كل زيادة في الإيرادات العامّة بنسبة 1% من الناتج المحلّي الإجمالي، تعادل 600 مليون دولار تقريباً في أسعار عام 2019. وكل تخفيض بنسبة 1% للفائدة على الدَّيْن الحكومي القائم (أي الدَّيْن المُتراكم)، يخفِّض الإنفاق العام بقيمة 900 مليون دولار فوراً... يجدر أن نتذكّر هذين الرقمين دائماً، ولا سيّما عندما نسمع أن لا بديل عن الموازنة التقشّفية التي أقرّتها الحكومة أخيراً، فهما دليلنا على أن البديل موجود في كلّ وقت، ولكن المصالح هي التي تحدِّد الخيار.حقّقت الحكومة هدفها بتخفيض العجز في الموازنة من 11.4% في العام الماضي إلى 7.5% في هذا العام. إلّا أن بلوغ هذا الهدف تمّ عبر «قصقصة» عشوائية للإنفاق العام، ولا سيّما الاستثماري، وزيادات عشوائية أيضاً لضرائب ورسوم نابعة من عقلية «الجابي» نفسها التي سادت في ربع القرن الأخير. في الحصيلة، يعتقد الكثير من الاقتصاديين أن هذه الموازنة لها أثر «انكماشي» على الاقتصاد، وستكون لها تداعيات سلبية كثيرة على مستوى معيشة الأسر المتوسّطة والمتدنّية الدخل، وستؤدّي إلى المزيد من التدهور في البنية التحتية والخدمات الأساسية... فهل حقّاً لا يوجد بديل عن هذا «التقشّف» السيئ وسياساته المُرتجلة؟
المصدر: حسابات خاصّة تستند إلى نتائج المالية العامّة (2018) والصيغة الأخيرة لمشروع الموازنة (2019) | تصميم: سنان عيسى | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في ما يلي تمرين بسيط عن موازنة بديلة مُمكنة، تهدف إلى استخدام السياسات المالية والضريبية لتحفيز الاقتصاد وزيادة الاستثمار العام وتحسين كفاءة النظام الضريبي وعدالته بدلاً من التقشّف والانكماش وتحميل الفئات الاجتماعية الضعيفة المزيد من الكلفة غير المُبرَّرة. ويجدر بداية التنويه إلى أن هذا التمرين لا ينطلق، لا من قريب ولا من بعيد، من الحاجة الفعلية إلى تغييرات طموحة، ثورية أو انقلابية، لا تحصل عادة من خلال منطق «الإصلاح» في النظام القائم، بل ينطلق من تعديلات مُمكنة ومُتاحة من ضمن منطق النظام نفسه، يُردِّدها العديد من الاقتصاديين المحلّيين والأجانب، ولا سيّما الليبراليين والذين يدورون في فلك المؤسَّسات المالية الدولية والمصارف الكبرى.
تتَّسِع دائرة الإقرار بين هؤلاء الاقتصاديين بأن ما يُسمّى «الضغط الضريبي» ـ أي نسبة الاقتطاعات الضريبية من مجمل الناتج المحلّي ـ هو منخفض جدّاً في لبنان، وهو من أدنى المعدّلات ليس على صعيد الدول الرأسمالية المُتقدّمة، بل على صعيد الشريحة العليا من مجموعة الدول متوسِّطة الدخل التي يُصنّف لبنان ضمنها. وبالتالي يجد هؤلاء الاقتصاديون أن رفع نسبة الإيرادات العامّة من الناتج المحلّي من 20% إلى 25% هو هدف مُمكن ومقبول وضروري، ولن يكون له آثار سلبية كبيرة إذا تمّ رفع الإيرادات من خلال مكافحة التهرّب الضريبي وإزالة الإعفاءات والاستثناءات الدائمة والمؤقّتة واعتماد الضرائب المباشرة التصاعدية وزيادة معدّلاتها على الأرباح العالية والريوع والفوائد والأملاك وتغريم الاحتكارات والامتيازات والنشاطات المُضرّة بالصحّة والبيئة والتي تستنزف الموارد والثروات الطبيعية والتاريخية.
يُقدَّر التهرّب الضريبي وحده بنحو 4% من الناتج المحلّي، أي نحو 2.4 مليار دولار لا تجبيها الدولة وفق النظام الضريبي القائم كما هو. وتُعتبر معدّلات ضريبة الدخل على الأرباح ورؤوس الأموال والفوائد منخفضة جدّاً، ولن يتجاوز مجموع حاصلاتها في موازنة 2019 نحو 3 مليارات دولار، أو 5% فقط من الناتج المحلّي الإجمالي، ويمكن رفع هذه النسبة بسهولة إلى 8%، أي زيادتها بقيمة 1.7 مليار دولار عمّا هو مُقدَّر في مشروع الموازنة. وكذلك لا يوجد ضغط ضريبي ملموس على الملكيّة والإرث، ما عدا رسوم التسجيل الباهظة التي ترفع كلفة السكن والأعمال ولا تصيب أرباح المضاربات العقارية... بمعنى ما، يمكن من خلال مزيج من الإجراءات الرامية إلى تخفيض التهرّب الضريبي وزيادة الضغط الضريبي على الأرباح والريوع الكبيرة المُحقّقة، زيادة نسبة الإيرادات العامّة إلى 25% من الناتج، أي زيادة 3.2 مليار دولار على إيرادات الدولة المُحصّلة في العام الماضي.
كذلك تتَّسِع دائرة الإقرار بين الاقتصاديين بأن معدّلات الفائدة على الدَّيْن العام سخيّة وباهظة، ويمكن تخفيضها على الدَّيْن القائم إلى 5%، وبالتالي تخفيض مدفوعات الفائدة بأكثر من مليار دولار في هذا العام فقط. وينطلق هذا الطرح من أن الدائنين الذين استفادوا كثيراً من الفوائد المُتراكمة على الدَّيْن العام عليهم أن يتحمّلوا قسطاً من الكلفة المباشرة، وينطلق أيضاً من أن السياسة النقدية القائمة على أسعار الفائدة المُرتفعة باتت تكبح الاقتصاد وتشكّل العبء الأكبر عليه، ولذلك لا يمكن تصوّر أي إصلاح، من أي نوعٍ ومهما كانت أهدافه، من دون تخفيض أسعار الفائدة وتقليص خدمة الدَّيْن العام.
إن اعتماد هذين الخيارين، زيادة الضرائب المباشرة وتحصيلها وتخفيض الفائدة على الدَّيْن القائم، يؤدّيان إلى حشد موارد إضافية للدولة للتدخّل في الاقتصاد ودعمه وزيادة الاستثمار في البنية التحتية والخدمات الأساسية وتوسيع سياسات الحماية الاجتماعية، إذ إن تخفيض مدفوعات الفائدة بقيمة 1.1 مليار دولار عمّا ورد في مشروع موازنة 2019، وزيادة الإيرادات بقيمة 2.3 مليار دولار عمّا هو متوقّع في مشروع الحكومة، يكفلان خفض العجز إلى 6.8% من الناتج المحلّي بدلاً من 7.5%، وفي الوقت نفسه زيادة الإنفاق الاستثماري من 1 مليار إلى 2.4 مليار دولار، وزيادة الإنفاق على تشغيل الدولة والدعم والحماية الاجتماعية من 2.6 مليار إلى 4.3 مليار دولار، والمحافظة على الأجور ومعاشات التقاعد والتقديمات الاجتماعية ودعم أسعار الكهرباء، بانتظار أن يكون للدولة رؤية مُحدَّدة لكيفية إصلاح هذا البنيان الخربان.