوسّط عالمي لا يقلّ عن 26%. في النتيجة، إن دخل الدولة الكلّي في لبنان لن يتجاوز خلال السنوات الأولى من الإنتاج، وفي أحسن الحالات، 37% من مجموع الأرباح، في مقابل معدّل 65-85% في عشرات البلدان التي تطبق نظام تقاسم الإنتاج الذي نصّ عليه القانون البترولي وزوّره واضعو المرسوم المشؤوم 43/2017.
لا تقتصر الخطوات الفاسدة على ما ورد أعلاه، فهناك مثلاً التأهيل الرسمي المُسبق لشركات مارقة مُلاحقة قضائياً، أو شركات لا وجود لها إلّا على الورق كتلك التي سجّلها في هونغ كونغ رجل أعمال معروف برأسمال 1.300 دولار فقط لا غير، أو الاستعاضة عن مشاركة الدولة في الأنشطة البترولية بـ«مراقب» أبكم يقترح وزير الطاقة تعيينه لحضور بعض اجتماعات لجنة إدارة الشركات الأجنببة العاملة، أو إعطاء الوزير نفسه صلاحية إعطاء التعليمات لتسويق كل كمّيات البترول والغاز التي يحقّ للدولة أن تتسلّمها عيناً، إلخ… يضاف إلى ذلك عملية الغشّ والتضليل المستمرّة منذ سنوات تحت غطاء تطبيق النموذج البترولي النروجي، برعاية الجيولوجي النروجي من أصل عراقي فاروق القاسم («خبراء بترول، مسؤولون أم مرتزقة؟» - «الأخبار» في 18 كانون الثاني/ يناير 2018).
مهما أحسنّا الظن، فمن الصعب على أي لبناني ألّا يرى في هذه التدابير المذهلة بذور النهب والفساد، تزرع في اتفاقيات تعقد لمدّة أربعين عاماً ويصبح من الصعب التراجع عنها.

* باحث في شؤون البترول


سابقة النزاع بين روسيا وشركة شل
في مقابلة نشرت في جريدة «النهار» بتاريخ 20 نيسان/ أبريل 2017، طُرح على رئيس هيئة إدارة البترول سؤال عن سبب تأخير إنشاء شركة نفط وطنية إلى ما بعد اكتشاف البترول، فكان الجواب المذهل: «إن هذا الأمر ليس لأبد الآبدين، فمرسوم تلزيم البلوكات يمكن أن يعدَّل بمرسوم آخر عندما نتأكّد أن هناك اكتشافات واعدة في البحر، يمكن أن ندخل بنسب معيّنة وتكون النتيجة مضمونة أكثر» (هكذا بالحرف الواحد!). جواب مذهل لأنه يدعو إلى التساؤل عمّا إذا كان واحد من كبار المسؤولين عن قطاع البترول في لبنان يجهل أن اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج التي تُعقد مع شركات بترول عالمية هي أقرب ما يكون إلى معاهدة دولية تلزِم الأطراف المعنية، ولا يمكن تعديلها أو إلغاؤها بمجرّد مرسوم حكومي أو حتّى ملكي. وحتى إذا افترضنا جدلاً أن الحكومة اللبنانية اعتبرت لسبب أو لآخر أن شركة البترول الوطنية ستنشأ بعد اكتشاف البترول، فهذا لا يمنعها بأي شكل من إدراج بند في الاتفاقيات المذكورة ينصّ صراحة على أن للدولة حقّ الدخول كشريك، بنسبة معينة، في حال اكتشاف البترول أو الغاز بكمّيات تجارية. وذلك تطبيقاً لأحكام القانون البترولي 132/2010 التي تنصّ على مشاركة الدولة في إطار نظام تقاسم الإنتاج. ومن البديهيات أن إدراج هذا البند الأساسي يجب أن يكون عند توقيع كلّ اتفاقية، لا بعد ذلك. وإلّا فإن حقّ مشاركة الدولة يطير وتطير معه حقوق ملكيتها على كامل ما يُكتشَف من البترول والغاز، فضلاً عن كل ما يترتب لها من مكاسب وفوائد أخرى في إطار المشاركة.
السابقة الوحيدة المعروفة التي تمكّنت فيها دولة مُنتجة من تعديل أو إلغاء عقد تقاسم إنتاج، حصلت في العام 2006 عندما اكتشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خللاً في الاتفاقية التي وُقِّعَت في عهد بوريس يلتسين مع شركة شل لاستغلال حقل غاز في جزيرة ساكالين قبالة سيبيريا. يتعلّق هذا الخلل بالمهلة الزمنية لاسترداد النفقات من قبل شركة شل وغير ذلك من الشروط المالية، بشكل مخالف لما هو متعارف عليه في العالم ومضرّ لروسيا. فنشب نزاع حادّ مع شركة شل، التي اضطرت في النهاية إلى قبول كل التعديلات التي طالب بها بوتين، وفي طليعتها تنازلها عن حصة الغالبية 55% التي كانت تتمتع بها إلى 25% فقط لمصلحة غازبروم الروسية.
ولكن من أين للبنان الأساطيل وأسراب الميغ وقوّة روسيا لاستعادة حقوقه؟