ينقسم الإنفاق العام في مشروع موازنة 2019 إلى خدمة الدَّين (32%) وأجور الموظفين والمتقاعدين (36%) ودعم الكهرباء (11%) والنفقات التشغيلية والاستثمارية (19%) (الأخبار ــ 17/4). وكان الإنفاق المقدَّر 17.4 مليار دولار، والإيرادات المقدرة 12 مليار دولار. وكان الإنفاق على رواتب الموظفين والمتعاقدين والأجراء وأجورهم قد بلغ في موازنة 2017 نحو 3.6 مليارات دولار. وأُضيف إليها 425 مليون دولار عام 2018 بسبب توظيف آلاف الأشخاص الجدد في الأسلاك الأمنية والعسكرية والمدنية (زبيب، ملحق رأس المال-17/12). وبلغت حصة الرواتب والأجور في الأسلاك العسكرية والأمنية في موازنة 2018 نحو 67% من مجموع الرواتب. وذهب 19% من هذا المجموع إلى الهيئة التعليمية، و14% منه إلى ملاك الإدارة العامة.
ومثلت تعويضات نهاية الخدمة في 2018 ما يوازي 587 مليون دولار. وبلغت معاشات التقاعد 1535 مليون دولار خلال السنة نفسها. ويستفيد منها نحو 103 آلاف شخص، منهم 30 ألف متقاعد عسكري (الأخبار ــ 17/4). وهناك 310 آلاف أسرة تعيش من دخل أفرادها في القطاع العام (ملحق رأس المال ــ 15/4).
وقد أهمل برنامج التقشف الحكومي دور الإنفاق على الأجور كمحدّد للطلب والنمو، واستهدف التقديمات في ميداني التعليم والصحة، وصرف النظر عن خفض الموازنة التشغيلية للدولة، وغاب عنه الإنفاق العام الاستثماري بالمعنى الكينزي للكلمة.

الإنفاق العام على الأجور
لا يرى النيو-كلاسيكيون الأجور إلا كعنصر كلفة. وقد حمّلوا ارتفاع الأجور، بسبب سطوة النقابات في مطلع السبعينيات، مسؤولية انخفاض الاستثمار. وفي النظرية النيو-كلاسيكية يكفي أن تكون الأجور مرنة، أي قابلة للخفض بقدر ما يشاء أرباب العمل، حتى يتحقّق الاستخدام الكامل للقوى العاملة (لافوا ولانغ، 2018). وينبغي بالنسبة إليهم تحرير الأجور من كل العوامل التي تجعلها غير مرنة. وأهمّ هذه العوامل دور النقابات والإنفاق الحكومي السخي لجهة تعويضات البطالة.
وقد اقترن التقشف في الموازنة في الغرب بسياسات أجور متقشفة. وعملت الدول الغربية على مدى العقود الأربعة المنصرمة على تحجيم دور النقابات وخفض تعويضات البطالة. وأدى ذلك إلى خفض الأجور وحصتها في الناتج. وفي حالة الولايات المتحدة بقيت الأجور حتى يومنا هذا على ما كانت عليه بالقيمة الحقيقية في سبعينيات القرن الماضي. وارتفعت خلال الفترة نفسها حصة الـ 10% الأكثر ثراءً بمقدار خمسة أضعاف (إيفانز وسويل، 2013: 26).

أنجل بوليغان - المكسيك

لا تعترف النظرية النيو-كلاسيكية بوجود بطالة، ولو بلغت معدلاتها أكثر من 10% من القوى العاملة. وحين احتاج النيو-كلاسيكيون لتفسير تفاقم البطالة بعد 2008 في الغرب، فإنهم وصفوها بأنها إرادية (voluntary)، أي ناتجة من رفض المتقدمين للعمل للأجور المقترحة لهم. وقالوا إنها تعكس تفضيل العاملين هؤلاء للحياة الرغيدة من دون عمل (farniente) (لافوا ولانغ: 201). وقال كينز إن نظرية سوق العمل النيو-كلاسيكية هي، بين كل ما حققته هذه المدرسة، الأضعف والأكثر مدعاة للسخرية. ويرى الباحثون في التيار الما-بعد كينزي أن الطلب على العمل لا يتحدّد في سوق العمل بناءً على حركة الأجور، بل في سوق السلع والخدمات. أي يكون محكوماً بمستوى الطلب الإجمالي. واستندوا إلى إسهامات كالسكي (Kalecki) لتبيان أن ارتفاع الأجور يرفع الطلب الإجمالي وأرباح المؤسسات، ويشجع هذه الأخيرة على الاستثمار. وبلوروا في نهاية المطاف مقاربة تقف على طرف نقيض من المقاربة النيو-كلاسيكية وتربط بين ارتفاع الأجور وارتفاع الطلب على العمل لدى المؤسسات الإنتاجية وارتفاع معدلات النمو (لافوا ولانغ: 209).
وهناك اختلاف جوهري آخر بين المقاربتين يتناول دور هيكل المؤسسات القائم الذي يحكم مستوى الأجور، من مثل دور النقابات ووجود حد أدنى للأجور، إلخ. وهي عناصر يسيء وجودها إلى مرونة الأجر في المقاربة النيو-كلاسيكية، وينبغي إزالتها. أما في المقاربة الما-بعد كينزية، فإن وجود عناصر عدم المرونة هذه شأن جيد، لأنه يكبح مقدرة المؤسسات على خفض الأجور. وهو يمنع بذلك الطلب الإجمالي من الانخفاض ويتيح للمؤسسات أن تزيد أرباحها واستثماراتها وتسهم في تحقيق العمالة الكاملة (لافوا ولانغ: 211). وباختصار شديد، إن أفضل ما تقوم به الدولة في المقاربة الكينزية، تشجيع نشوء النقابات، لأن ذلك يمنع أرباب العمل من النزول بالأجور إلى مستويات تضرب الطلب الإجمالي وتنشئ كساداً اقتصادياً.
لقد شكّل الإنفاق على الرواتب والأجور ثلث الإنفاق العام في الموازنة في لبنان على مدى ربع القرن الأخير. وفي 2017 حصل العاملون في القطاع العام على تصحيح لأجورهم بعد أن كان قد مضى عشرون عاماً على إقرار السلسلة. والتزمت الدولة في مؤتمر سيدر في نيسان 2018 تخفيض العجز في الموازنة كنسبة من الناتج بمعدل 1% كل سنة. لكن العجز في الموازنة ارتفع في 2018. وأحد أسباب ذلك توظيف 10 آلاف شخص في القطاع العام، كما سبقت الإشارة، نصفهم عسكريون، والنصف الآخر مدنيون وُظِّفوا في قطاع التعليم وفي هيئة أوجيرو (تقرير، 23/5). وقد بات المطلوب إجراء خفض يمثل 3 أضعاف ما كانت الحكومة قد التزمته أمام الدائنين الأجانب.
واتُّفق على توزيع الخفض، بحيث يسدّد المودعون في المصارف 500 مليون دولار ضريبة ربح على الفوائد، وتخفّض رواتب العاملين في القطاع العام ومعاشات التقاعد والتقديمات الاجتماعية بقيمة مليار دولار، وتضاف إلى ذلك تخفيضات تطاول الإنفاق الاستثماري والتشغيلي بقيمة 500 مليون دولار (زبيب، ملحق ــ 13/5).
وفي جلسة 27/ 5/ 2019، أُقرّت الموازنة بحيث لم يحصل اقتطاع من الرواتب كما كان مقترحاً في مشروع الموازنة الأول. واكتُفي بتخفيض منح التعليم للمستفيدين من القطاع العام. وجرى التراجع عن إجراءات خفض الرواتب بسبب غضبة المتقاعدين العسكريين على وجه الخصوص الذين هاجموا السرايا الحكومية.
لكن هذه الأمور ستعود من جديد إلى بساط البحث في الموازنة التالية، خصوصاً أن المتوقّع ازدياد الانكماش الاقتصادي الذي سيقلص الإيرادات الحكومية ويزيد عجز الموازنة.
وكان البنك الدولي قد أعد تقريرين عن موضوع الأجور في 2012 و2013 في مناسبة التحركات العمالية لإقرار سلسلة الرتب والرواتب. واتخذ موقفاً مناهضاً بشدة لرفع رواتب القطاع العام (البنك الدولي، 2012 و 2013).
وتجدر الإشارة إلى أنّ متوسط الدخل الشهري لنحو 80 بالمئة من العاملين في لبنان كان 639 ألف ل.ل. على امتداد حقبة ما بعد الحرب، وفقاً لاستقصاءَين أجراهما الباحثان كسباريان عام 2001 وعام 2007 (كسباريان، 2009: 81 و86). أي أن هذا المتوسّط كان يساوي 425 دولار شهرياً.

استهداف التقديمات في ميداني التعليم والصحة
وتظهر تجربة النيو-ليبرالية منذ أربعة عقود أنّ التراجع في التقديمات الاجتماعية للدولة لم يكن عاماً وشاملاً. وقد انخرطت الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا وهولندا والسويد في خصخصة المؤسسات العامة، الأمر الذي انعكس تسريحاً للعديد من العاملين فيها وازدياداً في معدل البطالة. لكن الدولة فرضت ضرائب تصاعدية على هذه المؤسسات التي يفترض أن تنافسيتها قد زادت، موّلت بها السياسة الاجتماعية. وفرنسا كانت نموذجاً لرفض تخلي النخبة السياسية عن دور الدولة في الرعاية الاجتماعية. وذلك على الأقل حتى عهد الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون. وهي كانت تنفق في آخر التسعينيات 29.5% من الناتج القومي على السياسة الاجتماعية (إيفانز وسويل: 32). ولم يرتفع التفاوت في الدخل فيها على شاكلة ما حصل في الولايات المتحدة، بل بقيت الأمور كما كانت في 1973.
ويرى الخبراء العاملون في المؤسسات الدولية أنّ نظام التقاعد اللبناني سخي على شريحة من المستفيدين، هم موظفو القطاع العام (ضاهر، ملحق رأس المال ــ 20/5). ويعقدون مقارنة مع من ليس لهم نظام تقاعد في القطاع الخاص المنظّم وغير المنظّم. ويقارنون ما يحصل عليه المتقاعد في القطاع الخاص المنظّم، أي تعويض نهاية الخدمة من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وما يحصل عليه المتقاعدون من القطاع العام.
وهم يبرّرون نسف النظام الحالي للتقاعد بالعمل على توسيعه، أي إحلال بديل له يشمل 90% من القوى العاملة. لكنهم يذكرون في الوقت عينه أن ثمة مشروع قانون في هذا الإطار معطّل ومجمّد في مجلس النواب. أي نُزيل ما هو موجود من دون أية ضمانة بإمكان إحلال نظام أفضل محلّه. يدخل هذا في إطار ما دأبت عليه المؤسسات الدولية منذ أربعة عقود في علاقتها مع البلدان النامية، أي تفكيك مؤسسات دولة الرعاية واحدة بعد أخرى كلما سنحت الفرصة لذلك.
وهدفَ تقليص تقديمات صندوق تعاضد أساتذة الجامعة اللبنانية إلى إلغاء أي امتياز يتمتع به هؤلاء مقارنة بأساتذة التعليم العالي الخاص. وتناول النقاش على وجه الخصوص مساهمة الصندوق في الأقساط المدرسية. وهي تشكل نسبة فقط من مجموع ما يسدده الأهل كأقساط. وهي بدت للبعض عالية. وتسهم الدولة بهذه الطريقة في تأكيد حضور المؤسسات التعليمية ذات الجودة النسبية. وهذا أحد عناصر تنوّع النظام التعليمي اللبناني. وهو أمر تنص عليه المادة (10) من الدستور. وانسحاب الدولة من الدعم الذي توفره للتعليم سيسهم في تراجع أوضاع مؤسساته وزوال أحد أسباب تميّزه.
وخاض البعض حرباً شعواء ضد الجامعة اللبنانية، كان الهدف منها إحلال صورة سلبية عنها لدى الأساتذة أنفسهم والطلاب. وذلك خدمة للمؤسسات الجامعية الأهلية والخاصة التي تنشأ وترغب في وضع اليد على حصة أكبر من طلاب الجامعة اللبنانية.

الخفض المحدود للموازنة التشغيلية للدولة
وقد أشارت الأبحاث النظرية إلى نوعين من الاستقلالية لدى الدولة والإدارة العامة. تعني الأولى قدرة هذه الأخيرة على اعتماد مشاريع تتناقض مع مصالح القوى النافذة. وتعني الثانية عدم تعرّضها لأية محاسبة من قبل المجتمع. وقد وصف بيتر إيفانز هذا النوع الثاني في معرض توصيفه للدولة النهّابة (predatory state) (إيفانز، 1992). وكان مذهلاً أن يحاول وزير بقرار منه نقل ملكية قطاع بأكمله إلى القطاع الخاص. وهو الأهم لجهة المداخيل التي يوفرها للخزينة.
ويستخدم الباحثون اسم «الإدارة العامة المحتلة من اللصوص» (kleptopatrimonial) حين تصبح كل خدمات الإدارة العامة معروضة للبيع. وتنشر الصحف وقائع لا تُحصى عن استخدام الموظفين الحكوميين مواقعهم للحصول على مداخيل غير قانونية. وهو ما أثبتته الملاحقات الأخيرة في التربية والقضاء والأمن الداخلي والاتصالات وغير ذلك.
ارتفاع الأجور يرفع الطلب الإجمالي وأرباح المؤسّسات ويشجّعها على الإستثمار


وقد فضح النقاش حول الموازنة وقائع تناولت الهدر في استخدام المال العام كان لها وقع مشابه لفضائح ويكيليكس. وأظهر مشروع موازنة 2019 أنه رُصد في إحدى الوزارات نحو 20 مليون دولار للوازم المكتبية والقرطاسية واللوازم المتخصّصة و28 مليون للإعلانات و4 ملايين للأعياد والتمثيل ونحو خمسة ملايين كمكافآت و22 مليون دولار كتقديمات زواج وولادة ووفاة. ورُصد أخيراً 250 مليون دولار كنفقات طارئة واستثنائية (مقابلة، 23/5). وأظهرت التحقيقات الصحافية أن مسؤولي وزارة الاتصالات أنفقوا خلال عام واحد 661 مليون دولار كمصاريف تشغيلية واستثمارية مثّلت 42.5% من الإيرادات المحصّلة (الفرزلي، الأخبار-17/5). ولم يقترح برنامج التقشف الحكومي تخفيضات كبيرة على الموازنة التشغيلية للدولة. وهي تمثّل مزراب الذهب لمن يحتكرون من المحاسيب عقود شراء التجهيزات للإدارات الحكومية.

الإنفاق العام الاستثماري
ولم تخصّص الدولة لتجهيز البنى التحتية على مدى حقبة 1992-2017، سوى 14.8 مليار دولار مثّلت 6.8% من مجموع الإنفاق العام البالغ 216 مليار دولار على مدى ربع قرن (زبيب، ملحق رأس المال-24/12). وجسّد التمويل الخارجي نحو ثلث هذا المبلغ، أي 5.7 مليارات دولار. واستأثرت الطرقات بربع الإنفاق، وتلتها مشاريع النفايات الصلبة، التي توزّعت بين مطامر وردم للبحر وعقود سوكلين. وجاءت الكهرباء في المرتبة الثالثة ومياه الشرب والري في المرتبة الرابعة، ومرافق التعليم في المرتبة الخامسة. وتوزّع الباقي على مشاريع الصرف الصحي ومرافق الصحة وترتيب الأراضي. وقد جعلت ضآلة هذا النوع من الاستثمار وسوء توزيعه وتجييره لخدمة المصالح الخاصة لبنان بلداً منكوباً لجهة تراكم الأزمات وانفجارها في مجالات الكهرباء والصرف الصحي وتراجع نوعية الطرقات.
وإذا قارنّا ما حصل في لبنان بما هو حاصل في أوروبا على صعيد الاستثمارات الحكومية في البنى التحتية، فقد نجد أوجه شبه خلال السنوات الأخيرة. وقد جعلت برامج التقشف المعتمدة في دول جنوب أوروبا هذا الإنفاق ينخفض بنسبة 89% فيها بين 2009 و2014 (سيكاريسيا وآخرون، 2018: 300).


من أجل موازنة استثمارية للدولة

من دون تغيير أداء الدولة الاستثماري ورفع مستوى إنفاقها الاستثماري، لا يمكن خلق نمو اقتصادي ينقذ لبنان من الكساد الذي سيتفاقم على مدى السنوات المقبلة.
لقد أعطى الباحث الكندي الكبير ماريو سيكاريسيا سببين للضعف الذي عبّرت عنه «كينزية ما بعد الحرب» أمام هجمة النيوكلاسيكيين، خصوصاً فريدمان ولوكاش خلال السبعينيات. فهي عكست الأخذ بالنموذج الإسكندنافي في تدخل الدولة والإنفاق العام لتأمين الاستخدام الكامل للقوى العاملة. وكان غونار ميردال قد اقترح في مطلع الثلاثينيات أن يرتفع الإنفاق العام في المدى القصير عندما يكون هناك انحسار في الظرف الاقتصادي (Business Cycle) وينخفض في مرحلة الانطلاق. وذلك بحيث يتعادل الاثنان ولا يبقى شيء من الإنفاق العام المتراكم في المدى الطويل (سيكاريسيا، 1995: 69). وهو ما اعتمدته دول أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
والسبب الثاني أن «كينزية ما بعد الحرب» أغفلت التمييز بين الإنفاق الاستثماري الحكومي والإنفاق الاستهلاكي الحكومي، وبحيث انطوت التجربة على إعطاء الأولوية للثاني على حساب الأول (سيكاريسيا: 45).
ويمكن استخلاص مقترحين لكينز بالاستناد إلى كتاباته وسجالاته حول «تأميم الاستثمار»، أي تولّي الدولة ثلثي إلى ثلاثة أرباع الاستثمار الكلّي. وقد تناول مقترحه الأول إنشاء «مجلس وطني للاستثمار» (National Investment Board) يؤمن التمويل الطويل الأجل للمشروعات التي من شأنها زيادة رأس المال الثابت في الاقتصاد الوطني (سيكاريسيا: 48-49). ويتيح من جهة أخرى للدولة أن تستخدم المبالغ التي يضع «أصحاب الريوع المالية» أيديهم عليها وتضعها في خدمة الاقتصاد الوطني.
والمقترح الكينزي الثاني الذي أغفلته «كينزية ما بعد الحرب» تناول إعداد موازنة سنوية للاستثمار تكون منفصلة عن موازنة الدولة العادية للإنفاق الجاري. وهي تكون مخصّصة لتطوير البنى التحتية ولإنتاج السلع الترسملية (capital goods) (سيكاريسيا: 49).
والتجربة الوحيدة التي عكست العمل بمفهوم «تأميم الاستثمار» هي التجربة الآسيوية. ولم تتولّ الدولة الاستثمار مباشرة في هذه التجربة، بل عهدت به إلى القطاع الخاص تحت إشرافها وبتوجيه منها. وعكست التجربة بالتالي «تأميم مخاطر الاستثمار» (risk socialization). ووفرت الدولة تمويلاً مصرفياً للتحويل الصناعي الجاري، ووفّرت أيضاً حوافز للقطاع الخاص اتخذت شكلي الحماية والدعم لتحقيق هذا التحويل.
وينبغي أن تنطوي الموازنة الاستثمارية للدولة على شقين:

البنى التحتية
يتناول الشق الأول الإنفاق على البنى التحتية. والمقصود بذلك: 1) إنشاء شبكة طرقات حديثة ومتطورة تُخرج لبنان مرة واحدة وإلى الأبد من تخلّفه التاريخي على هذا الصعيد؛ 2) دراسة إمكان إنشاء شبكة سكك حديدية متطوّرة هي الأخرى؛ 3) وضع برنامج استصلاح للأراضي ينشئ حيازات زراعية قابلة للحياة على مستوى ريف لبنان من أقصاه إلى أقصاه؛ 4) إنشاء مناطق صناعية تنتشر على مدى الأرض اللبنانية، وفي الريف قبل الساحل، لاستقبال الأنشطة الصناعية المتطوّرة. ويمكن النظر في إمكان بيع ثروة لبنان من النفط والغاز منذ الآن لتمويل هذا البرنامج.
وتتيح هذه الأمور مجتمعة استعادة ريف لبنان كمنطقة سكن وحياة لأهله بعد أن دأبت دولة الاستقلال المجرمة على تهجير أهله منه. وتقع هذه المقاربة لإعادة تنظيم المجال الوطني على طرف نقيض من المقاربات التي اعتُمدت منذ الانتداب وحصرت همّها بالتجمّعات السكنية المدينية، ولا سيما بيروت. وكان آخرها المشروع الذي طلبه مجلس الإنماء والإعمار ونُفّذ بإسهام فرنسي وصدر عام 2004 (الجمهورية اللبنانية، 2004). وهو لا يقول حرفاً واحداً عن مناطق لبنان بين 500م و 1500م فوق سطح البحر. أي أنه يتجاهل الأرض التي حضنت أهل لبنان، وكانت الإطار المادي لحياتهم منذ العهد الأموي على أقل تقدير.

التحويل الصناعي
أما الشق الثاني فيتناول تطبيق سياسة تحويل صناعي تهدف إلى بناء قطاع إنتاج سلع ترسملية أو ماكينات (capital goods) على شاكلة ما فعلت كوريا الجنوبية وتايوان، وما يحصل منذ ثلاثة عقود في إيران. وينبغي أن تتولى الدولة هذه المهمة في لبنان تطبيقاً لشعار «المستثمر الأول». ويفترض التحويل الصناعي أن تشجّع الدولة المؤسسات على اكتساب المقدرة التكنولوجية (technological learning) بغية إنتاج السلع التكنولوجية أو الترسملية. ويتطلب ذلك أن تعطي المستثمرين الحوافز اللازمة لذلك، وأن تتحمّل معهم مخاطر الاستثمار. وقد حصل ذلك في إيران حين ضمنت الدولة للمنتجين في قطاع السيارات المدنية شراء المنتَج بمجرّد استيفائه شروط الجودة المطلوبة.
ولأن تحقّق «التعلّم التكنولوجي»، بمعنى القدرة على إنتاج السلع التكنولوجية، لا يمكن أن يتم في شروط من حرية التبادل، فلا بد من اعتماد سياسة حمائية لمصلحة القطاعات المعنية بتحقيق هذا «التعلّم». وقد وضعت الحكومة رسماً جمركياً يساوي 2% على مختلف الواردات في موازنة 2019. وشتان ما بين هذا الرقم المضحك وبين السياسة التجارية الهادفة التي اعتمدتها إيران وجعلتها ترفع الرسوم على استيراد السيارات إلى 120% في مطلع التسعينيات (داغر، 2016). وهو ما أتاح لها بناء قطاع السيارات المدنية في ظل الحماية الجمركية.
ويقتضي وجود مشروع تحويل صناعي أن تكون هناك إدارة حكومية مؤهلة تتعلّم بالممارسة كيفية تطبيق سياسة التحويل هذه. وقد استخدم العلامة الكبير هنري بريتون شعار «تعلّم الدولة» (Government learning) شرطاً لكي تؤدي هذه الأخيرة هذا الدور. وجعل هذا الشعار نقيضاً لشعار «دولة الحد الأدنى» الذي اعتمدته المؤسسات الدولية وأدى إلى تدمير دولة العالم الثالث وتدمير قدرتها على الفعل. وهذا يعني أنه ينبغي الخوض في موضوع الإصلاح الإداري على نحو مخالف جذرياً لما هو حاصل الآن.
وكان بازينتي قد عزا السقف الموضوع إلى عجز الموازنة، أي 3% من الناتج، وإلى الدين العام، أي 60% من الناتج، في معاهدة ماستريتش إلى ما كان معمولاً به في ألمانيا وفرنسا آنذاك، كما سبقت الإشارة. لكن الباحث الكبير ألان بارغيز نسَب اعتماد هذه القاعدة إلى الثقافة السياسية المحافظة التي حملها أصحاب مشروع الوحدة الأوروبية، ولا سيما الفرنسيون، أي الرئيس الأسبق ميتران والمثقفون المحيطون به. وقد انتمى هؤلاء إلى مدرسة ليون فالراس-فرنسوا بيرّو المحافظة. وبيرّو كان تلميذاً للودفيغ فون ميزس، أحد أقطاب المدرسة النمساوية المعادية جذرياً لدور الدولة في الاقتصاد. وكان خلال الحرب من أنصار حكومة فيشي. وهو كان شديد العداء لكينز وفكره. ومنه أخذ الرئيس الفرنسي عداءه للكينزية، كما لفكرة عجز الموازنة (بارغيز، 2016: 4).
وقد انطوى تطبيق «شرعة الاستقرار والنمو» الموقعة من دول الاتحاد الأوروبي في أمستردام عام 1997، على تشدّد أكبر في التطبيق خلال السنوات الأخيرة. ووُقِّعَت اتفاقيات جديدة بين الدول الأوروبية في 2011 و2012 و2013 تنطوي على تشدّد أكبر في ضبط الإنفاق العام. وكانت نتيجة كل هذا التشدّد أن الناتج الوطني في هذه البلدان لم يستعد عام 2015 المستوى الذي كان عليه قبل أزمة 2008 المالية الكبرى (سيكاريسيا وآخرون: 297). وينبغي أخذاً بالاعتبار للمناخ الفكري الذي يهيمن على بيروقراطية الاتحاد الأوروبي، توقّع شراسة أكبر من قبل بيروقراطيي الاتحاد في إنفاذ برنامج التقشّف الحكومي في لبنان.
وفي شريط مسرّب يعنّف أحد مرتزقة المؤسسات الدولية اللبنانيين في مناسبة مؤتمر سيدر. ويتعوّد مرتزقة المؤسسات الدولية إلحاق الأذى بالدول والشعوب بالسياسات التي يفرضونها من دون تبكيت ضمير. ويتدرّبون على ذلك كما يتدرّب عناصر المخابرات على تعذيب المعتقلين. والشخص المذكور موظف في مؤسسة تنفّذ في نهاية المطاف ما تريده الولايات المتحدة. وأهم ما تريده هذه الأخيرة الحفاظ على الدول النامية الفاشلة ونخبها التابعة.
وعلى اللبنانيين أن يختاروا بين مقاربة الاتحاد الأوروبي في التقشف الحكومي والتعويل على المساعدات الخارجية، وبين المقاربة الراديكالية المعروضة أعلاه. وهي ترجمة لبنانية للمقاربة الكينزية في ميدان الإنفاق العام الاستثماري.

* أستاذ العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال - الجامعة اللبنانية

* المراجع

Evans Peter, "The State as a Problem and Solution: Predation, Embedded Autonomy and structural Change", in S. Haggard, R. Kaufman (eds.), The Politics of Economic Adjustment, Princeton univ. press, 1992.
Evans Peter, William H. Sewell, Jr., “The Neoliberal Era: Ideology, Policy, and Social Effects”, in Peter Hall and Michele Lamont (eds.), Social Resilience in the Neo-Liberal Era, Cambridge University Press, 2013, 48 pages.
Kasparian Choghig, L’émigration des jeunes libanais et leurs projets d’avenir: enquête réalisée par l’Observatoire Universitaire de la Réalité Socio-Economique (OURSE) de l’Université Saint-Joseph de Beyrouth, Presses de l’U. S. J., 2009.
Lavoie Marc, Dany Lang, « Les déterminants du niveau de l’emploi », in Eric Berr, Virginie Monvoisin, Jean-François Ponset (dir), L’économie post-keynésienne : Hisoire, Théories et politiques, éditions du Seuil, 2018, 408 pages, pp. 200-215.
Parguez Alain., « Economic Theories of Social Order and the Origins of the Euro », International Journal of Political Economy, vol. 45, no 1, 2016, p. 2-16, p. 4.
République Libanaise-C D R-D G U, Schéma directeur d'aménagement du territoire libanais, Rapport Final, Mai 2004.
Seccareccia Mario, "Keynesianism and Public Investment: A Left-Keynesian Perspective on the Role of Government Expenditures and Debt", in Studies in Political Economy, 46, Spring 1995, pp. 43-78.
World Bank, Republic of Lebanon – Good Jobs Needed: The Role of Macro, Investment, Education, Labor and Social Protection Policies (MILES), December 2012.
World Bank, Republic Of Lebanon - Economic and Labor Force Impact of the Proposed Change in the Wage Structure of the Public Sector, June 2013.

«تقرير التوظيف اليوم: 10 آلاف موظف جديد بعد السلسلة ...»، الأخبار، 23/ 5/ 2019.
«مشروع تقليص أجور القطاع العام»، الأخبار 17/ 4/ 2019.
الأخبار – ملحق رأس المال – 15/ 4/ 2019.
ألبر داغر، «التحوّل إلى دولة صناعية: تجربة إيران نموذجاً»، الأخبار، 5/ 12/ 2016.
إيلي الفرزلي، «كيف صرفت شركتا الخلوي 661 مليون دولار في 2018؟»، الأخبار، 17/ 5/ 2019.
سمير ضاهر، «نحو نظام تقاعد منصف ومستدام لجميع اللبنانيين»، الأخبار – ملحق رأس المال - 20/ 5/ 2019.
محمد زبيب، «1.3 مليار دولار كلفة زيادة سلسلة الرواتب»، الأخبار – ملحق رأس المال – 17/ 12/ 2018.
محمد زبيب، «14.8 مليار دولار فقط للاستثمار العام في ربع قرن»، الأخبار – ملحق رأس المال – 24/ 12/ 2018.
محمد زبيب، «أكثر موازنة تقشفية في تاريخ لبنان»، الأخبار – ملحق رأس المال – 13/ 5/ 2019.
مقابلة على تلفزيون الـ M.T.V. لوزير الشؤون الاجتماعية في 23/ 5/ 2019.