للدولة دور اجتماعي تنموي في محاربة البطالة والفقر والمرض والأمّية. فإذا نجحت في السيطرة على البطالة، ضمنت نجاحها في مكافحة الفقر والمرض والأمّية. إذاً، البداية في كبح جماح البطالة أو في وضع سياسة استثمارية مبنية على بيئة ضريبية واستهلاكية وإدارية وخدماتية مُحفّزة للمبادرات الاستثمارية في شتّى المجالات، وخصوصاً في حقل الإنتاج الصناعي. إن الرسوم والضرائب التي تطاول الصناعة متنوّعة وعديدة: الرسم الجمركي، ضريبة القيمة المضافة، الرسوم على المحروقات، الضريبة على الربح وعلى توزيع الأرباح، والرسوم الإدارية الأخرى المُتعلّقة ببوّابات العبور (كالمرفأ والمطار والمعابر البرّية) والمتعلّقة بإنجاز المعاملات الإدارية الرسمية.
لا يُنظر إلى الضريبة عموماً كأداة لجمع المال للخزينة المركزية فحسب، بل كوسيلة لتحريك العجلة الاقتصادية وحفز النموّ الاقتصادي، وأيضاً لتحقيق العدالة الاجتماعية بواسطة تطبيق المساواة أمام الضريبة والمساواة بواسطتها، وأخيراً لتأمين الواردات المالية للخزينة وفي الموازنة الرسمية. لذلك فإن جملة الضرائب التي تخضع لها الاستثمارات المختلفة في لبنان، وخصوصاً في المجال الصناعي يجب أن تراعي تلك الشروط.
أمّا الرسوم التي من أهمّها الرسم الجمركي، وخصوصاً الرسوم الإدارية المتنوّعة الأخرى، فيجب أن تتّصف بنسب معتدلة للمحافظة على القدرات التنافسية للصناعات المحلّية.
للرسم الجمركي سبب وغاية يغيبان عن بال حكوماتنا. السبب هو الإغراق والاستيراد البخس، أمّا الغاية فهي محاربة البطالة وحماية اليد العاملة المحلّية. واجب الدولة أن تمنع السلع الإغراقية البخسة الثمن والمستوردة التي تنافس بغير تكافؤ الإنتاج المحلّي، وواجبها أيضاً المحافظة على قوّة العمل الوطنية من المنتجات المستوردة التي تقلّ فيها كلفة اليد العاملة في بلد منشئها عن تلك المبيّنة في البلد المستورد.
لذلك، أصبح واقعاً للرسم الجمركي سبب وغاية، يسمحان بتحديد أفضل نسبة له من أجل تحقيقهما. وبما أن متوسّط كلفة اليد العاملة في جملة أكلاف الإنتاج عموماً هو ثلثها، فيحب أن تتراوح حينها الرسوم الجمركية بين 30% و40% من قيمة فواتير المستوردات. والفرق بين الرسم الجمركي على القيمة والرسم على النوع، أن الدولة بواسطة الرسم على النوع تميّز بين المستوردات عندما تقسّمها بين كماليات ومنتجات للاستهلاك الواسع ومستوردات للفئات الاجتماعية المحدودة الدخل.
بما أن متوسّط كلفة اليد العاملة في جملة أكلاف الإنتاج هو ثلثها، يحب أن تتراوح الرسوم الجمركية بين 30% و40% من قيمة المستوردات


ما قرّرته حكومتنا في عامي 2000 و2019 في لبنان، هو رسوم جمركية لا سبب لها ولا غاية. ففي سنة 2000 خفّضت الحكومة، آنذاك، وبصورة دراماتيكية الرسوم الجمركية على غالبية المستوردات من الخارج من متوسّط 40% إلى متوسّط 5% باسم تحرير التجارة الدولية وخفض الكلفة الداخلية للمعيشة. فكانت النتيجة أن أقفلت آلاف المؤسّسات الصناعية التي تعمل للأسواق الداخلية، وتمّ تسريح عشرات الآلاف من الموظّفين والعمّال بسبب عدم قدرة الإنتاج المحلّي على منافسة مستوردات من دول تقلّ فيها كلفة اليد العاملة عن كلفتها في لبنان. ففقد كلّ هؤلاء قدرات الاستهلاك، ولم يفيدوا تالياً من انخفاض كلفة المعيشة كما ادّعت الحكومة آنذاك، بحيث لم تنخفض في الواقع كلفة المعيشة بسبب الاحتكارات الكبيرة في الاقتصاد الصغير وبسبب الحصريتين الداخلية والخارجية للتمثيل التجاري. أمّا حكومة 2019 فقد اقترحت زيادة الرسم الجمركي 2% ليصبح بمتوسّط 7% من دون سبب أو غاية اقتصادية، إلّا سبب وهدف تأمين واردات مالية إضافية في موازنة عامّة متهاوية ومتصدّعة من أجل منعها من الانهيار، ومنع المالية العامّة أيضاً من السقوط، غافلة واقع الانكماش الاقتصادي الذي يمنع تحقيق موازاة بين زيادة الرسم وزيادة التحصيل.
وتأكيداً على أهمّية حصّة اليد العاملة في كلفة الإنتاج والبطالة بنسبتيهما كمرجع لتحديد نسبة الرسم الجمركي، فتبيّن ذلك جلّياً من طريقة احتساب القيمة المضافة المُحقّقة داخل المؤسّسة الصناعية. فعند حساب القيمة المضافة يتمّ تنزيل، من قيمة المبيعات، القيمة الإجمالية لكلّ العناصر التقنية الأوّلية للإنتاج مثل المواد الأوّلية والطاقة ومواد التغليف والنقل واستهلاك التجهيزات وغيرها، ما عدا اليد العاملة. فعند الحصول على القيمة المضافة تتوزّع، عندئذٍ، بين فئتين أساسيتين في المؤسّسة الصناعية: اليد العاملة والمستثمرين، أو الأجور والأرباح.
وعدالة التوزيع تقضي بتوزّع القيمة المضافة المُحقّقة بين مكافأة قوّة العمل أي مستويات الأجور ومكافأة رأس المال أي المساهمين. وهما الفريقان اللذان لا بدّ منهما لعمل منتظم للمؤسّسة ولديمومتها وازدهارها.
هذا هو الرسم الجمركي، وهذه مقاربته الكاملة، وما عدا ذلك تخبّط وتلمّس وتعثّر وأذى وارتجال.

* اقتصادي، صناعي