الركود التضخّمي هو حالة نادرة يمرّ بها الاقتصاد، يكون خلالها النمو بطيئاً أو منكمشاً بالتزامن مع ارتفاع معدّلات البطالة والأسعار، وهو أيضاً من المشكلات الأكثر صعوبة بالنسبة إلى الحكومات، لكون معظم السياسات الهادفة إلى خفض التضخّم تميل إلى زيادة البطالة، والعكس صحيح، أي إن السياسات التي تعمل على مكافحة البطالة تؤدّي إلى زيادة التضخّم. أشهر حالات الركود التضخّمي سُجّلت في الولايات المتّحدة في سبعينيات القرن الماضي، وللخروج منها تبنّى الاحتياطي الفدرالي نظريات ما يُعرف باسم «مدرسة شيكاغو» النيوليبرالية، التي تستهدف ضبط التضخّم وترى في إنفاق الدولة سبباً لارتفاع الأسعار وتكبيل الاقتصاد، بما يفرض مواجهته من خلال الأدوات النقدية، أي عبر رفع أسعار الفائدة للحدّ من النقد المتداول وخفض الأسعار. يشهد لبنان ركوداً اقتصادياً متواصلاً بلغ ذروته العام الماضي، حين سجّل الناتج المحلّي نمواً بنسبة 0.2% فقط، ويترافق ذلك مع ارتفاع في معدّل التضخّم بلغ 6.01%. فهل دخل لبنان في حالة الركود التضخّمي؟
ناصر السعيدي: تحرير الاقتصاد من الدولة والفساد
يمرّ لبنان بمرحلة من الركود التضخّمي، ويظهر ذلك من نسب النموّ الاقتصادي التي لا تتجاوز النصف في المئة، وبتراجع كلّ المؤشرّات الاقتصادية مثل الاستهلاك والاستثمار في السوق العقارية والقروض إلى المؤسّسات الخاصّة وقيمة الإيرادات الضريبية والاستيراد والتصدير، وهي تترافق مع ارتفاع لمعدّل التضخّم ناتج عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات المحلّية ومن التضخّم الذي نستورده من الخارج من خلال السلع المستوردة.
يعود الركود الحاصل إلى أسباب عديدة، أبرزها: التأثّر بالأوضاع الأمنية في المنطقة، ولا سيّما الحرب السورية، والتي حدّت من قدرة لبنان على تصدير منتجاته إلى دول الخليج مروراً بسوريا والأردن، نتيجة إغلاق المعابر البرّية وارتفاع كلفة العبور وصعوبتها، وكذلك أثّرت على السياحة من الخليج والبلدان التي تنظر إلى لبنان كجزء من منطقة مليئة بالأخطار. ويضاف إلى ذلك تراجع صادرات الخدمات اللبنانية، مثل الخدمات المصرفية والمالية والهندسية والإدارية والاستشارية، نتيجة تراجع نسبة النموّ في أبرز الأسواق المستوردة لهذه الخدمات، ولا سيّما بلدان مجلس التعاون الخليجي، وتحديداً الإمارات والسعودية حيث لا تتجاوز نسبة النموّ 2-2.5%، والبلدان الأفريقية والأوروبية. أمّا السبب الأهم فهو عجز المالية العامّة وتمويله بالدَّيْن، ما أدّى إلى رفع معدّلات الفائدة وكلفة خدمة الدَّيْن وحجم المديونية، ورتّب آثاراً على قدرة الشركات في لبنان على دفع الفوائد بعد ارتفاعها وعَكَس نظرة تشاؤمية لمستقبل الاستثمارات في لبنان، فتراجع الاستثمار وبالتالي النموّ والدخل والاستهلاك، ودخلنا في ركود اقتصادي.
يرتّب الفساد كلفة إضافية على الاستثمار لقاء الحصول على الحماية السياسية وضمان نجاحه


الإصلاحات الهيكلية هي أساس الخروج من هذه الحالة. وهي تتضمّن خفض كلفة الأعمال وتحسين بيئتها، خصوصاً أن لبنان يحلّ في أدنى المراتب في تقرير «doing business» الذي يصدره البنك الدولي، نتيجة ارتفاع كلفة الكهرباء والاتصالات واستصدار الرخص، علماً بأن السبب الرئيسي لها هو الفساد الذي يرتّب كلفة إضافية على أي استثمار جديد، ويفرض كلفة إضافية على المستثمرين لقاء الحصول على الحماية السياسية وضمان نجاح أعمالهم. وتضاف إلى ذلك ضرورة إجراء إصلاحات بنيوية في المالية العامّة، وهو ما يقتضي خفض حجم الدولة من خلال إعادة النظر في كيفية تطبيق سلسلة الرتب والرواتب التي رفعت كلفة المعاشات من دون أن ينعكس ذلك على إنتاجية القطاع العام، وتحرير و/أو إشراك القطاع الخاص في القطاعات والمرافق والخدمات التي تتولّاها الدولة بطريقة غير فعّالة ومُنتجة وتدخل في شبكة الفساد والسياسة، مثل الكهرباء والمياه والاتصالات والخطوط الجوّية والكازينو والصحّة، وهو ما يفترض إنشاء صندوق سيادي مسؤول عن إدارة محفظة الشركات التابعة للدولة، وتطبيق قانون الشراكة، وتعزيز عمل الأجهزة الرقابية للحؤول دون احتكار هذه الخدمات من قِبَل القطاع الخاصّ، مع ضمان إدارتها بشكل سليم يدرّ الإيرادات والأرباح ويطوّر هذه البنية التحتية، وهو ما سيسمح للقطاع الخاص بالإنتاج كمدخل للخروج من الركود الاقتصادي وزيادة إنتاجيّته، وبالتالي خفض التكاليف ولجم التضخّم.
وزير الاقتصاد الأسبق ونائب سابق لحاكم مصرف لبنان

ألبر داغر: النهوض يتطلّب دولة رعاية وإنفاق
يخفي مفهوم الركود التضخّمي قراءة نيوليبرالية انطلقت في السبعينيات للانقضاض على دولة الرعاية التي تمّ إرساؤها حتى تلك الحقبة، إذ استخدم التيّار اليميني التضخّم الحاصل، بوصفه نتاج انخراط الدولة في الاقتصاد وإنفاقها على الاستثمار، فتمّت شيطنة الدولة وإنفاقها كمدخل للتدخّل في السياسة بعيداً من الآثار التي قد تترتّب على النموّ والبطالة، وإجبارها على الانسحاب لصالح الريوع المالية والخصخصة التي أدّت إلى الكساد الاقتصادي الحاصل في العالم اليوم.
في الحالة اللبنانية، لا شكّ أن هناك ضعف في النموّ الاقتصادي، إلّا أنها حالة مُزمنة وتتفاقم باستمرار، أمّا التضخّم فهو يراوح بين 4 و6%، وأحياناً يكون سالباً، ما يعني أنه لا يزال ضمن الهوامش الطبيعية، وهو يأتي نتيجة غياب الرقابة على التسعير. وبالتالي نحن لسنا في حالة ركود تضخّمي، فهذه الحالة لا تحصل إلّا عند ارتفاع معدّل التضخّم إلى أكثر من 10% واستمراره في الارتفاع لمدّة زمنية طويلة نسبياً، وهي مشكلة تعالج بتجميد الأجور والأسعار، كما حصل في فرنسا، وليس بالسياسة النقدية ورفع الفائدة التي خلقت انكماشاً اقتصادياً وخفضت الاستثمار والإنتاج.
تعود أسباب الركود الاقتصادي في لبنان إلى تخلّف الدولة اقتصادياً منذ المتصرفية حتى اليوم، وإلى النموذج الاقتصادي الريعي الذي أرسِي بعد الحرب على حساب الاقتصاد المُنتج. انطلق هذا النموذج من قرار اتُخذ بالإنفاق على البنية التحتية، وتحديداً المرافئ والمطار والهاتف، في مقابل إغفال دعم القطاعات الإنتاجية. وترافق ذلك مع تنامي العجز المالي وتمويله بالدَّيْن، ما أدّى إلى ارتفاع المديونية العامّة، واللجوء إلى تثبيت سعر الصرف، الذي يعدّ عامل جذب مهمّ للأموال الخارجية، وأهمّ من سياسة الفائدة المرتفعة، لأنه يضمن أرباح المدينين والمودعين ويحميهم من تقلّبات سعر الصرف، فهؤلاء لا شكّ يهمّهم الحصول على فوائد عالية، ولكن الأهمّ بالنسبة إليهم أن لا يخسروا هذه الفائدة عبر تحرّكات سعر الصرف.

الخروج من حالة الفشل الاقتصادي وإخفاق الدولة في التنمية يتطلّب التخلّي عن المقاربة النيوليبرالية

في المقابل، أدّت سياسة التثبيت إلى رفع سعر الصرف الحقيقي، أي كلفة الإنتاج المحلّي بالمقارنة مع كلفة الإنتاج في الخارج، بنحو 100% بين عامي 1990 و2000، فضربت كل إمكانية لبناء استثمار مُنتج بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج وغياب دعم الدولة للقطاعات المُنتجة وتفريغ الإدارة العامّة من العناصر الجيّدين القادرين على بلورة تصوّرات اقتصادية للمستقبل واستبدالها بالمنظّمات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين. وتضاف إلى ذلك سياسة التحرير التجاري وإلغاء الرسوم الجمركية منذ بداية الألفية الثانية، والتي قضت على القطاعات المُنتجة التي كانت لا تزال قائمة، وهو ما تُرجم بهجرة ثلث القوى العاملة الشابّة بين عامي 1992 و2007.
الخروج من حالة الفشل الاقتصادي وإخفاق الدولة في التنمية يتطلّب التخلّي عن المقاربة النيوليبرالية التي تحرّر التجارة وتنتظر تدفّق الاستثمار الأجنبي ليقوم بالتنمية، وفق شروطه ومن دون عوائق على خروج الرساميل وعلى التجارة، واستبدالها بمقاربة بديلة، إسوة بالبلدان التي لم تتبع وصفات المؤسّسات الدولية ونجحت في التحوّل الصناعي مثل كوريا وإيران، وهو ما يقضي بتدخّل الدولة كمستثمر أوّل يطلق عجلة التحويل الصناعي، ودعم القطاعات المُنتجة وحمايتها، وبالتالي خلق فرص عمل ورفع الإنتاجية وتأمين الخدمات والسلع، والاستفادة من رأس المال البشري المحلّي في عملية الإنتاج والابتكار، وتمويل هذه الحلقة من الودائع الموجودة، التي تساوي 3 أضعاف الناتج الوطني.
رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية