وفق تقديرات البنك الدولي، لم يحقّق الناتج المحلّي الإجمالي في لبنان في عام 2017 نموّاً حقيقياً بأكثر من 0.7%، بينما تدنّت نسبة النموّ إلى 0.2% في عام 2018، وهو ما يعبّر بوضوح عن آثار تأزّم الوضع المالي على القطاعات الاقتصادية المختلفة. إلّا أن أرقام عام 2019، حتّى الآن، توحي بما هو أخطر، إذ ثمّة ما يكفي من مؤشّرات تدلّ على دخول لبنان مرحلة انكماش اقتصادي (أي «نموّ سلبي»)، بما يعني عمليّاً تراجع حجم الناتج المحلّي الحقيقي خلال هذه السنة.يتعقّب مصرف لبنان مجموعة من الإحصاءات التي يقوم من خلالها بتتبّع نشاط الاقتصاد الحقيقي في لبنان، ويقوم بتلخيصها في النهاية في مؤشّر واحد يُعرف بالمؤشّر الاقتصادي العامّ (BDL Conincident Indicator). ومن خلال تطوّر هذا المؤشّر العام، يمكن أخذ صورة إجماليّة عن أداء الاقتصاد المحلّي خلال فترة معيّنة من الزمن. كما يمكن أخذ فكرة عن مكامن التراجع في الاقتصاد المحلّي من خلال تتبّع كلّ من الإحصاءات التي تدخل في احتساب نتيجة المؤشّر بشكل منفرد.
ووفق هذه الأرقام، بدأ المؤشّر بإظهار أولى علامات التراجع مع انخفاض نسبة نموّه بين عامي 2017 و2018 من 5.6% إلى 0.6%، وهو ما توازى مع تراجع نسبة النموّ الاقتصادي وانفلاش آثار التأزّم المالي على القطاعات الاقتصادية. إلّا أن الخطير في عام 2019، هو تسجيل هذا المؤشّر - وللمرّة الأولى منذ بداية الأزمة في عام 2011 - نسبة تغيّر سلبي، بمعدّل -4.3% خلال الأشهر الأربعة الأولى من السنة، وهو ما يعكس حجم التراجع الكبير الذي يطال اليوم مختلف قطاعات الاقتصاد الحقيقي، وبشكل قياسي، بما يشير إلى دخول لبنان مرحلة انكماش لناتجه المحلّي بدلاً من تسجيل معدّلات نموّ.


فمن أصل 11 بنداً ضمن معادلة احتساب المؤشّر، سجّلت سبعة بنود تراجعات مُعتبرة بالمقارنة مع السنوات السابقة، وهي تراجع حجم الشيكات المُحصّلة بنسبة 13%، وحجم البضائع العابرة على المرفأ بنسبة 12.5%، بينما تراجعت مبيعات السيّارات بنسبة 20.4%، والمبيعات العقاريّة بنسبة 16.2%، ورخص البناء الجديدة بنسبة 32.8%، وحجم تسليمات الباطون بنسبة 35.7%، أمّا مستوى إنتاج الكهرباء فتراجع بنسبة 0.7%. أمّا أبرز البنود التي شهدت نموّاً في هذه الفترة فكانت تلك المرتبطة بالقطاع السياحي، وتحديداً عدد السيّاح وعدد الوافدين عبر مطار بيروت اللذين ارتفعا بنسبة 3.7% و3.5% على التوالي.
وبعيداً من آثار هذا الانكماش على القطاعات الاقتصادية المختلفة، تشير تحوّلات هذا المؤشّر إلى مشكلة كبيرة في طريقة تعامل أصحاب القرار في لبنان مع هذا النوع من المشاكل. فهذه الأرقام التي تدلّ على انكماش مُرتقب في الناتج المحلّي هذه السنة، تطرح أسئلة فعليّة عن الفرضيّات التي تمّ اعتمادها عند تحديد عجز الموازنة المُستهدف كنسبةٍ من الناتج المحلّي، والذي حدّده أخيراً رئيس الحكومة بنسبة 7.59% كحدّ أقصى. إذ أنّ هذه النسبة المُستهدفة ترتبط من جهة بحجم العجز، ومن جهة أخرى بحجم الناتج المحلّي وبالتالي نسبة نموّه المتوقّعة. وفي نصّ التقرير الذي عُرِض أمام مجلس الوزراء كمقدّمة لمشروع موازنة عام 2019، تمّ افتراض وصول نسبة نمو الناتج المحلّي إلى مستوى 1.2%، أي ستّة أضعاف نسبة النموّ المُسجّلة في العام الماضي، بينما لا يبدو وفق كل المؤشّرات الموجودة (ومنها المؤشّر الاقتصادي العام لمصرف لبنان) أن نسبة النموّ ستفوق نسبة السنة الماضية بهذا الشكل.
في كلّ الحالات، لا يقتصر تخبّط السياسات الرسمية على مسألة تحديد نسبة العجز. فمع استمرار مصرف لبنان في سياسة رفع الفوائد وحبس السيولة لديه من خلال الهندسات المالية، وبفعل إحجام المصارف عن منح التسليفات كنتيجة لذلك، ومع اتجاه السياسات الحكومية نحو التقشّف المُشدَّد، من الطبيعي أن تستمرّ الأسواق في السير بهذا المنحى الانكماشي، وهو ما يعكس بوضوح عبثيّة هذه السياسات في التعاطي مع الأزمة، وعدم وجود تصوّر واضح لكيفيّة التعامل معها.