«في الشرق الأوسط الحديث، الرسالة التي كانت موجّهة إلى الطبقات، جرى إيصالها، بدلاً من ذلك، إلى الأديان»
فرانسيس فوكوياما


في يوم العمّال العالمي كان لبعض الأحزاب الحاكمة سلسلة نشاطات، من خطاب رئيس حزب القوات اللبنانية الفوقي والتلقيني، وصولاً إلى البوستر الذي نشره نائب رئيس التيّار الوطني الحرّ على وسائط التواصل والذي بدا في «لبنانيّته» معادياً للأجانب. هذه النشاطات كانت في الظاهر فولكلورية، لكنها ــ في المضمون ــ عكست أهمّ تناقض موجود اليوم في المجتمع اللبناني، ألا وهو التناقض بين «الهوية» و«الطبقة». وهذا التناقض ليس على الأسبقية الأونتولوجية، أي من قبل من، الطبقة أو الهوية، بل على تحديد أسس السياسة في لبنان ومفاعيلها. في هذا الإطار، أصبحت سياسة الهوية المُسيطرة الآن، تؤدي الدور الأساسي في تخلّف المجتمع اللبناني وتراجعه، وحتّى في عقم السياسات الاقتصادية وجمودها. فالسؤال الأساسي الذي كان يطرح نفسه دائماً في لبنان: «هل سننتقل إلى دولة ووطن ديموقراطي وتقدّمي ومتطوّر؟»، أصبح فعلياً: «هل يمكن إنتاج ديموقراطية حقيقية وتقدّم اقتصادي في ظل سياسة «الهوية» المذهبية؟»
اليوم، كما هو معروف، في السباق بين الهوية والطبقة، تتقدّم الهوية بأشواط في تحديد المسار السياسي والاقتصادي، وحتى الاجتماعي والثقافي، وقد بدأ هذا المسار منذ اتفاق الطائف، وخصوصاً منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي بعد قمع النقابات العمّالية ومذهبتها. بالتالي، أنهى اتفاق الطائف حقبة، وأعلن حقبة جديدة، أصبحت فيها سياسة الهوية مُسيطرة أكثر من ذي قبل، ما جعل من التغيير الاجتماعي أمراً يبدو شبه مستحيل، ليس لأن الأفراد والطبقات في لبنان لا تهتمّ لمصالحها الاقتصادية، بل بسبب الجرف الكبير لعواطف سياسة الهوية على الفرد اللبناني، وبسبب تحوّل لبنان إلى شمولية شبه إقطاعية.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

لكن اليوم، في ظلّ الأزمة الاقتصادية، تبرز إمكانية فتح كُوّة في هذا الجدار. فالسياسات التقشّفية والتطوّرات الاقتصادية في المستقبل القريب ستكشف عن الطبيعة الاجتماعية للأزمة، حيث سيجد الفرد اللبناني نفسه أكثر فأكثر في مصفوفة اقتصادية - طبقية أكثر منها مذهبية. ففي السنوات الأخيرة، في الحراك المدني في 2015، وفي انتخابات 2018، واليوم في الحراك ضدّ سياسات التقشّف، هناك بدايات تغيّر في وجهة السياسة، حيث يُطْرح الفرد في مواجهة الهوية (الليبراليون) وتُطْرح الطبقة في مواجهة الهوية (الشيوعيون)، وهذا يفتح الباب أمام بداية جديدة لتحويل السباق الذي تفوز فيه سياسة الهوية دائماً، إلى صراع فعلي بينها وبين مشاريع ليبرالية كلاسيكية ويسارية تقدّمية، تجعل حسم هذا التناقض من سيحدّد مسار لبنان المستقبلي.

الموازنة والطبقة اليوم
تُطرح الموازنة اليوم وكأنها أمر تقني أو إنقاذي، إلّا أنها فعلياً أمر اقتصادي سياسي. فهي، من جهة، تعكس أزمة استمرار نظام الطائف في استعمال الاقتصاد والدولة دعماً لسياسة الهوية، ومن جهة أخرى، تُبرِز إلى العلن من يربح ومن يخسر من أثر الموازنة نفسها أيضاً. فالموازنة، باختصار، جزء لا يتجزّأ من مسألة الدَّيْن العام وكيفية تأثيره بتوزيع الدخل والثروة. وهنا يجب أن تكون الأمور واضحة، فكما كان لتراكم الدَّيْن العام آثاره التوزيعية، سيكون لحلّه آثار توزيعية أيضاً، وهو ما ينطوي عنه، في النهاية، آثار سياسية. فاليوم، وبعد أكثر من 25 سنة على السياسات الاقتصادية، من دَيْن عام وفوائد مرتفعة وتجميد للأجور، التي أدّت إلى استقطاب طبقي كبير، وبسبب تعطيل «الائتلاف المعوِّق للنمو» لفرص التطوّر الاقتصادي، وبسبب تدهور الدولة اللبنانية أكثر فأكثر نحو دولة المحاصصة المذهبية، تتجذّر بها سياسة الهوية وتحوّلها تدريجاً إلى دولة شبه-فدرالية توزيعية، تتحضّر الظروف الموضوعية والفعلية لتقهقر سياسات الهوية وبروز سياسات الطبقة. فاليوم أصبح من الواضح بؤس سياسة التوزيع المذهبية، خصوصاً أن التوزيع الطائفي يبدِّد الثروة بدلاً من أن يخلقها. أمّا في المقلب الآخر، فإن إعادة التوزيع الطبقي من الرأسمال المالي، على أشكاله، إلى الاستثمار العام وبناء الاقتصاد الإنتاجي وإعادة بناء الطبقة المتوسّطة والعاملة ستؤدّي إلى خلق الثروة، لا خنقها كما يحدث حالياً. كذلك أصبح من الواضح اليوم، أن السياسات المعادية للأجر، إن في القطاع العام أو في القطاع الخاص، لن تؤدّي إلى أية «منفعة» اقتصادية، لأن الاقتصاد اللبناني أصبح، بشكل ساحق، اقتصاداً ينتج السلع غير القابلة للتبادل، مثل التعليم والصحّة والخدمات والترفيه وغيرها، وهي بالتالي لن تؤدّي إلى زيادة التنافسية أو الاستثمار الخاصّ التوسّعي والمُنتج، بل إلى انفلاش حقل الصراع الطبقي الخالص أكثر وأكثر. فكما الدولة الطائفية لم تعد لديها ما تعطيه للطبقات المتوسّطة والعاملة، لم يعد للرأسماليين اللبنانيين أي شيء يقدّمونه إليهم، بعد أن حشر هؤلاء أنفسهم في الزاوية مع مزدوجهم، في علاقة السيد-العبد، الطائفي.
هل يمكن إنتاج ديموقراطية حقيقية وتقدّم اقتصادي في ظل سياسة «الهوية» المذهبية؟


أخيراً، في هذا الإطار، يطرح فرانسيس فوكوياما في كتابه الجديد «الهوية» الصادر في عام 2018، كيف أن سياسة الهوية أدّت وتؤدّي إلى تعطيل المقدرة على خلق السياسات الكبرى في الاقتصاد وعلى تحقيقها. يقول فوكوياما بالتحديد: «إن سياسة الهوية جعلت من صنع سياسات طموحة أكثر صعوبة. فخلال القرن العشرين، تمحورت السياسة في الديموقراطيات الليبرالية حول قضايا اقتصادية واسعة. أراد اليسار التقدّمي حماية المواطنين العاديين من مساوئ السوق وأراد استعمال الدولة من أجل إعادة توزيع الموارد بشكل أكثر عدلاً. أمّا اليمين، فأراد حماية النظام الاقتصادي الحرّ ومقدرة كل شخص على المشاركة في التبادل في الأسواق». وهذا ما يُفسّر في لبنان أن السياسات الاقتصادية الكبرى غائبة منذ 1992 بعد وَضْع آخر السياسات الكبرى من قِبَل حكومة الحريري الأولى. منذ ذلك الحين، لم تتغيّر هذه السياسات، من السياسات الضريبية إلى النقدية (وهنا حتى الأشخاص لم يتغيّروا!) وصولاً إلى سياسات الإنفاق والاستدانة وغيرها. إذاً، كانت هذه السياسات لمرّة واحدة فقط، وجرى بعد ذلك تهميش السياسات الاقتصادية، في تقسيم العمل المذهبي في البدء، ومن ثمّ تحت وطأة أولوية التحاصص المذهبي.

سياسة الهوية والتطوّر الديموقراطي
في كتابات ميشال شيحا وشارل مالك الكثير من «الفرادة اللبنانية»، وكان من المفترض لهذه الفرادة أن تعمل لمصلحة اللبنانيين، ولكنها، وإن كانت قد خدمت لفترة في هذا الاتجاه، أصبحت اليوم عبئاً ليس فقط على الاقتصاد، كما رأينا، بل على الديموقراطية. ولكي نرى ذلك بوضوح، كان على هذه الفرادة أن تفقد بشكل ما فرادتها. وبالإضافة إلى تَجذُّر هذه الفرادة لبنانياً (وإن كانت بأشكال لم تخطر على بال شيحا ومالك!)، أصبحت هذه الفرادة اليوم مُعمّمة حول العالم، وهذا ليس بالأمر الجيّد! فسياسة الهوية هي في صعود في مختلف المناطق. فبعد انقسام العالم إلى قطبين بعد الحرب العالمية الثانية: ليبرالي من جهة واشتراكي من جهة أخرى، كلاهما ينتمي إلى الحداثة والقيم العالمية، وبعد انتهاء ذلك وصعود موجة الديموقراطية بعد 1989، التي حملت وفق فوكوياما، في كتابه «نهاية التاريخ» الانتصار النهائي لليبرالية الغربية، يحصل عكس كلّ ذلك اليوم. فوفق فوكوياما نفسه، بعد أزمة الرأسمالية في 2008 ومتفرّعاتها الأوروبية، بدأ انحسار مدّ الديموقراطية، وبالإضافة إلى ذلك بدأ ظهور عصر سياسة الهوية حيث الإثنيات والمجموعات الدينية أو الجندرية أو العرقية تطالب بالاعتراف بها بشكل أوسع وأعمق ومختلف عن الاعتراف بها في النظام الليبرالي. لفهم هذا التطوّر يعود فوكوياما إلى مفهوم سقراط حول الـThymos، أي ذلك الجزء من الروح الإنسانية التي تطلب الاعتراف بقيمتها من قِبَل الآخرين. وهنا سياسة الهوية قد تؤدّي إلى مجتمع الـisothymia، أي الاعتراف المتبادل بين تلك المجموعات، ولكن يحذّر فوكوياما من أنه «على هذه الطريق وفي نهاية المطاف، الدولة تصبح في حالة تفكّك وفشل». في الوقت نفسه، هناك أيضاً خطر صعود ما يعرف بالـMegalothymia، أي أن تعتقد مجموعة أنها متفوّقة على الأخريات، ما يهدّد بصعود الديكتاتوريات أو اندلاع الحروب الأهلية. إذاً، الديموقراطية الليبرالية حول العالم في خطر لتتحوّل إلى ديموقراطيات غير ليبرالية، كما في لبنان، أو أن تتفكّك، وبذلك تنقلب رأساً على عقب نبوءة شيحا حول النظم السياسية في العالم «هذه التجارب البائسة هي للآخرين».
من الواضح اليوم في لبنان، أن هناك توتراً داخل وبين الـisothymia (نظام الطائف) والـmegalothymia (المارونية السياسية سابقاً. ولاحقاً؟)، بينما تنحلّ الدولة ويضعف الاقتصاد، فهل من بديل؟ في ظلّ الصراع العالمي الآن، طرح البعض أن العالم يعيش اليوم بين مرحلتين، أو ما يعرف بـ«فراغ غرامشي»، حيث القديم يموت والجديد لم يولد بعد، وعندها تحصل كل الأمور الغريبة وتختفي العلاقات السببية (هل يبدو هذا مألوفاً؟). فالطائف الذي بُني على بحر من التوزيع وإعادة التوزيع عبر ميكانيزمات الدولة والمصارف والدَّيْن العام، يبقى اليوم عائماً كالشخصية الكرتونية التي تمشي على الهواء، ولكنّها سرعان ما تسقط. نحن الآن في هذه المرحلة، قبل أن يتسارع كل شيء منهاراً إلى الأرض، وعندها ستهتزّ الأسس المادية للنظام وعندها سينهار النظام نفسه. في هذه المرحلة، على اليسار خوض «معركة الأفكار» وطرح سياسة الطبقة مقابل سياسة الهوية من أجل أن يتصدّر البدائل سياسياً واقتصادياً، بدلاً من مشاريع سياسات هوية جديدة، إن قومية أو دينية أو تفوّقية، ولأن مشروع اليسار التاريخي مشروع عالمي (universal) نقيض لفرادة الهوية وخاصيتها، إذ كما يقول فوكوياما أيضاً: «إن الماركسية الكلاسيكية قبلت بالأسس العديدة للتنوير الغربي: الاعتقاد بالعلم والعقلانية، والتقدّم التاريخي، وفي تفوّق المجتمعات الحديثة على المجتمعات التقليدية». وهذا ما يحتاجه اليوم لبنان أكثر من أي شيء آخر.