«حاول أن تكون راديكالياً بمقدار الواقع نفسه»
فلاديمير لينين


في بداية التسعينيات، بعد نهاية الحرب الباردة، وُلِدَ وهمٌ بأن القضية الفلسطينية سيتمّ حلّها بواسطة زخم صعود عصر الليبرالية الغربية وبدء نهاية التاريخ، فتنسحب إسرائيل من الأراضي التي احتلّتها عام 1967 وتقام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. بل أكثر من ذلك، فإن توليفة التنمية الاقتصادية والتعاون بين الدول والسلام كان مقدّراً لها أن تعمّ المنطقة، بالإضافة، بالطبع، إلى تعميم الديموقراطية. في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» الذي صدر عام 1993، جسّد شيمون بيريز هذه الرؤية الاقتصادية، واعداً بمستقبل زاهر للمنطقة. اليوم كلّ هذا انتهى، بشكل تراجيدي، والعالم ينظر إلى حطام هذه الرؤية ومعها حطام حلّ الدولتين، وحطام الديموقراطية والازدهار والسلام، وحطام «الإنسان الأخير» لفرانسيس فوكوياما، أو الإنسان «العقلاني»، الذي كان مقدّراً له أن يكون محصناً من الغوص مجدّداً في أوحال التاريخ والتطرّف والقومية والإمبريالية والصراعات الإثنية والطبقية، عبر التقدّم العلمي والتكنولوجي والرفاه الاقتصادي والمادي، الذي تؤمّنه الرأسمالية الليبرالية.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

المفارقة أنه في وسط هذا الحطام تعود الإدارة الأميركية اليوم بكل سطحية بنسخة «مسخ» للمشروع الأوّل، أسمتها «صفقة القرن»، التي ككلّ صفقات الرئيس الأميركي ترامب عندما كان في مجال الأعمال، ليست فقط فاشلة بل وُلدت ميّتة. العناوين التي أفصحت عنها الإدارة الأميركية الأسبوع الماضي تتضمّن مشاريع وخططاً تبدو مأخوذة من كراسة، من صنع شركات الدعاية السطحية، لجذب الاستثمار الخارجي في دولة متدنّية الدخل، أكثر منها خطة جدّية للسلام، حتّى لو كانت مُنحازة. وكما يُقال الرسالة تُقرأ من عنوانها، فنظرة سريعة إلى عناوين هذه «الصفقة» ترينا مدى ضحالتها، وحتّى عدم جدّية من يطرحها، وكما نهاية الثامن عشر من بروميير ستنتهي بمهزلة مقارنة بنهاية سالفتها التراجيدية. إذاً ترامب اليوم مثل لوي بونابرت، ما هو إلّا «بارودياً»، أو محاكاة ساخرة، لما سبقه ولما يمكن أن يكون عليه ما سُمي لفترة طويلة، ولا أحد يعلم لماذا، «راعي السلام الأميركي».

أميركا إلى Mad Max
سقط مشروع «الشرق الأوسط الجديد» الأوّل ليس فقط، بسبب طبيعة الحركة الصهيونية وتحوّلها الحتمي إلى اليمين والعنصرية وإقامة نظام الفصل العنصري، بل أيضاً بسبب تحوّل الولايات المتّحدة الأميركية في مرحلة معيّنة من «إمبريالية كلاسيكية»، ومن قطب في الحرب الباردة المُنظّمة، إلى إمبريالية مدمّرة وعسكرتارية. ابتدأت جذور هذا التحوّل مع رونالد ريغان، الذي شنّ هجوماً غير مسبوق على الاتحاد السوفياتي وقسّم العالم (قبل أسامة بن لادن) إلى جزءين بين الخير والشر، وأضحى بذلك الاتحاد السوفياتي «إمبراطورية الشرّ». أدّى ذلك إلى تدحرج كرة من الثلج أنهت الحرب الباردة. في هذا الإطار، أتت إدارة كلينتون بين 1993 و2001 في المرحلة الانتقالية بين ريغان وبوش الأب، وبين مرحلة المحافظين الجدد، أي في مرحلة «خلو العرش»، فحاولت تجسيد «نهاية التاريخ» في الشرق الأوسط أيضاً، فكانت مدريد وأوسلو. كلّ هذا انتهى بعد 11 أيلول/ سبتمبر واجتياح العراق وأفغانستان حيث أصبح الشعار الأميركي «أتيت، دمّرت، ذهبت».

... إسرائيل إلى الآبارثايد وفلسطين إلى «المناطق»
في تموز/ يوليو 2018، أقرّ الكنيست الإسرائيلي ما عُرف بالقانون الأساسي، الذي أعلن أن إسرائيل هي الدولة الوطنية للشعب اليهودي. وبذلك أعلنت إسرائيل عن نفسها كدولة آبارثايد وخلعت عنها كلّ الأقنعة والرداءات الديموقراطية التي رافقتها منذ تأسيسها في عام 1948. وهذا الإعلان، بعد 70 سنة من حروب عديدة وقيام حركة وطنية فلسطينية مسلّحة، أتى على خلفية استمرار فلسطين ليس فقط محتلّة بل مقسّمة. فالمناطق خارج السيطرة الإسرائيلية المباشرة، مقسّمة بين مناطق السلطة الفلسطينية التي أصبحت «أراضي» من دون سيادة معتمدة على المساعدات الخارجية والريوع العربية والغربية للبقاء، ويتزايد فيها عدم المساواة ويتفشّى الفساد والتوظيف الإداري والاستلاب في العمل والحياة اليومية، وبين قطاع غزة الذي تحرّر من سجن الاحتلال ليدخل سجن الفقر المدقع والبطالة والشلل السياسي والاجتماعي والثقافي. في هذا السياق وضمن هذا الواقع، أعلنت إسرائيل «يهودية الدولة» في أكثر المشاريع عنصرية منذ ألمانيا النازية ونظام الفصل العنصري البائد في جنوب أفريقيا.

... وترامب يحاول صرف (cashing in) ماد ماكس
بينما كانت أميركا تشنّ الحروب في هذه الفترة، كانت العولمة تأخذ مجراها وتُحدث التغييرات العميقة في الاقتصاد العالمي وفي الاقتصادات الوطنية على المستويات الكمّية والتكنولوجية وتوزيع الدخل والثروة. الولايات المتّحدة، كدولة، وليس كشركات، دخلت العولمة ليس فقط كالمنتصر في الحرب الباردة، بل كالمارد الذي يحاول السيطرة المباشرة ويمارس الانتقام واستعمال القوّة العسكرية البحتة. واصطدمت هذه العسكريتارية الفائقة مع هذه العولمة، التي أصبحت الشكل «الديموقراطي» للإمبريالية الفائقة التي قدّم لها كارل كاوتسكي في بداية القرن العشرين. وفي خضمّ كلّ هذا، صعدت الصين أيضاً بشكل لم يتوقّعه الأميركيون، والذي زاد الطين بلّة أن العملاق الاقتصادي الصيني لم يدخل المنظومة السياسية الرأسمالية، فكانت الصدمة الكبرى لكلّ الذين نظّروا حول نهاية الحكم الشيوعي والاشتراكية هناك. كما اصطدمت هذه العسكريتارية الفائقة مع أوروبا التي لم تُرد أن تبقى إمبريالية، والتي وجدت نفسها في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، وشعوبها تريد أن تعيش حياة رفاه واستقرار (في هذا الإطار جاء كلام وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد حول أوروبا القديمة). وهكذا بدأت أميركا تخسر اقتصادياً من حروبها وتخسر اقتصادياً في السباق بينها وبين الصين وبدأ محور الجاذبية الاقتصادي، وحتّى التكنولوجي، يتّجه شرقاً أكثر وأكثر.
يجب أن تقارب القضية الفلسطينية من موقع البناء الحثيث للقوة الاقتصادية والتكنولوجية في المنطقة لإحداث التغيير


إذا كان دائماً هناك خلال فترة ما بعد الحرب الباردة، توتّر خفي بين العولمة وبين أميركا العسكريتارية، وانفجر هذا التوتر اليوم بعد أن تبيّنت مفاعيل هذه العولمة، ومن ضمنها انفصال رأس المال العالمي عن الدولة الوطنية الذي يحاول ترامب إعادته إلى «أميركا العظمى». وهكذا تصطدم أميركا مع العولمة، وبهذا الاصطدام، بدأ العالم الآن يعود إلى مرحلة شبيهة بالإمبريالية في بدايات القرن العشرين، وعلى رأسها عودة الصراعات بين الدول على الصعيد العالمي.
وفي هذا السياق، يمكن فهم الترامبية، فهي ليست فقط «جنوناً» أميركياً جديداً، وإنّما خطّة لتقويض العولمة كما نعرفها، ابتدأت مع رفع إدارة ترامب شعار «جعل أميركا عظيمة مرّة أخرى»، وأعلنت من بعدها الحمائية والقومية الاقتصادية، ومن ثمّ الحرب التجارية وكلّ ذلك من أجل الكسب الاقتصادي ومحاولة إعادة السباق بين أميركا والصين إلى خطّ الانطلاق. وفي الشرق الأوسط، تريد إدارة ترامب أن تحوّل آثار «الإمبريالية العسكريتارية» إلى منفعة اقتصادية للولايات المتّحدة، فترامب في هجومه على المحافظين الجدد وسياساتهم في العراق وأفغانستان، عابهم لأنهم لم يستولوا على النفط في العراق وعلى الموارد الطبيعية في أفغانستان. وهذا صحيح، فكلفة حرب العراق على الولايات المتّحدة ككلّ لم يُقابلها «سرقة» للنفط العراقي كما يعتقد الكثيرون. بل هي أفادت الشركات الكبرى والمجمع الصناعي العسكري. ويحاول ترامب اليوم أن يحوّل الحروب السابقة إلى منفعة اقتصادية لأميركا عبر التهديد والابتزاز وبيع السلاح وقبض الأتاوات وتسخير السياسة الخارجية للولايات المتّحدة في الشرق الأوسط لهذه الأغراض. طبعاً، هذا الأمر ليس سهل المنال، فالحروب حصلت وانتهت والأميركيون يتعاملون مع واقع ما بعدها.

لكن «القوّة المادية لا تسقط إلّا بالقوّة المادية»
في خضم هذه التحوّلات، فإن مواقع الدول العربية فرادى ومجتمعة أصبحت هشّة، وبالتالي فإن القضية الفلسطينية يجب أن تقارَب من موقع البناء الحثيث للقوة الاقتصادية والتكنولوجية في المنطقة العربية من أجل إحداث التغيير على المدى طويل الأمد في موازين القوى، فكما قال ماركس: «القوة المادية لا تسقط إلّا بالقوّة المادية». وهنا ملاحظات عدّة سريعة في هذا الإطار:
أوّلاً، إن نظام الفصل العنصري في فلسطين أدّى إلى انتهاء حلّ الدولتين، فأصبح الصراع الآن على عموم فلسطين التاريخية، كما أن الرهانات السابقة بين الداخل والخارج فشلت، كما فشلت العودة الجزئية في الضفة وفشل الانفصال الجزئي في غزة. من هنا يجب أخذ العبر من جنوب أفريقيا حيث حركتها التحرّرية زاوجت بين العمل المسلّح والعمل الجماهيري والوطني والعمّالي، فقاومت الفصل العنصري وأسقطته من الداخل وأسقطت جيشه الذي كان أيضاً «لا يُقهر».
ثانياً، إن بناء القوّة المادية ضمن مشروع عربي تحرّري يهدف إلى تحرير الإنسان العربي من ثلاث تهدِّده: التخلّف الاقتصادي وعدم المساواة؛ التفتيت المذهبي؛ والأنظمة السياسية المتحجّرة، هو السبيل الوحيد لوقف المسار الانحداري لمقترحات الحلول العالمية للقضية الفلسطينية، من قرار تقسيم فلسطين إلى 242 إلى أوسلو إلى «باروديا» صفقة القرن.
ثالثاً، إذا كانت الحرب الكلاسيكية هي وسيلة لفرض حلّ الدولتين، فالانتصار في هذه الحروب، يتطلّب تفوّقاً اقتصادياً ومادياً وسياسياً وتكنولوجياً. فحالياً، ما كان يسمّيه السوفيات علاقة القوى (correlation of forces) هو منحاز إلى إسرائيل. وفي هذا الإطار أيضاً، فإن الذي يقرأ الصراع العربي - الإسرائيلي سابقاً خارج سياق الحرب الباردة يرتكب خطأ كبيراً، فغياب قوّة كبرى مثل الاتحاد السوفياتي، الذي كان الداعم الأساسي للدول العربية والمقاومة الفلسطينية، يزيد من هذا الانحياز بشكل كبير.
رابعاً، كان النفط، بالإضافة إلى الاتحاد السوفياتي، مكمن القوة الثاني في السابق، حيث كان التهديد باستخدامه بشكل سلبي، مثل حظر النفط خلال حرب 1973، يعطي قوّة للعرب. هذه القوّة أيضاً انتهت، فالولايات المتّحدة لم تعد تعتمد على النفط الخليجي وغالبية النفط الخارج من الخليج يذهب إلى آسيا الآن. ولكن النفط يمكن أن ينتقل من قوة سلبية إلى قوة إيجابية إذا تمّ استخدامه في بناء الاقتصادات العربية، عبر تحويله إلى تراكم للرأسمال وللتقدّم التكنولوجي، وبالتالي المساهمة في تغيير علاقة القوى.
المسألة المطروحة الآن إذاً، هي ليست إسقاط صفقة القرن، لأن لا وجود مادياً لها. إن صيغة الأمر (imperative) اليوم هو تغيير مسار القضية الفلسطينية الحالي، والالتزام بما يمكن أن يُطلق عليه «رهان القرن» لبناء دولة واحدة ديموقراطية علمانية في فلسطين التاريخية. ولكن لتحقيق ذلك يجب تغيير الواقع المادي والفكري للصراع، والتحضير لمعركة طويلة الأمد قد تأخذ أشكالاً مختلفة. عندها فقط يمكن هزيمة الإمبريالية الأميركية وإنهاء نظام الفصل العنصري في فلسطين.