«إن الابتكار هو المُعطى اللامع في التاريخ الاقتصادي للمجتمع الرأسمالي»جوزيف شومبيتر

ما لا شكّ فيه أن التقدّم التكنولوجي هو أساس التقدّم الاقتصادي، فمنذ الثورة الصناعية، مع استعمال الآلة البخارية في 1776، تقدّمت الإنسانية بشكل غير مسبوق، من حيث الناتج والاستهلاك للفرد، وتطوّرت المجتمعات البشرية. وكما قال ماركس: «طاحونة اليد تعطيك المجتمع مع الإقطاعي، وطاحونة البخار تعطيك المجتمع مع الرأسمالي الصناعي».
اليوم، نحن في المرحلة الرابعة من الثورة الصناعية، أو العصر الثاني للآلة، حيث التكنولوجيا لديها «قوّة التفكير»، متمثّلة بالذكاء الصناعي والروبوتات والتكنولوجيا الرقمية، وهي التكنولوجيات الصاعدة في الرأسمالية المتقدّمة، كما في الصين الشعبية.
السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه: ما تأثير هذه التكنولوجيات على النموّ والعمالة والرفاه الاقتصادي؟ على الرغم من تفاوت الإجابات، تتنافس الدول على من سيكون الرائد فيها. والسباق اليوم محموم بين أميركا والصين، مع إشارات واضحة على بدء التفوّق الصيني الذي كان المحرّك الرئيسي للحملة الأميركية الحثيثة على شركة «هواوي». أيضاً تحاول فنلندا أن تقتحم هذا المجال، بعدما كانت رائدة في زمن «نوكيا»، وبدأت بمشروع لتعليم مبادئ الذكاء الصناعي لجميع المواطنين.
والسؤال الآخر المطروح أيضاً، أو الذي يجب طرحه بقوّة أكثر، هو حول دور هذه التكنولوجيات الحديثة، وخصوصاً في تأثيرها على توظيف الشباب في المنطقة العربية.
أنجل بوليغان المكسيك

اليوم، هناك توجّه متفائل جدّاً، يعتبر أن الريادة والشركات الناشئة المموّلة عبر الرأسمال المُجازف أو Venture Capital يمكن أن تكون حلّاً لكلّ شيء، وبالتالي يصبح ممكناً حرق المراحل، أو تحقيق «قفزة كبرى» على الطريقة الماوية. في هذا الإطار، فإن خصائص التكنولوجيات الرقمية من حيث كونها تنمو بشكل سريع جدّاً، ومن حيث إمكانية مزجها وتركيبها وإعادة تركيبها بشكل لامتناهٍ، يمكن أن تُعطي فرصاً، لربّما لامتناهية أيضاً، لحلّ معضلة بطالة الشباب في العالم العربي التي تصل إلى أكثر من 30%. هنا سأتقدم بأربع طروحات، إضافة الى اقتراح حول هذا الموضوع.

الأطروحة الأولى: التعليم أو التعلّم ليس الحلّ لكلّ شيء
يُمكن القول إننا نستطيع أن نعمّم التجربة الفنلندية على جميع الشباب في المنطقة العربية، وهذا في حدّ ذاته أمر جيّد، بل ممتاز. لكن السؤال: هل التعلّم الإضافي يكفي؟ أو بشكل آخر، هل التعلّم هو الحلّ لكلّ الأمور؟ إنه يبدو كذلك لدى البعض. فكم من محاضرة أو بحث حول التنمية انتهت إلى القول بأنه لو يتعلّم الشباب أكثر فإن اللحاق بالدول المتقدّمة سيحصل أوتوماتيكياً. طبعاً، الأمر أعقد من ذلك بكثير. ففي المنطقة العربية، مثلاً، التعليم يَسبق التكنولوجيا وخلق الوظائف. وخلافاً للاعتقاد الشائع، فإن عدم التناظر في المهارات، لا ينبع من عدم وجود عمّال مهرة، بل في عدم وجود مؤسّسات توظّف المهارات الموجودة، أي أن الشباب العربي الماهر يواجه اقتصاداً لا يطلب العمالة الماهرة. لهذا نرى ازدياد أعداد البطالة والبطالة المُقنّعة بين أصحاب المهارات ومتخرّجي الجامعات. من هنا، فإن التعلّم أكثر قد يكون له آثار سلبية، وإن تزويجه مع التكنولوجيات الرقمية دونه الكثير من المتطلّبات المسبقة.
يتطلّب بناء نظام أيكولوجي للتكنولوجيا الرقمية، أن تقوم الدولة بعملية تحويل ضخمة لريع النفط والغاز إلى رأس مال تكنولوجي


الأطروحة الثانية: التكنولوجيا ليست خطّية وتأثيراتها متعدّدة
على المدى الطويل، سَتُحدث التكنولوجيا الفرق الجذري، ويمكن أن نقتبس ماركسياً من مقولة كينز الشهيرة عن التقدّم التكنولوجي «أننا في المدى الطويل سنكون كلّنا في المجتمع الشيوعي». ولكن، على المدى القصير، سيكون للتكنولوجيات الرقمية تأثيراتها السلبية، مثلاً على البطالة وتوزيع الدخل. فكما يذكر إريك بريانيولفسون وآندرو مكآفي، فإن الأسواق الرقمية لديها خاصية «الرابح يأخذ كلّ شيء» أو أنها أسواق السوبر ستار (شبيهة بأسواق الرياضة والنجومية الفنية). وعلى عكس الأسواق التقليدية، فإن العائد على العمل يقفز بشكل كبير عند حدوث فارق، ولو ضئيل، في نوعية العمل بين شخص وآخر. فمثلاً مُبرمِج الكمبيوتر الذي يخترع تطبيقاً أفضل قليلاً من غيره من المبرمجين يستطيع أن يسيطر على السوق كلّها، ويؤدّي إلى فوارق كبيرة بينه وبين الآخرين. وهذا يفسِّر لماذا تشير الدراسات إلى أنه حتّى الآن، 4% فقط من المبرمجين حقّقوا دخلاً أعلى من مليون دولار، بينما 75% حقّقوا أقل من ثلاثين ألف دولار. وكذلك تفسر لماذا نرى الأعداد الهائلة من التطبيقات التي لا قيمة سوقية لها، بينما قلّة هي مُسيطرة على الأسواق.
من هنا، يعدّ الاعتماد على الريادة بين الشباب العربي محفوفاً بالمخاطر الكبيرة. كما أن التنافس لن يكون فقط في ما بينهم، بل في ما بينهم وبين مخترعي التطبيقات في أنحاء العالم، إذ يستطيع مُنتج واحد، أو موقع واحد، أن يلبّي طلب الملايين حول العالم مدعوماً بانخفاص الكلفة الحدّية للإنتاج إلى الصفر. وعندما يصل أي شخص إلى السيطرة على السوق، لا يستطيع أن ينافسه أحد بواسطة الأداة التقليدية للأسواق الحرّة، أي عبر خفض السعر، وذلك بسبب الكلفة الصفرية، وهنا يحدث «تعطّل للأسواق». وفي ظلّ هذا الوعاء التكنولوجي ــــ المؤسّساتي، تظهر الاحتكارات وشبه الاحتكارات، وهذا ما نشهده اليوم في غوغل وفيسبوك وغيرها، بالإضافة إلى العمالقة القدامى مثل آبل ومايكروسوفت وIBM، ولذلك نرى استحواذاً متزايداً من قِبَل الكبار على الصغار والشركات الناشئة بشكل مستمرّ. كذلك يحدث أمر آخر في هذه الأسواق له تأثير سلبي على التوظيف فيها، إذ إن نسبة القيمة السوقية إلى عدد العمّال ترتفع. واتسآب مثلا لديها 55 موظفاً فقط وقيمتها السوقية تبلغ 19 مليار دولار. وبشكل عام، الشركات الكبرى اليوم المماثلة لأكبر أربع شركات في عام 1964 من حيث قيمتها السوقية، لديها ربع عدد الموظّفين.

الأطروحة الثالثة: الأرقام والأحجام مهمّة
إن الفكرة السائدة حول «البطل المتوحّد» الذي يمثّل الريادي المستقبلي أمامها كل تلك المعوقات السابقة، ولن تكون الحلّ لعشرات الملايين من العمّال غير النظاميين، الذين يشكّلون نحو 50% من القوى العاملة في المنطقة العربية، والذين ينضمّ إلى صفوفهم سنوياً من المتعلّمين أكثر بكثير من الذين ينضمّون منهم إلى الريادية والشركات الناشئة. كما أن غالبية العمالة الماهرة في العالم العربي تعمل في القطاعات الخدماتية، من تعليم وصحّة ومال وغيرها، وفق المنتدى الاقتصادي العالمي. كما أن حجم الاستثمارات الناشئة في القطاع الرقمي بين 2013 و 2018 بلغ نحو 3.2 مليارات دولار، هي متدنّية جدّاً لتحدث فرقاً في حصّة القطاع في الاقتصادات العربية أو في زيادة العمالة بين الشباب. أخيراً، إن درجة الفشل في هذه الاستثمارات عالمياً، تبلغ نحو 70 إلى 90%، وبالتالي هي محفوفة بالمخاطر بشكل كبير. إذاً الأرقام على جميع الصعد هي منحازة ضدّ التفاؤل.

الأطروحة الرابعة: الرأسمالية الريعية ليست صديقة للتكنولوجيا المُنتجة
الرأسمالية في المنطقة العربية هي رأسمالية ريعية، وفي أحسن أحوالها، خدماتية. وهذا يعكس نفسه على قابلية الاقتصادات العربية على إنتاج واستيعاب هذه التكنولوجيات. ففي هذه الرأسمالية، يُنْظَر إلى التكنولوجيا من ناحية استهلاكية فقط، أي كيف نستعملها من أجل اختراع «تطبيقات» أكثرها في مجال الخدمات. وهذا يتجلّى في استعمالات التكنولوجيا الأكثر شيوعاً، فبدلاً من أن نزور المطعم نطلب الطعام عبر التطبيقات، وبدلاً من أن نؤشّر للتاكسي نطلب أوبر، وبدلاً من أن نطلب من الأقارب أو الجيران المساعدة في حضانة الأطفال، هناك تطبيق للقيام بهذه المهمّة، إلخ. وبدلاً من استعمال الوقت المُوفّر من أجل زيادة الإنتاجية، فإن الاستعمال الأكبر له هو في الألعاب والتواصل الاجتماعي ومشاهدة البرامج والمسلسلات. وبذلك، يتمّ إهمال «الصروح العالية أو المُسيطرة» لهذه التكنولوجيات، أي في الآلات ونظم البحث وأنظمة البرامج الحاسوبية والحواسيب والشبكات المعلوماتية الكبرى.
وفق تقرير «عرب نت» لحالة الاستثمارات الرقمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بلغ عدد الاستثمارات بين الأعوام 2013 و2018 في مجال التكنولوجيا نفسها 19% من مجمل الاستثمارات، أي تلك المُستثمرة في البرامج والنظم وغيرها، بينما كانت قيمتها 10% من مجمل الاستثمارات. وذهبت حصّة الأسد للاستثمارات في مجال التبادل، أي تكنولوجيات تبادل السلع والخدمات وغيرها (36% من العدد و71% من القيمة الإجمالية)، ما يؤشّر على تركّز الاستثمارات بعيداً من إنتاج التكنولوجيا الرقمية ونحو استهلاكها فقط. وهنا بدلاً من أن تكون التكنولوجيا الحديثة مُحفّزة للعمالة الماهرة والنظامية، تُضيف إلى جيش العاملين لأنفسهم، ألوية من العاملين الجدد المُدارين من قبل «التطبيقات الخدماتية» مثل السوّاقين والمُوَصّلين ومقدّمي الخدمات والأعمال الجزئية وإلى ما هنالك... فينقسم المجتمع إلى أقلية تملك وأقلية أخرى ماهرة، بأكثريتها تعمل في الخارج أو للخارج، وإلى أكثرية تعمل على الهامش حتّى في مجالات التكنولوجيا الحديثة.

دور الدولة الريادي والاستثمارات الضخمة
المطلوب اليوم أن نبقي على زخم الريادة والاستثمارات الناشئة، ولكن هذا لن يكون كافياً ليحدث فرقاً يُذكر في التطوّر التكنولوجي أو في استعمال القوى الماهرة في المنطقة العربية. وهنا يأتي دور الدولة الريادي والاستثمارات الضخمة، التي تُفكك بعض ما تقدّم من معوّقات وتَستَغلّ الريع من أجل إقامة القاعدة المادية المؤسّساتية للتكنولوجيات الرقمية. فعندما تقرأ أدبيات أو تحضر فعاليات الريادة والشركات الناشئة، فإنك تلاحظ أن مفهوم النظام الأيكولوجي للتكنولوجيا مستعمل كثيراً، ولكن مفهوم قليلاً. فالنظام الأيكولوجي هو ليس المجموع الحسابي لهذه الشركات والاستثمارات، بل هو نظام تشابكي فعلي بينها، لأن الريادة في الرأسمالية هي ليست فقط ريادة الفرد، بل ريادة، إلى حدّ كبير، جماعية. وبالتالي إن بناء النظام الأيكولوجي يتطلّب استثمارات من قبل الدولة في إقامة شبكات التواصل وتبادل المعلومات بين الشركات، وفي التدريب المختصّ، وفي إقامة الطلب على المنتجات وفي تَحَمُّل المخاطر العالية. وهنا، يعدّ تمويل الدولة للأبحاث في «الحوسبة الكمّية» في الإمارات العربية المتّحدة مثالاً على ذلك. لكن المطلوب أكثر هو استثمارات ضخمة، ومن ضمنها المموّلة من الصناديق السيادية المنبثقة من ريع النفط والغاز (أو تحويل ضخم للريع إلى رأسمال تكنولوجي رقمي)، وليس الاعتماد على الرأسمال المجازف فقط، وليس فقط في الدول الخليجية حيث تتركّز حالياً 75% من الاستثمارات. عندها فقط يمكن للتكنولوجيا الرقمية أن تقوم بدور في التطوّر الاقتصادي للمنطقة العربية وفي تحقيق الرفاه للملايين من الشباب. وأي شيء أقل من ذلك يبقى وهماً.

من محاضرة أُلقيت في مؤتمر «عرب نت ــــ 2019» في بيروت في 13 حزيران/ يونيو الجاري.