وفق المادة 83 من الدستور، يتوجّب في «كلّ سنة، في بدء عقد تشرين الأول/ أكتوبر، أن تقدّم الحكومة لمجلس النواب موازنةً شاملةً نفقات الدولة ودخلها عن السنة المقبلة». وتنصّ المادة 87 على وجوب عرض الحسابات المالية النهائية لكلّ سنة، ليوافق عليها مجلس النواب «قبل نشر موازنة السنة التالية التي تلي تلك السنة».وتعرّف المادة 3 من قانون المحاسبة العمومية الموازنة بأنها «صكّ تشريعي، تقدّر فيه نفقات الدولة وإيراداتها، عن سنة مقبلة، وتجاز بموجبه الجباية والإنفاق». وجاء في المادة 5 أن قانون الموازنة يجب أن «يحتوي على أحكام أساسية تقضي بتقدير النفقات والواردات، وإجازة الجباية، وفتح الاعتمادات اللازمة للإنفاق، وعلى أحكام خاصّة تقتصر على ما له علاقة مباشرة بتنفيذ الموازنة».
بمعنى ما، كان المفروض بموجب هذه الأحكام الدستورية والقانونية أن نكون بانتظار مشروع موازنة 2020، وليس 2019، وأن ننتظر موازنة سنوية وشاملة ومستوفية الشروط، تعكس الوضع الحقيقي للمالية العامّة وتعبّر عن سياسات الدولة في المجالات كافة. كما كان من المفروض أن يكون مجلس النواب عاكفاً على دراسة الحسابات المالية النهائية للدولة، كشرط يسبق الموازنة، ولا سيّما بعدما زالت الحجج السابقة لعدم القيام بهذه الوظيفة الرقابية، إذ أنجزت المديرية العامّة للمالية العامّة تقارير مُفصّلة وقطوعات حساب مُدقّقة عن كل الحسابات منذ عام 1993 حتى عام 2017، وبالتالي صار التدقيق فيها واجباً قبل أي عمل آخر.
للوهلة الأولى، يظهر التذكير بهذه الأحكام الدستورية والقانونية كنوع من الترف، أو كتمرين لا فائدة منه في مواجهة الظروف القائمة والمخاطر المُحدقة. ففي الواقع، نحن على يقين أن جميع الحكومات والمجالس النيابية لم تلتزم بهذه الأحكام الإجبارية، أقلّه منذ اتفاق الطائف وإنهاء حالة الحرب (1975-1990). فقد جرى إنفاق الأموال العمومية وجباية الضرائب والرسوم من دون أي رقابة أو مساءلة، وعلى مدى سنوات طويلة كانت الموازنات السنوية لا تقرّ أو تقرّ بعد وقت طويل من انقضاء المهل، وكلّها كانت ناقصة لا تتضمّن كلّ الإنفاق وكلّ الإيراد، ويوجد إنفاق كبير خارج الموازنة ومن دون اعتمادات، كما يوجد متأخّرات كبيرة غير مُسدَّدة وغير مُحتسبة في الدَّيْن العام تعود لصندوق الضمان والمستشفيات والمتعهّدين والاستملاكات وغيرهم... ومنذ عام 1979 لم تصدر قطوعات حساب مُدقَّقة ونهائية، وإنّما جرى أحياناً إصدار قوانين قطع حساب غبّ الطلب لاستيفاء شرط نشر قانون الموازنة فقط لا غير.
ما فائدة التذكير بكلّ ذلك الآن؟ وأي جديد يمكن أن يضيفه على النقاش الجاري في شأن مشروع قانون موازنة عام 2019؟
على مدى السنوات الثلاثين الماضية، شكّلت مقولة «بناء الدولة» أو «العبور إليها» الستار الأيديولوجي المناسب لترسيخ نظام الحرب نفسه ومجتمعه المُضاد واقتصاده الأسود وتمديد آليّاته التوزيعية الكارثية إلى أطول زمن مُمكن. فهذه المقولة نجحت نجاحاً باهراً في إيهام الكثير من الناس بأن النظام الذي يعيشون في كنفه ويرضخون له في إدارة كلّ صراعاتهم وعلاقاتهم ومصالحهم وعاداتهم وحقوقهم وواجباتهم، هو نظام «مؤقّت»: نظام «اللادولة»، غير الموجودة أصلاً والتي علينا إيجادها، أو التي جرى تدميرها وإفسادها، وعلينا أن نعيد إصلاحها وبناءها... وفي كلّ هذه الحالات، كانت مقولة «غياب الدولة» تعني، من جملة ما تعنيه، أن النظام اللبناني القائم بالفعل هو نظام انتقالي، بانتظار بناء الدولة الموعودة منذ الأزل، التي تُرسم مثل كائن أسطوري بلا ملامح مُحدّدة ولا جذور ولا حتى اسم معروف. كما تعني هذه المقولة، قبل أي شيء آخر، أن ممارسة السلطة، أي سلطة، في ظلّ نظام مؤقّت في حالة انتقالية وظروف استثنائية دائمة ومستمرّة، مضطرة في سبيل تحقيق «مصلحة عامّة» الى أن تعتمد القاعدة، التي تمليها نظرية «الظروف القاهرة»، والتي تقوم على مبدأ أن: «لكلّ قاعدة استثناء». وهكذا، جاءت عبارة «وينيه الدولة» الساخرة بوصفها التعبير الأكثر وضوحاً عن عمق الاختراق الذي أحدثته مقولة «عدم وجود دولة» في الوعي الجمعي، ومدى مساهمتها الفعّالة في تمكين القوى التي هيمنت على الدولة والاقتصاد والمجتمع المدني في الحرب ومرحلة إعادة الإعمار من إرساء نظامها الدائم والثابت القائم على مبدأ: «الاستثناء هو القاعدة».
يجسِّد النقاش الجاري حالياً في شأن مشروع الموازنة المثال على أن هذا النظام «الاستثنائي» متين وراسخ، لا مؤقّت ولا انتقالي، وأن القوى المُهيمِنة متمسِّكة به، لا مُجبرة ولا مُضطرة، بل تعبيراً عن خيارات سياسية ومصالح اجتماعية واقتصادية وولاءات محلّية وخارجية، وبالتالي، فإن وجود «الموازنة» بذاته، وتزامن طرحها مع حملة «بوليسية» لافتة لتهذيب الناس وتعليمهم «الأخلاق» و«الانضباط»، هو دليل مادي على أن الدولة موجودة، وصورتها كما هي اليوم هي صورتها الحقيقية، والنتائج الماثلة على المستويات كلّها لم تنجم عن ظروف قاهرة، بل هي النتائج التي ترتّبت حتى الآن عن وجود هذه «الدولة» بالذات وفشل القوى المُهيمنة عليها في إدارة سلطتها وتوزيع ريوعها من دون مراكمة المزيد من المخاطر والضعف وعوامل الانفجار.
لأسباب كثيرة، تتعلّق بمتغيّرات محلّية وخارجية وتخصّ حركة رأس المال عبر الحدود تحديداً، جرى تقديم مشروع موازنة عام 2019 بوصفه «فرصة أخيرة» قبل «الانهيار» و«الإفلاس» و«الخراب». وأشاعت القوى المُهيمنة خطاباً مشتركاً يدعو «الجمهور الموعود بالدولة» إلى القبول بالمزيد من التقشّف والاستعداد لبذل المزيد من التضحيات وتحمّل المزيد من الضرائب والخسائر والدخل الفائت... ليس في سبيل إيجاد تحقيق الدولة الموعودة، غير الموجودة، بل في سبيل إنقاذ الدولة الموجودة، التي يشكو الجميع غيابها.
لنمعن قليلاً بما يحصل الآن.
فجأة، ومن دون مقدِّمات، لم يعد خطاب «أين الدولة» يركّز على علّة الدولة الغائبة والضعيفة والعاجزة والمُرتهنة لمصالح ضيّقة وقصيرة النظر، بل انتقل بسحر ساحر إلى التركيز على أن هذه «اللادولة» هي في الواقع دولة فائضة، متضخّمة جدّاً، وفاسدة، ويجب تقليص حجمها.
لقد عقد مجلس الوزراء 15 جلسة لمناقشة مشروع موازنة هذا العام، وتبارى الجميع، حتى في صفوف الجمهور، في مسابقة مفتوحة للوصول إلى «أكثر موازنة تقشّفية في تاريخ لبنان»، وتمّ وضع أهداف قياسية لتخفيض العجز المالي عبر تخفيض الإنفاق العام على كلّ شيء تقريباً، الأجور ومعاشات التقاعد والحماية الاجتماعية والاستثمار والصيانة والتشغيل والاستهلاك والمشتريات والدعم والتحويلات... يجري الآن تخفيض كلّ إنفاق من أي نوع، حتى مدفوعات الفوائد على الدَّيْن. لقد تمّ تصوير ما يحصل على أنه عمليّات محاسبية لا بدّ منها لاستعادة التوازن المالي وضمان قدرة الدولة على دفع ديونها دائماً والمحافظة على الاستقرار النقدي، ولا سيّما في ميزان المدفوعات وسعر الصرف والتضخّم والنظام المصرفي عموماً.
بمعنى ما، ما يحصل في مشروع موازنة 2019 هو تماماً ما كان يحصل منذ الحرب. فكلّ أزمة تضغط لتغيير النظام واستبداله يتمّ تحويلها إلى فرصة لإنقاذه وتطويل عمره. هذا ما حصل في الحرب نفسها، وبعدها في ظلّ الوصاية السورية ومرحلة إعادة الإعمار والإنفاق التوسّعي وتخفيض الضرائب على الأرباح والريوع وانفجار العجزين التوأم المالي والجاري، ولاحقاً مع انفجار المديونية والسياسات التقشّفية وتجميد الأجور والإنفاق الاستثماري وباريس 1 و2 و3 و4، وصولاً إلى الأزمة التي نواجهها الآن، حيث لم نعد قادرين على الحصول على كمّية كافية من الدولارات لتمويل كلّ فاتورة الاستيراد والفوائد على الدَّيْن الخارجي وودائع غير المقيمين وتحويلات العمّال المهاجرين وعوائد رأس المال الأجنبي، وبالتالي يجري وضع الناس أمام الخيار مجدّداً: إمّا أن نضحّي بكلّ ما هو قائم ونترك النظام ينهار، وإمّا أن نضحي من أجل ما هو قائم وننقذ النظام. ولكن أحداً لا يخبر الناس الضعفاء، وهم الأكثرية، أنهم الضحايا المدعوون إلى التضحية مهما كان الخيار.